و " المقصود هنا " أن
nindex.php?page=treesubj&link=28272_28276القلب هو الأصل في جميع الأفعال والأقوال فما أمر الله به من الأفعال الظاهرة فلا بد فيه من معرفة القلب وقصده وما أمر به من الأقوال وكل ما تقدم والمنهي عنه من الأقوال والأفعال إنما يعاقب عليه إذا كان بقصد القلب وأما ثبوت بعض الأحكام كضمان النفوس والأموال إذا أتلفها مجنون أو نائم أو مخطئ أو ناس فهذا من باب العدل في حقوق العباد ليس هو من باب العقوبة .
فالمأمور به كما ذكرنا " نوعان " نوع ظاهر على الجوارح ونوع باطن في القلب .
" النوع الثاني " ما يكون باطنا في القلب كالإخلاص وحب الله ورسوله والتوكل عليه والخوف منه وكنفس إيمان القلب وتصديقه بما أخبر به الرسول فهذا النوع تعلقه بالقلب ظاهر فإنه محله وهذا النوع هو أصل النوع الأول وهو أبلغ في الخير والشر من الأول فنفس إيمان القلب وحبه وتعظيمه لله وخوفه ورجائه والتوكل عليه وإخلاص الدين له لا يتم شيء من المأمور به ظاهرا إلا بها وإلا فلو عمل أعمالا ظاهرة بدون هذه كان منافقا وهي في أنفسها توجب لصاحبها أعمالا ظاهرة توافقها وهي أشرف من فروعها كما قال تعالى :
[ ص: 120 ] {
nindex.php?page=tafseer&surano=2654&ayano=22لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم } .
وكذلك تكذيب الرسول بالقلب وبغضه وحسده والاستكبار عن متابعته أعظم إثما من أعمال ظاهرة خالية عن هذا كالقتل والزنا والشرب والسرقة وما كان كفرا من الأعمال الظاهرة : كالسجود للأوثان وسب الرسول ونحو ذلك فإنما ذلك لكونه مستلزما لكفر الباطن وإلا فلو قدر أنه سجد قدام وثن ولم يقصد بقلبه السجود له بل قصد السجود لله بقلبه لم يكن ذلك كفرا وقد يباح ذلك إذا كان بين مشركين يخافهم على نفسه فيوافقهم في الفعل الظاهر ويقصد بقلبه السجود لله كما ذكر أن بعض علماء المسلمين وعلماء
أهل الكتاب فعل نحو ذلك مع قوم من
المشركين حتى دعاهم إلى الإسلام فأسلموا على يديه ولم يظهر منافرتهم في أول الأمر .
وهنا " أصول " تنازع الناس فيها . منها أن
nindex.php?page=treesubj&link=29549القلب هل يقوم به تصديق أو تكذيب ولا يظهر قط منه شيء على اللسان والجوارح وإنما يظهر نقيضه من غير خوف ؟ فالذي عليه
السلف والأئمة وجمهور الناس أنه لا بد من ظهور موجب ذلك على الجوارح فمن قال : إنه يصدق الرسول ويحبه ويعظمه بقلبه ولم يتكلم قط بالإسلام ولا فعل شيئا من واجباته بلا خوف فهذا لا يكون مؤمنا في الباطن ; وإنما هو كافر .
[ ص: 121 ] وزعم جهم ومن وافقه أنه يكون مؤمنا في الباطن وأن مجرد معرفة القلب وتصديقه يكون إيمانا يوجب الثواب يوم القيامة بلا قول ولا عمل ظاهر وهذا باطل شرعا وعقلا كما قد بسط في غير هذا الموضع وقد كفر
السلف كوكيع وأحمد وغيرهما من يقول بهذا القول وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597532إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب } فبين أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد فإذا كان الجسد غير صالح دل على أن القلب غير صالح والقلب المؤمن صالح فعلم أن من يتكلم بالإيمان ولا يعمل به لا يكون قلبه مؤمنا حتى إن المكره إذا كان في إظهار الإيمان فلا بد أن يتكلم مع نفسه وفي السر مع من يأمن إليه ولا بد أن يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه كما قال
عثمان . وأما إذا لم يظهر أثر ذلك لا بقوله ولا بفعله قط فإنه يدل على أنه ليس في القلب إيمان .
وذلك أن الجسد تابع للقلب فلا يستقر شيء في القلب إلا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن ولو بوجه من الوجوه وإن لم يظهر كل موجبه لمعارض فالمقتضي لظهور موجبه قائم ; والمعارض لا يكون لازما للإنسان لزوم القلب له ; وإنما يكون في بعض الأحوال متعذرا إذا
[ ص: 122 ] كتم ما في قلبه كمؤمن
آل فرعون مع أنه قد دعا إلى الإيمان دعاء ظهر به من إيمان قلبه ما لا يظهر من إيمان من أعلن إيمانه بين موافقيه وهذا في معرفة القلب وتصديقه .
ومنها قصد القلب وعزمه إذا
nindex.php?page=treesubj&link=28853قصد الفعل وعزم عليه مع قدرته على ما قصده هل يمكن أن لا يوجد شيء مما قصده وعزم عليه ؟ فيه قولان أصحهما أنه إذا حصل القصد الجازم مع القدرة وجب وجود المقدور وحيث لم يفعل العبد مقدوره دل على أنه ليس هناك قصد جازم وقد يحصل قصد جازم مع العجز عن المقدور لكن يحصل معه مقدمات المقدور وقيل : بل قد يمكن حصول العزم التام بدون أمر ظاهر .
وهذا نظير قول من قال ذلك في المعرفة والتصديق وهما من أقوال أتباع
جهم الذين نصروا قوله في الإيمان
كالقاضي أبي بكر وأمثاله فإنهم نصروا قوله وخالفوا
السلف والأئمة وعامة طوائف المسلمين .
وبهذا ينفصل النزاع في "
nindex.php?page=treesubj&link=28853مؤاخذة العبد بالهمة " فمن الناس : من قال : يؤاخذ بها إذا كانت عزما ومنهم من قال : لا يؤاخذ بها والتحقيق : أن الهمة إذا صارت عزما فلا بد أن يقترن بها قول أو
[ ص: 123 ] فعل ; فإن الإرادة مع القدرة تستلزم وجود المقدور .
والذين قالوا : يؤاخذ بها احتجوا بقوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=9179إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار } الحديث وهذا لا حجة فيه ; فإنه ذكر ذلك في رجلين اقتتلا كل منهما يريد قتل الآخر وهذا ليس عزما مجردا ; بل هو عزم مع فعل المقدور ; لكنه عاجز عن إتمام مراده وهذا يؤاخذ باتفاق المسلمين فمن اجتهد على شرب الخمر وسعى في ذلك بقوله وعمله ثم عجز فإنه آثم باتفاق المسلمين وهو كالشارب وإن لم يقع منه شرب وكذلك من اجتهد على الزنا والسرقة ونحو ذلك بقوله وعمله ثم عجز فهو آثم كالفاعل ومثل ذلك في قتل النفس وغيره كما جعل الداعي إلى الخير له مثل أجر المدعو ووزره لأنه أراد فعل المدعو وفعل ما يقدر عليه فالإرادة الجازمة مع فعل المقدور من ذلك فيحصل له مثل أجر الفاعل ووزره وقد قال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=592&ayano=4لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } الآية .
وفصل الخطاب في الآية أن {
nindex.php?page=tafseer&surano=592&ayano=4أولي الضرر } نوعان : نوع لهم عزم تام على الجهاد ولو تمكنوا لما قعدوا ولا تخلفوا وإنما أقعدهم العذر فهم كما {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597533قال النبي صلى الله عليه وسلم إن [ ص: 124 ] بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا : وهم بالمدينة قال : وهم بالمدينة حبسهم العذر } وهم أيضا كما قال في حديث
أبي كبشة الأنماري {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597534هما في الأجر سواء } وكما في حديث
أبي موسى {
nindex.php?page=hadith&LINKID=10093إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل صحيحا مقيما } فأثبت له مثل ذلك العمل ; لأن عزمه تام وإنما منعه العذر .
و ( النوع الثاني من " أولي الضرر " الذين ليس لهم عزم على الخروج فهؤلاء يفضل عليهم الخارجون المجاهدون وأولو الضرر العازمون عزما جازما على الخروج وقوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=592&ayano=4غير أولي الضرر } سواء كان استثناء أو صفة دل على أنهم لا يدخلون مع القاعدين في نفي الاستواء فإذا فصل الأمر فيهم بين العازم وغير العازم بقيت الآية على ظاهرها ولو جعل قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=592&ayano=4فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } عاما في أهل الضرر وغيرهم لكان ذلك مناقضا لقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=592&ayano=4غير أولي الضرر } فإن قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=592&ayano=4لا يستوي القاعدون } {
nindex.php?page=tafseer&surano=592&ayano=4والمجاهدون } إنما فيها نفي الاستواء ; فإن كان أهل الضرر كلهم كذلك لزم بطلان قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=592&ayano=4غير أولي الضرر } ولزم أنه لا يساوي المجاهدين قاعد ولو كان من أولي الضرر وهذا خلاف مقصود الآية .
و " أيضا " فالقاعدون إذا كانوا من غير أولي الضرر والجهاد
[ ص: 125 ] ليس بفرض عين فقد حصلت الكفاية بغيرهم ; فإنه لا حرج عليهم في القعود ; بل هم موعودون بالحسنى كأولي الضرر وهذا مثل قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5142&ayano=57لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل } الآية فالوعد بالحسنى شامل لأولي الضرر وغيرهم .
فإن قيل : قد قال في الأولى في فضلهم درجة ثم قال في فضلهم {
nindex.php?page=tafseer&surano=593&ayano=4درجات منه ومغفرة ورحمة } كما قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1263&ayano=9أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1264&ayano=9الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1265&ayano=9يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم
} فقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5142&ayano=9أعظم درجة } كما قال في السابقين {
nindex.php?page=tafseer&surano=5142&ayano=9أعظم درجة } وهذا نصب على التمييز : أي درجتهم أعظم درجة وهذا يقتضي تفضيلا مجملا يقال : منزلة هذا أعظم وأكبر كذلك قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=592&ayano=4وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما } الآيات ; ليس المراد به أنهم لم يفضلوا عليهم إلا بدرجة فإن في الحديث الصحيح الذي يرويه
أبو سعيد nindex.php?page=showalam&ids=3وأبو هريرة : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=11975إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض } الحديث وفي
[ ص: 126 ] حديث
أبي سعيد : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=36429من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وجبت له الجنة فعجب لها أبو سعيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فقال : وما هي يا رسول الله ؟ قال الجهاد في سبيل الله } فهذا الحديث الصحيح بين أن المجاهد يفضل على القاعد الموعود بالحسنى من غير أولي الضرر مائة درجة وهو يبطل قول من يقول : إن الوعد بالحسنى والتفضيل بالدرجة مختص بأولي الضرر فهذا القول مخالف للكتاب والسنة .
وقد يقال : إن ( درجة منصوب على التمييز كما قال أعظم درجة أي فضل درجتهم على درجتهم أفضل كما يقال : فضل هذا على هذا منزلا ومقاما وقد يراد ( بالدرجة جنس الدرج وهي المنزلة والمستقر لا يراد به درجة واحدة من العدد وقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=592&ayano=4وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما } {
nindex.php?page=tafseer&surano=593&ayano=2درجات } منصوب ( بفضل لأن التفضيل زيادة للمفضل فالتقدير زادهم عليهم أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة فهذا النزاع في العازم الجازم إذا فعل مقدوره هل يكون كالفاعل في الأجر والوزر أم لا ؟ وأما في استحقاق الأجر والوزر فلا نزاع في ذلك وقوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=9179إذا التقى المسلمان بسيفيهما } فيه حرص كل واحد منهما على قتل صاحبه وفعل مقدوره فكلاهما مستحق للنار
[ ص: 127 ] ويبقى الكلام في تساوي القعودين بشيء آخر .
وهكذا حال المقتتلين من المسلمين في الفتن الواقعة بينهم فلا تكون عاقبتهما إلا عاقبة سوء الغالب والمغلوب فإنه لم يحصل له دنيا ولا آخرة كما قال
الشعبي : أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أشقياء وأما الغالب فإنه يحصل له حظ عاجل ثم ينتقم منه في الآخرة وقد يعجل الله له الانتقام في الدنيا كما جرى لعامة الغالبين في الفتن فإنهم أصيبوا في الدنيا كالغالبين في
الحرة وفتنة
أبي مسلم الخراساني ونحو ذلك .
وأما من قال : إنه لا يؤاخذ بالعزم القلبي فاحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=89226إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها } وهذا ليس فيه أنه عاف لهم عن العزم بل فيه أنه عفا عن حديث النفس إلى أن يتكلم أو يعمل فدل على أنه ما لم يتكلم أو يعمل لا يؤاخذ ; ولكن ظن من ظن أن ذلك عزما وليس كذلك ; بل ما لم يتكلم أو يعمل لا يكون عزما ; فإن العزم لا بد أن يقترن به المقدور وإن لم يعمل العازم إلى المقصود فالذي يعزم على القتل أو الزنا أو نحوه عزما جازما لا بد أن يتحرك ولو برأسه أو يمشي أو يأخذ آلة أو يتكلم كلمة أو يقول أو يفعل شيئا فهذا كله ما يؤاخذ به كزنا العين واللسان والرجل فإن هذا يؤاخذ به وهو من مقدمات الزنا التام
[ ص: 128 ] بالفرج وإنما وقع العفو عما ما لم يبرز خارجا بقول أو فعل ولم يقترن به أمر ظاهر قط فهذا يعفى عنه لمن قام بما يجب على القلب من فعل المأمور به سواء كان المأمور به في القلب وموجبه في الجسد أو كان المأمور به ظاهرا في الجسد وفي القلب معرفته وقصده فهؤلاء إذا حدثوا أنفسهم بشيء كان عفوا مثل هم ثابت بلا فعل ومثل الوسواس الذي يكرهونه وهم يثابون على كراهته وعلى ترك ما هموا به وعزموا عليه لله تعالى وخوفا منه .
و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28272_28276الْقَلْبَ هُوَ الْأَصْلُ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ فَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَقَصْدِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ إنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ بِقَصْدِ الْقَلْبِ وَأَمَّا ثُبُوتُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَضَمَانِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ إذَا أَتْلَفَهَا مَجْنُونٌ أَوْ نَائِمٌ أَوْ مُخْطِئٌ أَوْ نَاسٍ فَهَذَا مِنْ بَابِ الْعَدْلِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الْعُقُوبَةِ .
فَالْمَأْمُورُ بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا " نَوْعَانِ " نَوْعٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْجَوَارِحِ وَنَوْعٌ بَاطِنٌ فِي الْقَلْبِ .
" النَّوْعُ الثَّانِي " مَا يَكُونُ بَاطِنًا فِي الْقَلْبِ كَالْإِخْلَاصِ وَحَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَكَنَفْسِ إيمَانِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ فَهَذَا النَّوْعُ تَعَلُّقُهُ بِالْقَلْبِ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ مَحَلُّهُ وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ أَصْلُ النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ الْأَوَّلِ فَنَفْسُ إيمَانِ الْقَلْبِ وَحُبِّهِ وَتَعْظِيمِهِ لِلَّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ لَا يَتِمُّ شَيْءٌ مِنْ الْمَأْمُورِ بِهِ ظَاهِرًا إلَّا بِهَا وَإِلَّا فَلَوْ عَمِلَ أَعْمَالًا ظَاهِرَةً بِدُونِ هَذِهِ كَانَ مُنَافِقًا وَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا تُوجِبُ لِصَاحِبِهَا أَعْمَالًا ظَاهِرَةً تُوَافِقُهَا وَهِيَ أَشْرَفُ مِنْ فُرُوعِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى :
[ ص: 120 ] {
nindex.php?page=tafseer&surano=2654&ayano=22لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } .
وَكَذَلِكَ تَكْذِيبُ الرَّسُولِ بِالْقَلْبِ وَبُغْضُهُ وَحَسَدُهُ وَالِاسْتِكْبَارُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ أَعْمَالٍ ظَاهِرَةٍ خَالِيَةٍ عَنْ هَذَا كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ وَمَا كَانَ كُفْرًا مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ : كَالسُّجُودِ لِلْأَوْثَانِ وَسَبِّ الرَّسُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُسْتَلْزِمًا لِكُفْرِ الْبَاطِنِ وَإِلَّا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ سَجَدَ قُدَّامَ وَثَنٍ وَلَمْ يَقْصِدْ بِقَلْبِهِ السُّجُودَ لَهُ بَلْ قَصَدَ السُّجُودَ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كُفْرًا وَقَدْ يُبَاحُ ذَلِكَ إذَا كَانَ بَيْنَ مُشْرِكِينَ يَخَافُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ فَيُوَافِقُهُمْ فِي الْفِعْلِ الظَّاهِرِ وَيَقْصِدُ بِقَلْبِهِ السُّجُودَ لِلَّهِ كَمَا ذُكِرَ أَنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءِ
أَهْلِ الْكِتَابِ فَعَلَ نَحْوَ ذَلِكَ مَعَ قَوْمٍ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ حَتَّى دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا عَلَى يَدَيْهِ وَلَمْ يُظْهِرْ مُنَافِرَتَهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ .
وَهُنَا " أُصُولٌ " تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَا . مِنْهَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29549الْقَلْبَ هَلْ يَقُومُ بِهِ تَصْدِيقٌ أَوْ تَكْذِيبٌ وَلَا يَظْهَرُ قَطُّ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ نَقِيضُهُ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ ؟ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ
السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَجُمْهُورُ النَّاسِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ مُوجَبِ ذَلِكَ عَلَى الْجَوَارِحِ فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يُصَدِّقُ الرَّسُولَ وَيُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ بِالْإِسْلَامِ وَلَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ وَاجِبَاتِهِ بِلَا خَوْفٍ فَهَذَا لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ ; وَإِنَّمَا هُوَ كَافِرٌ .
[ ص: 121 ] وَزَعَمَ جَهْمٌ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ وَأَنَّ مُجَرَّدَ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ يَكُونُ إيمَانًا يُوجِبُ الثَّوَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلَا قَوْلٍ وَلَا عَمَلٍ ظَاهِرٍ وَهَذَا بَاطِلٌ شَرْعًا وَعَقْلًا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ كَفَّرَ
السَّلَفُ كَوَكِيعِ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا مَنْ يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597532إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } فَبَيَّنَ أَنَّ صَلَاحَ الْقَلْبِ مُسْتَلْزِمٌ لِصَلَاحِ الْجَسَدِ فَإِذَا كَانَ الْجَسَدُ غَيْرَ صَالِحٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَلْبَ غَيْرُ صَالِحٍ وَالْقَلْبُ الْمُؤْمِنُ صَالِحٌ فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْإِيمَانِ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ لَا يَكُونُ قَلْبُهُ مُؤْمِنًا حَتَّى إنَّ الْمُكْرَهَ إذَا كَانَ فِي إظْهَارِ الْإِيمَانِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَكَلَّمَ مَعَ نَفْسِهِ وَفِي السِّرِّ مَعَ مَنْ يَأْمَنُ إلَيْهِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ كَمَا قَالَ
عُثْمَانُ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ لَا بِقَوْلِهِ وَلَا بِفِعْلِهِ قَطُّ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقَلْبِ إيمَانٌ .
وَذَلِكَ أَنَّ الْجَسَدَ تَابِعٌ لِلْقَلْبِ فَلَا يَسْتَقِرُّ شَيْءٌ فِي الْقَلْبِ إلَّا ظَهَرَ مُوجَبُهُ وَمُقْتَضَاهُ عَلَى الْبَدَنِ وَلَوْ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ كُلُّ مُوجَبِهِ لِمُعَارِضِ فَالْمُقْتَضِي لِظُهُورِ مُوجَبِهِ قَائِمٌ ; وَالْمُعَارِضُ لَا يَكُونُ لَازِمًا لِلْإِنْسَانِ لُزُومَ الْقَلْبِ لَهُ ; وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مُتَعَذِّرًا إذَا
[ ص: 122 ] كَتَمَ مَا فِي قَلْبِهِ كَمُؤْمِنِ
آلِ فِرْعَوْنَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ دَعَا إلَى الْإِيمَانِ دُعَاءً ظَهَرَ بِهِ مِنْ إيمَانِ قَلْبِهِ مَا لَا يَظْهَرُ مِنْ إيمَانِ مَنْ أَعْلَنَ إيمَانَهُ بَيْنَ مُوَافَقِيهِ وَهَذَا فِي مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ .
وَمِنْهَا قَصْدُ الْقَلْبِ وَعَزْمُهُ إذَا
nindex.php?page=treesubj&link=28853قَصَدَ الْفِعْلَ وَعَزَمَ عَلَيْهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَا قَصَدَهُ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ لَا يُوجَدَ شَيْءٌ مِمَّا قَصَدَهُ وَعَزَمَ عَلَيْهِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْقَصْدُ الْجَازِمُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَجَبَ وُجُودُ الْمَقْدُورِ وَحَيْثُ لَمْ يَفْعَلْ الْعَبْدُ مَقْدُورَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ قَصْدٌ جَازِمٌ وَقَدْ يَحْصُلُ قَصْدٌ جَازِمٌ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ الْمَقْدُورِ لَكِنْ يَحْصُلُ مَعَهُ مُقَدِّمَاتُ الْمَقْدُورِ وَقِيلَ : بَلْ قَدْ يُمْكِنُ حُصُولُ الْعَزْمِ التَّامِّ بِدُونِ أَمْرٍ ظَاهِرٍ .
وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ وَهُمَا مِنْ أَقْوَالِ أَتْبَاعِ
جَهْمٍ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَهُ فِي الْإِيمَانِ
كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَمْثَالِهِ فَإِنَّهُمْ نَصَرُوا قَوْلَهُ وَخَالَفُوا
السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ وَعَامَّةَ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ .
وَبِهَذَا يَنْفَصِلُ النِّزَاعُ فِي "
nindex.php?page=treesubj&link=28853مُؤَاخَذَةِ الْعَبْدِ بالهمة " فَمِنْ النَّاسِ : مَنْ قَالَ : يُؤَاخَذُ بِهَا إذَا كَانَتْ عَزْمًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يُؤَاخَذُ بِهَا وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ الْهِمَّةَ إذَا صَارَتْ عَزْمًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا قَوْلٌ أَوْ
[ ص: 123 ] فِعْلٌ ; فَإِنَّ الْإِرَادَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَقْدُورِ .
وَاَلَّذِينَ قَالُوا : يُؤَاخَذُ بِهَا احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=9179إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ } الْحَدِيثَ وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ; فَإِنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي رَجُلَيْنِ اقْتَتَلَا كُلٌّ مِنْهُمَا يُرِيدُ قَتْلَ الْآخَرِ وَهَذَا لَيْسَ عَزْمًا مُجَرَّدًا ; بَلْ هُوَ عَزْمٌ مَعَ فِعْلِ الْمَقْدُورِ ; لَكِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ إتْمَامِ مُرَادِهِ وَهَذَا يُؤَاخَذُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ اجْتَهَدَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَسَعَى فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ ثُمَّ عَجَزَ فَإِنَّهُ آثِمٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ كَالشَّارِبِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ شُرْبٌ وَكَذَلِكَ مَنْ اجْتَهَدَ عَلَى الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ ثُمَّ عَجَزَ فَهُوَ آثِمٌ كَالْفَاعِلِ وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي قَتْلِ النَّفْسِ وَغَيْرِهِ كَمَا جَعَلَ الدَّاعِيَ إلَى الْخَيْرِ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الْمَدْعُوِّ وَوِزْره لِأَنَّهُ أَرَادَ فِعْلَ الْمَدْعُوِّ وَفِعْلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَالْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ مَعَ فِعْلِ الْمَقْدُورِ مِنْ ذَلِكَ فَيَحْصُلُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الْفَاعِلِ وَوِزْرِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=592&ayano=4لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } الْآيَةَ .
وَفَصْلُ الْخِطَابِ فِي الْآيَةِ أَنَّ {
nindex.php?page=tafseer&surano=592&ayano=4أُولِي الضَّرَرِ } نَوْعَانِ : نَوْعٌ لَهُمْ عَزْمٌ تَامٌّ عَلَى الْجِهَادِ وَلَوْ تَمَكَّنُوا لَمَا قَعَدُوا وَلَا تَخَلَّفُوا وَإِنَّمَا أَقْعَدَهُمْ الْعُذْرُ فَهُمْ كَمَا {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597533قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ [ ص: 124 ] بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ قَالَ : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ } وَهُمْ أَيْضًا كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ
أَبِي كَبْشَةَ الأنماري {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597534هُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ } وَكَمَا فِي حَدِيثِ
أَبِي مُوسَى {
nindex.php?page=hadith&LINKID=10093إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا } فَأَثْبَتَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَمَلِ ; لِأَنَّ عَزْمَهُ تَامٌّ وَإِنَّمَا مَنَعَهُ الْعُذْرُ .
و ( النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ " أُولِي الضَّرَرِ " الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ عَزْمٌ عَلَى الْخُرُوجِ فَهَؤُلَاءِ يُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ الْخَارِجُونَ الْمُجَاهِدُونَ وَأُولُو الضَّرَرِ الْعَازِمُونَ عَزْمًا جَازِمًا عَلَى الْخُرُوجِ وقَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=592&ayano=4غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } سَوَاءٌ كَانَ اسْتِثْنَاءً أَوْ صِفَةً دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ مَعَ الْقَاعِدِينَ فِي نَفْيِ الِاسْتِوَاءِ فَإِذَا فَصَّلَ الْأَمْرَ فِيهِمْ بَيْنَ الْعَازِمِ وَغَيْرِ الْعَازِمِ بَقِيَتْ الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَلَوْ جَعَلَ قَوْلَهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=592&ayano=4فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً } عَامًّا فِي أَهْلِ الضَّرَرِ وَغَيْرِهِمْ لَكَانَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=592&ayano=4غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } فَإِنَّ قَوْلَهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=592&ayano=4لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=592&ayano=4وَالْمُجَاهِدُونَ } إنَّمَا فِيهَا نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ ; فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الضَّرَرِ كُلِّهِمْ كَذَلِكَ لَزِمَ بُطْلَانُ قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=592&ayano=4غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } وَلَزِمَ أَنَّهُ لَا يُسَاوِي الْمُجَاهِدِينَ قَاعِدٌ وَلَوْ كَانَ مِنْ أُولِي الضَّرَرِ وَهَذَا خِلَافُ مَقْصُودِ الْآيَةِ .
و " أَيْضًا " فَالْقَاعِدُونَ إذَا كَانُوا مِنْ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ وَالْجِهَادُ
[ ص: 125 ] لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ فَقَدْ حَصَلَتْ الْكِفَايَةُ بِغَيْرِهِمْ ; فَإِنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي الْقُعُودِ ; بَلْ هُمْ مَوْعُودُونَ بِالْحُسْنَى كَأُولِي الضَّرَرِ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5142&ayano=57لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } الْآيَةَ فَالْوَعْدُ بِالْحُسْنَى شَامِلٌ لِأُولِي الضَّرَرِ وَغَيْرِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَالَ فِي الْأُولَى فِي فَضْلِهِمْ دَرَجَةً ثُمَّ قَالَ فِي فَضْلِهِمْ {
nindex.php?page=tafseer&surano=593&ayano=4دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً } كَمَا قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1263&ayano=9أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1264&ayano=9الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1265&ayano=9يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ
} فَقَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5142&ayano=9أَعْظَمُ دَرَجَةً } كَمَا قَالَ فِي السَّابِقِينَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=5142&ayano=9أَعْظَمُ دَرَجَةً } وَهَذَا نَصْبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ : أَيْ دَرَجَتُهُمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً وَهَذَا يَقْتَضِي تَفْضِيلًا مُجْمَلًا يُقَالُ : مَنْزِلَةُ هَذَا أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ كَذَلِكَ قَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=592&ayano=4وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } الْآيَاتِ ; لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يُفَضَّلُوا عَلَيْهِمْ إلَّا بِدَرَجَةِ فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي يَرْوِيهِ
أَبُو سَعِيدٍ nindex.php?page=showalam&ids=3وَأَبُو هُرَيْرَةَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=11975إنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } الْحَدِيثَ وَفِي
[ ص: 126 ] حَدِيثِ
أَبِي سَعِيدٍ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=36429مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا الْعَبْدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَقَالَ : وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بَيَّنَ أَنَّ الْمُجَاهِدَ يُفَضَّلُ عَلَى الْقَاعِدِ الْمَوْعُودِ بِالْحُسْنَى مِنْ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ مِائَةَ دَرَجَةٍ وَهُوَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْوَعْدَ بِالْحُسْنَى وَالتَّفْضِيلَ بِالدَّرَجَةِ مُخْتَصٌّ بِأُولِي الضَّرَرِ فَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ ( دَرَجَةً مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ كَمَا قَالَ أَعْظَمُ دَرَجَةً أَيْ فَضْلُ دَرَجَتِهِمْ عَلَى دَرَجَتِهِمْ أَفْضَلُ كَمَا يُقَالُ : فُضِّلَ هَذَا عَلَى هَذَا مَنْزِلًا وَمَقَامًا وَقَدْ يُرَادُ ( بِالدَّرَجَةِ جِنْسُ الدُّرْجِ وَهِيَ الْمُنَزَّلَةُ وَالْمُسْتَقَرُّ لَا يُرَادُ بِهِ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ الْعَدَدِ وَقَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=592&ayano=4وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } {
nindex.php?page=tafseer&surano=593&ayano=2دَرَجَاتٍ } مَنْصُوبٌ ( بفضل لِأَنَّ التَّفْضِيلَ زِيَادَةٌ لِلْمُفَضَّلِ فَالتَّقْدِيرُ زَادَهُمْ عَلَيْهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً فَهَذَا النِّزَاعُ فِي الْعَازِمِ الْجَازِمِ إذَا فَعَلَ مَقْدُورَهُ هَلْ يَكُونُ كَالْفَاعِلِ فِي الْأَجْرِ وَالْوِزْرِ أَمْ لَا ؟ وَأَمَّا فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ وَالْوِزْرِ فَلَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ وَقَوْلُهُ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=9179إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا } فِيهِ حِرْصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَتْلٍ صَاحِبِهِ وَفِعْلِ مَقْدُورِهِ فَكِلَاهُمَا مُسْتَحِقٌّ لِلنَّارِ
[ ص: 127 ] وَيَبْقَى الْكَلَامُ فِي تَسَاوِي الْقَعُودَيْنِ بِشَيْءِ آخَرَ .
وَهَكَذَا حَالُ الْمُقْتَتِلِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الْفِتَنِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَهُمْ فَلَا تَكُونُ عَاقِبَتُهُمَا إلَّا عَاقِبَةَ سَوْءٍ الْغَالِبُ وَالْمَغْلُوبُ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ دُنْيَا وَلَا آخِرَةٌ كَمَا قَالَ
الشَّعْبِيُّ : أَصَابَتْنَا فِتْنَةٌ لَمْ نَكُنْ فِيهَا بَرَرَةً أَتْقِيَاءَ وَلَا فَجَرَةً أَشْقِيَاءَ وَأَمَّا الْغَالِبُ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ حَظٌّ عَاجِلٌ ثُمَّ يُنْتَقَمُ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لَهُ الِانْتِقَامَ فِي الدُّنْيَا كَمَا جَرَى لِعَامَّةِ الْغَالِبِينَ فِي الْفِتَنِ فَإِنَّهُمْ أُصِيبُوا فِي الدُّنْيَا كَالْغَالِبِينَ فِي
الْحَرَّةِ وَفِتْنَةِ
أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِالْعَزْمِ الْقَلْبِيِّ فَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=89226إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا } وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ عَافٍ لَهُمْ عَنْ الْعَزْمِ بَلْ فِيهِ أَنَّهُ عَفَا عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ إلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ أَوْ يَعْمَلَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ أَوْ يَعْمَلْ لَا يُؤَاخَذُ ; وَلَكِنْ ظَنُّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ عَزْمًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; بَلْ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ أَوْ يَعْمَلْ لَا يَكُونُ عَزْمًا ; فَإِنَّ الْعَزْمَ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ الْمَقْدُورُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ الْعَازِمُ إلَى الْمَقْصُودِ فَاَلَّذِي يَعْزِمُ عَلَى الْقَتْلِ أَوْ الزِّنَا أَوْ نَحْوِهِ عَزْمًا جَازِمًا لَا بُدَّ أَنْ يَتَحَرَّكَ وَلَوْ بِرَأْسِهِ أَوْ يَمْشِيَ أَوْ يَأْخُذَ آلَةً أَوْ يَتَكَلَّمَ كَلِمَةً أَوْ يَقُولَ أَوْ يَفْعَلَ شَيْئًا فَهَذَا كُلُّهُ مَا يُؤَاخَذُ بِهِ كَزِنَا الْعَيْنِ وَاللِّسَانِ وَالرِّجْلِ فَإِنَّ هَذَا يُؤَاخَذُ بِهِ وَهُوَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الزِّنَا التَّامِّ
[ ص: 128 ] بِالْفَرْجِ وَإِنَّمَا وَقَعَ الْعَفْوُ عَمَّا مَا لَمْ يَبْرُزْ خَارِجًا بِقَوْلِ أَوْ فِعْلٍ وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ قَطُّ فَهَذَا يُعْفَى عَنْهُ لِمَنْ قَامَ بِمَا يَجِبُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْقَلْبِ وَمُوجَبُهُ فِي الْجَسَدِ أَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ ظَاهِرًا فِي الْجَسَدِ وَفِي الْقَلْبِ مَعْرِفَتُهُ وَقَصْدُهُ فَهَؤُلَاءِ إذَا حَدَّثُوا أَنْفُسَهُمْ بِشَيْءِ كَانَ عَفْوًا مِثْلُ هَمٍّ ثَابِتٍ بِلَا فِعْلٍ وَمِثْلُ الْوَسْوَاسِ الَّذِي يَكْرَهُونَهُ وَهُمْ يُثَابُونَ عَلَى كَرَاهَتِهِ وَعَلَى تَرْكِ مَا هَمُّوا بِهِ وَعَزَمُوا عَلَيْهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَخَوْفًا مِنْهُ .