[ ص: 448 ] سورة المائدة وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه فصل ; ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { سورة المائدة أجمع سورة في القرآن لفروع الشرائع من التحليل والتحريم والأمر والنهي هي آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها } ولهذا افتتحت بقوله : { أوفوا بالعقود } والعقود هي العهود وذكر فيها من التحليل والتحريم والإيجاب ما لم يذكر في غيرها والآيات فيها متناسبة مثل قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } . وقد اشتهر في التفسير أن هذه الآية نزلت بسبب الذين أرادوا [ ص: 449 ] التبتل من الصحابة مثل والذين اجتمعوا معه . عثمان بن مظعون
وفي الصحيحين { أنس في الأربعة الذين قال أحدهم : أما أنا فأصوم لا أفطر . وقال الآخر : أما أنا فأقوم لا أنام . وقال الآخر : أما أنا فلا أتزوج النساء وقال الآخر : أما أنا فلا آكل اللحم .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لكني أصوم وأفطر وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني } فيشبه والله أعلم أن يكون قوله : { حديث لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } فيمن مثل الذي قال : لا أتزوج النساء ولا آكل اللحم وهي الرهبانية المبتدعة فإن الراهب لا ينكح ولا يذبح . وقوله : { حرم الحلال على نفسه بقول أو عزم على تركه ولا تعتدوا } فيمن قال : أقوم لا أنام وقال أصوم لا أفطر ; لأن الاعتداء مجاوزة الحد فهذا مجاوز للحد في العبادة المشروعة كالعدوان في الدعاء في قوله : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين } .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم { } فالاعتداء في " العبادات وفي الورع " كالذين تحرجوا من أشياء ترخص فيها النبي صلى الله عليه وسلم وفي " الزهد " كالذين حرموا الطيبات وهذان القسمان ترك فقوله : " { سيكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور ولا تعتدوا } " إما أن يكون مختصا بجانب الأفعال العبادية وإما أن [ ص: 450 ] يكون العدوان يشمل العدوان في العبادة والتحريم وهذان النوعان هما اللذان ذم الله المشركين بهما في غير موضع حيث عبدوا عبادة لم يأذن الله بها وحرموا ما لم يأذن الله به فقوله : { لا تحرموا } { ولا تعتدوا } يتناول القسمين .
والعدوان هنا كالعدوان في قوله : { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } إما أن يكون أعم من الإثم وإما أن يكون نوعا آخر وإما أن يكون العدوان في مجاوزة حدود المأمورات واجبها ومستحبها ومجاوزة حد المباح وإما أن يكون في ذلك مجاوزة حد التحريم أيضا فإنها ثلاثة أمور : مأمور به ومنهي عنه ومباح . ثم ذكر بعد هذا قوله : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته } الآية ذكر هذا بعد النهي عن التحريم ليبين المخرج من تحريم الحلال إذا عقد عليه يمينا بالله أو يمينا أخرى وبهذا يستدل على أن تحريم الحلال يمين .
ثم ذكر بعد ذلك ما حرمه من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام فبين به ما حرمه فإن نفي التحريم الشرعي يقع فيه طائفة من الإباحية كما يقع في تحريم الحلال طائفة من هؤلاء يكونون في حال اجتهادهم ورياضتهم تحريمية ثم إذا وصلوا بزعمهم صاروا إباحية وهاتان [ ص: 451 ] آفتان تقعان في المتعبدة والمتصوفة كثيرا وقرن بينهما حكم الأيمان فإن كلاهما يتعلق بالفم داخلا وخارجا كما يقرن الفقهاء بين كتاب الأيمان والأطعمة وفيه رخصة في كفارة الأيمان مطلقا خلافا لما شدد فيه طائفة من الفقهاء من جعل بعض الأيمان لا كفارة فيها فإن هذا التشديد مضاه للتحريم فيكون الرجل ممنوعا من فعل الواجب أو المباح بذلك التشديد وهذا كله رحمة من الله بنا دون غيرنا من الأمم التي حرم عليهم أشياء عقوبة لهم ولا كفارة في أيمانهم ولم يطهرهم من الرجس كما طهرنا فتدبر هذا فإنه نافع .