و " الرسول " ما ضل وما غوى و " الضلال " مقرون بالغي ; فكل غاو ضال ; والرشد ضد الغي والهدى ضد الضلال وهو مجانبة طريق الفجار ، وأهل البدع كما كان السلف ينهون عنهما . قال تعالى : { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } .
[ ص: 569 ] و " الغي " في الأصل : مصدر غوى يغوي غيا ; كما يقال : لوى يلوي ليا . وهو ضد الرشد كما قال تعالى : { وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا } .
و " الرشد " العمل الذي ينفع صاحبه والغي العمل الذي يضر صاحبه فعمل الخير رشد وعمل الشر غي ; ولهذا قالت الجن : { وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا } فقابلوا بين الشر وبين الرشد وقال في آخر السورة : { قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا } ومنه " الرشيد " الذي يسلم إليه ماله . وهو الذي يصرف ماله فيما ينفع لا فيما يضر . وقال الشيطان : { لأغوينهم أجمعين } { إلا عبادك منهم المخلصين } وهو أن يأمرهم بالشر الذي يضرهم فيطيعونه كما قال تعالى : { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي } وقال : { وبرزت الجحيم للغاوين } إلى أن قال : { فكبكبوا فيها هم والغاوون } { وجنود إبليس أجمعون } وقال : { قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } وقال : { ما ضل صاحبكم وما غوى } .
ثم إن " الغي " إذا كان اسما لعمل الشر الذي يضر صاحبه فإن عاقبة العمل أيضا تسمى غيا كما أن عاقبة الخير تسمى رشدا كما [ ص: 570 ] يسمى عاقبة الشر شرا وعاقبة الخير خيرا ; وعاقبة الحسنات حسنات ; وعاقبة السيئات سيئات . " فالحسنات والسيئات " في كتاب الله يراد بها أعمال الخير ، وأعمال الشر كما يراد بها النعم والمصائب والجزاء من جنس العمل فمن عمل خيرا وحسنات لقي خيرا وحسنات ومن عمل شرا وسيئات لقي شرا وسيئات . كذلك من عمل غيا لقي غيا وترك الصلاة ، واتباع الشهوات غي يلقى صاحبه غيا . فلهذا قال الزمخشري : كل شر عند العرب غي وكل خير رشاد .
كما قيل :
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وقال الزجاج : جزاؤه غي ; لقوله : { يلق أثاما } أي مجازاة آثام . وفي الحديث المأثور : { } وهذا تعبير عن ملاقاة الشر . وقال سبحانه : { إن غيا واد في جهنم تستعيذ منه أوديتها أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات } فإن الصلاة فيها إرادة وجه الله . كما قال تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } أي يصلون صلاة الفجر والعصر . والداعي يقصد ربه ويريده فتكون القلوب في هذه الأشياء مريدة لربها محبة له . [ ص: 571 ] ( واتباع الشهوات هو اتباع ما تشتهيه النفس ; فإن " الشهوات " جمع شهوة والشهوة هي في الأصل : مصدر ويسمى المشتهى شهوة . تسمية للمفعول باسم المصدر .قال تعالى { ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما } فجعل التوبة في مقابلة اتباع الشهوات فإنه يريد أن يتوب علينا : أي فالله يحب لنا ذلك ويرضاه ويأمر به { ويريد الذين يتبعون الشهوات } وهم الغاوون { أن تميلوا ميلا عظيما } يعدل بكم عن الصراط المستقيم إلى اتباع الشهوات عدولا عظيما فإن أصل " الميل " العدول فلا بد منه للذين يتبعون الشهوات كما قال صلى الله عليه وسلم { } رواه استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن أحمد وابن ماجه من حديث ثوبان . فأخبر أنا لا نطيق الاستقامة أو ثوابها إذا استقمنا .
وقال { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة } فقوله : { كل الميل } أي يريد نهاية الميل يريد الزيغ عن الطريق والعدول عن سواء الصراط إلى نهاية الشر ; بل إذا بليت بذلك فتوسط وعد إلى الطريق بالتوبة . كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم { } قال تعالى : { ميل المؤمن كميل الفرس في آخيته يحول ثم يرجع إلى آخيته . كذلك المؤمن يحول ثم يرجع [ ص: 572 ] إلى ربه وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } إلى قوله : { ونعم أجر العاملين } فلم يقل لا يظلمون ولا يذنبون . بل قال : { إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم } أي بذنب آخر غير الفاحشة ; فعطف العام على الخاص .
كما قال موسى : { رب إني ظلمت نفسي } وقالت بلقيس : { رب إني ظلمت نفسي } وقال تعالى عموما عن أهل القرى المهلكة : { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } فظلموا أنفسهم بارتكابهم ما نهوا عنه ; وبعصيانهم لأنبيائهم ; وبتركهم التوبة إلى ربهم . وقوله تعالى { ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } ولهذا قال : { والله يريد أن يتوب عليكم } ثم قال : { يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا } .
قال مجاهد وغيره : يتبعون الشهوات الزنا وقال ابن زيد : هم أهل الباطل . وقال السدي : هم اليهود والنصارى والجميع حق ; فإنهم قد يتبعون الشهوات مع الكفر وقد يكون مع الاعتراف بأنها معصية . ثم ذكر أنه { وخلق الإنسان ضعيفا } وسياق الكلام يدل على أنه ضعيف عن ترك الشهوات فلا بد له من شهوة مباحة يستغني بها عن المحرمة ; ولهذا قال طاووس ومقاتل : ضعيف في قلة الصبر عن النساء .
وقال الزجاج وابن كيسان : ضعيف العزم عن قهر الهوى . وقيل : ضعيف في أصل الخلقة ; لأنه خلق من ماء مهين يروى ذلك [ ص: 573 ] عن الحسن لكن لا بد أن يوجد مع ذلك أنه ضعيف عن الصبر ليناسب ما ذكر في الآية فإنه قال : { يريد الله أن يخفف عنكم } وهو تسهيل التكليف بأن يبيح لكم ما تحتاجون إليه ولا تصبروا عنه . كما أباح نكاح الفتيات ; وقد قال قبل ذلك { لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم } .
فهو سبحانه مع إباحته قال : { نكاح الإماء عند عدم الطول وخشية العنت وأن تصبروا خير لكم } فدل ذلك على أنه يمكن الصبر مع خشية العنت وأنه ليس النكاح كإباحة الميتة عند المخمصة فإن ذلك لا يمكن الصبر عنه . وكذلك من أباح " " عند الضرورة فالصبر عن الاستمناء أفضل . الاستمناء
فقد روي عن ابن عباس : أن نكاح الإماء خير منه وهو خير من الزنا فإذا كان الصبر عن نكاح الإماء أفضل فعن الاستمناء بطريق الأولى أفضل . لا سيما وكثير من العلماء أو أكثرهم يجزمون بتحريمه مطلقا وهو أحد الأقوال في مذهب أحمد . واختاره في المفردات ، والمشهور عنه - يعني عن ابن عقيل أحمد - أنه محرم إلا إذا خشي العنت .
والثالث أنه مكروه إلا إذا خشي العنت . فإذا كان الله قد قال في نكاح الإماء : { وأن تصبروا خير لكم } ففيه أولى . وذلك يدل على أن الصبر عن كليهما ممكن . فإذا كان قد أباح ما يمكن الصبر عنه فذلك لتسهيل التكليف كما قال تعالى : { يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا } .
و " الاستمناء " لا يباح عند أكثر العلماء سلفا وخلفا سواء خشي العنت أو لم يخش ذلك . وكلام ابن عباس وما روي عن أحمد فيه إنما هو لمن خشي " العنت " وهو الزنا واللواط خشية شديدة خاف على نفسه من الوقوع في ذلك فأبيح له ذلك لتكسير شدة عنته وشهوته . وأما من فعل ذلك تلذذا أو تذكرا أو عادة ; بأن يتذكر في حال استمنائه صورة كأنه يجامعها فهذا كله محرم لا يقول به أحمد ولا غيره وقد أوجب فيه بعضهم الحد ، والصبر عن هذا من [ الواجبات لا من ] المستحبات .