فصل الفرق السادس : أن يقال : إن . ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية - وإن كانت خلقا لله - فهو عقوبة له على عدم فعله ما خلقه الله له . وفطره عليه
فإن الله إنما خلقه لعبادته وحده لا شريك له . ودله على الفطرة . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { } وقال تعالى { كل مولود يولد على الفطرة فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون }
. [ ص: 332 ] فهو لما لم يفعل ما خلق له وما فطر عليه وما أمر به - من معرفة الله وحده . وعبادته وحده - عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي . قال تعالى للشيطان { اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا } - إلى قوله - { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وقال تعالى { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } { إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون }
. وقال تعالى { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } { وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون } . فقد تبين : أن : يمنع من تسلط الشيطان ومن ولاية الشيطان التي توجب العذاب . كما قال تعالى { إخلاص الدين لله كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } .
فإذا أخلص العبد لربه الدين : كان هذا مانعا له من فعل ضد ذلك ومن إيقاع الشيطان له في ضد ذلك . وإذا لم يخلص لربه الدين ولم يفعل ما خلق له وفطر عليه : عوقب على ذلك . وكان من عقابه : [ ص: 333 ] تسلط الشيطان عليه حتى يزين له فعل السيئات . وكان إلهامه لفجوره عقوبة له على كونه لم يتق الله . وعدم فعله للحسنات : ليس أمرا وجوديا حتى يقال : إن الله خلقه بل هو أمر عدمي .
لكن يعاقب عليه لكونه : عدم ما خلق له وما أمر به . وهذا يتضمن العقوبة على أمر عدمي . لكن بفعل السيئات لا بالعقوبات - التي يستحقها بعد إقامة الحجة عليه - بالنار ونحوها . وقد تقدم أن ؟ فيه قولان . مجرد عدم المأمور : هل يعاقب عليه
والأكثرون يقولون : لا يعاقب عليه لأنه عدم محض . ويقولون : إنما يعاقب على الترك . وهذا أمر وجودي . وطائفة - منهم : أبو هاشم - قالوا : بل يعاقب على هذا العدم . بمعنى أنه يعاقب عليه كما يعاقب على فعل الذنوب بالنار ونحوها . وما ذكر في هذا الوجه : هو أمر وسط . وهو أن يعاقبه على هذا العدم بفعل السيئات لا بالعقوبة عليها . ولا يعاقبه عليها حتى يرسل إليه رسوله . فإذا عصى الرسول : استحق حينئذ العقوبة التامة . وهو أولا : إنما عوقب بما يمكن أن ينجو من شره بأن يتوب منه . [ ص: 334 ] أو بأن لا تقوم عليه الحجة .
وهو كالصبي الذي لا يشتغل بما ينفعه بل بما هو سبب لضرره ولكن لا يكتب عليه قلم الإثم حتى يبلغ . فإذا بلغ عوقب . ثم ما تعوده من فعل السيئات : قد يكون سببا لمعصيته بعد البلوغ وهو لم يعاقب إلا على ذنبه . ولكن العقوبة المعروفة : إنما يستحقها بعد قيام الحجة عليه .
وأما اشتغاله بالسيئات : فهو عقوبة عدم عمله للحسنات . وعلى هذا : فالشر ليس إلى الله بوجه من الوجوه . فإنه - وإن كان الله خالق أفعال العباد - فخلقه للطاعات : نعمة ورحمة وخلقه للسيئات : له فيه حكمة ورحمة وهو - مع هذا - عدل منه فما ظلم الناس شيئا . ولكن الناس ظلموا أنفسهم .
وظلمهم لأنفسهم نوعان : عدم عملهم بالحسنات . فهذا ليس مضافا إليه . وعملهم للسيئات : خلقه عقوبة لهم على ترك فعل الحسنات التي خلقهم لها وأمرهم بها . فكل نعمة منه فضل . وكل نقمة منه عدل . [ ص: 335 ] ومن تدبر القرآن : تبين له أن عامة ما يذكره الله في يجعله جزاء لذلك العمل . كقوله تعالى { خلق الكفر والمعاصي فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } وقال تعالى { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } وقال تعالى { وأما من بخل واستغنى } { وكذب بالحسنى } { فسنيسره للعسرى } .
وهذا وأمثاله : بذلوا فيه أعمالا عاقبهم بها على فعل محظور وترك مأمور . وتلك الأمور إنما كانت منهم وخلقت فيهم لكونهم لم يفعلوا ما خلقوا له . ولا بد لهم من حركة وإرادة . فلما لم يتحركوا بالحسنات : حركوا بالسيئات عدلا من الله . حيث وضع ذلك موضعه في محله القابل له - وهو القلب الذي لا يكون إلا عاملا - فإذا لم يعمل الحسنة استعمل في عمل السيئة . كما قيل : نفسك إن لم تشغلها شغلتك . وهذا الوجه - إذا حقق - يقطع مادة كلام القدرية المكذبة والمجبرة الذين يقولون : إن أفعال العباد ليست مخلوقة لله .
ويجعلون خلقها والتعذيب عليها ظلما . والذين يقولون : إنه خلق كفر الكافرين ومعصيتهم وعاقبهم على ذلك لا لسبب ولا لحكمة . [ ص: 336 ] فإذا قيل لأولئك : إنه إنما أوقعهم في تلك الذنوب وطبع على قلوبهم : عقوبة لهم على عدم فعلهم ما أمرهم به . فما ظلمهم ولكن هم ظلموا أنفسهم . يقال : ظلمته إذا نقصته حقه . قال تعالى { كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا } . وكثير من أولئك يسلمون أن الله خلق للعبد من الأعمال ما يكون جزاء له على عمل منه متقدم . ويقولون : إنه خلق طاعة المطيع . فلا ينازعون في نفس . لكن يقولون : ما خلق شيئا من الذنوب ابتداء بل إنما خلقها جزاء لئلا يكون ظالما . خلق أفعال العباد
فنقول : أول ما يفعله العبد من الذنوب : هو أحدثه لم يحدثه الله . ثم ما يكون جزاء على ذلك : فالله محدثه . وهم لا ينازعون في مسألة خلق الأفعال إلا من هذه الجهة . وهذا الذي ذكرناه : يوافقون عليه . لكن يقولون : أول الذنوب لم يحدثه الله بل يحدثه العبد لئلا يكون الجزاء عليه ظلما . وما ذكرناه : يوجب أن الله خالق كل شيء . فما حدث شيء [ ص: 337 ] إلا بمشيئته وقدرته . لكن أول الذنوب الوجودية : هو المخلوق . وذاك عقوبة على عدم فعل العبد لما خلق له ولما كان ينبغي له أن يفعله . وهذا العدم لا يجوز إضافته إلى الله . وليس بشيء حتى يدخل في قولنا { الله خالق كل شيء } وما أحدثه من الذنوب الوجودية فأولها : عقوبة للعبد على هذا العدم .
وسائرها : قد يكون عقوبة للعبد على ما وجد . وقد يكون عقوبة له على استمراره على العدم .
فما دام لا يخلص لله العمل : فلا يزال مشركا . ولا يزال الشيطان مسلطا عليه . ثم تخصيصه سبحانه لمن هداه - بأن استعمله ابتداء فيما خلق له وهذا لم يستعمله - هو تخصيص منه بفضله ورحمته . ولهذا يقول الله { والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم } ولذلك حكمة ورحمة هو أعلم بها كما خص بعض الأبدان بقوى لا توجد في غيرها وبسبب عدم القوة قد تحصل له أمراض وجودية وغير ذلك من حكمته . وبتحقيق هذا يدفع شبهات هذا الباب . والله أعلم بالصواب .