[ ص: 10 ] وقال الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية على ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين } { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين } : هاتان الآيتان مشتملتان على قول الله عز وجل : { ; فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة ويراد به مجموعهما ; وهما متلازمان . فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره ودفعه . وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر . آداب نوعي الدعاء : دعاء العبادة ودعاء المسألة
ولهذا أنكر تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضرا ولا نفعا . وذلك كثير في القرآن كقوله تعالى : { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } وقال : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم } فنفى سبحانه عن هؤلاء المعبودين الضر والنفع القاصر والمتعدي فلا يملكون لأنفسهم ولا لعابديهم .
وهذا كثير في القرآن يبين تعالى أن المعبود لا بد أن يكون مالكا [ ص: 11 ] للنفع . والضر فهو يدعو للنفع والضر دعاء المسألة ويدعو خوفا ورجاء دعاء العبادة فعلم أن النوعين متلازمان فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة . وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة .
وعلى هذا فقوله : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } يتناول نوعي الدعاء . وبكل منهما فسرت الآية . قيل : أعطيه إذا سألني . وقيل : أثيبه إذا عبدني . والقولان متلازمان . وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ; بل هذا استعماله في حقيقته المتضمنة للأمرين جميعا فتأمله فإنه موضوع عظيم النفع وقل ما يفطن له . وأكثر آيات القرآن دالة على معنيين فصاعدا فهي من هذا القبيل .
مثال ذلك قوله تعالى { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل } فسر " الدلوك " بالزوال وفسر بالغروب وليس بقولين ; بل اللفظ يتناولهما معا ; فإن الدلوك هو الميل . ودلوك الشمس ميلها .
ولهذا الميل مبتدأ ومنتهى فمبتدؤه الزوال ومنتهاه الغروب واللفظ متناول لهما بهذا الاعتبار .
ومثاله أيضا تفسير " الغاسق " بالليل وتفسيره بالقمر . فإن ذلك [ ص: 12 ] ليس باختلاف ; بل يتناولهما لتلازمهما . فإن القمر آية الليل . ونظائره كثيرة .
ومن ذلك قوله تعالى { قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم } أي دعاؤكم إياه وقيل : دعاؤه إياكم إلى عبادته فيكون المصدر مضافا إلى المفعول ومحل الأول مضافا إلى الفاعل وهو الأرجح من القولين .
وعلى هذا فالمراد به نوعي الدعاء وهو في دعاء العبادة أظهر أي ما يعبأ بكم لولا أنكم ترجونه وعبادته تستلزم مسألته . فالنوعان داخلان فيه .
ومن ذلك قوله تعالى { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } فالدعاء يتضمن النوعين وهو في دعاء العبادة أظهر ; ولهذا أعقبه : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي } الآية . ويفسر الدعاء في الآية بهذا وهذا .
وروى الترمذي عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - على المنبر - " { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } الآية } قال إن الدعاء هو العبادة . ثم قرأ قوله تعالى { الترمذي حديث حسن صحيح .
[ ص: 13 ] وأما قوله تعالى { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له } الآية . وقوله : { إن يدعون من دونه إلا إناثا } الآية . وقوله : { وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل } الآية . وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين لأوثانهم فالمراد به دعاء العبادة المتضمن دعاء المسألة فهو في دعاء العبادة أظهر ; لوجوه ثلاثة : " أحدها " أنهم قالوا : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم عبادتهم لهم .
" الثاني " أن الله تعالى : فسر هذا الدعاء في موضع آخر كقوله تعالى : { وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون } { من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون } وقوله تعالى { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } . وقوله تعالى { لا أعبد ما تعبدون } فدعاؤهم لآلهتهم هو عبادتهم .
" الثالث " أنهم كانوا يعبدونها في الرخاء فإذا جاءتهم الشدائد دعوا الله وحده وتركوها ومع هذا فكانوا يسألونها بعض حوائجهم ويطلبون منها وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة .
وقوله تعالى { فادعوا الله مخلصين له الدين } هو دعاء العبادة والمعنى اعبدوه وحده وأخلصوا عبادته لا تعبدوا معه غيره .
[ ص: 14 ] وأما قول إبراهيم عليه السلام { إن ربي لسميع الدعاء } فالمراد بالسمع هاهنا السمع الخاص وهو سمع الإجابة والقبول لا السمع العام ; لأنه سميع لكل مسموع . وإذا كان كذلك فالدعاء : دعاء العبادة ودعاء الطلب وسمع الرب تعالى له إثابته على الثناء وإجابته للطلب فهو سميع هذا وهذا .
وأما قول زكريا عليه السلام { ولم أكن بدعائك رب شقيا } فقد قيل : إنه دعاء المسألة والمعنى : أنك عودتني إجابتك ولم تشقني بالرد والحرمان ; فهو توسل إليه سبحانه وتعالى بما سلف من إجابته وإحسانه وهذا ظاهر هاهنا .
وأما قوله تعالى { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } الآية : فهذا الدعاء : المشهور أنه دعاء المسألة وهو سبب النزول . قالوا : كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه فيقول مرة : " يا الله " ومرة " يا رحمن " فظن المشركون أنه يدعو إلهين فأنزل الله هذه الآية .
وأما قوله { إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم } فهذا دعاء العبادة المتضمن للسلوك رغبة ورهبة والمعنى : إنا كنا نخلص له العبادة ; وبهذا استحقوا أن وقاهم الله عذاب السموم لا بمجرد السؤال المشترك بين الناجي وغيره ; فإنه سبحانه يسأله من في السموات [ ص: 15 ] والأرض { لن ندعو من دونه إلها } أي : لن نعبد غيره . وكذا قوله : { أتدعون بعلا } الآية .
وأما قوله : { وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم } فهذا دعاء المسألة يكبتهم الله ويخزيهم يوم القيامة بآرائهم أن شركاءهم لا يستجيبون لهم دعوتهم وليس المراد اعبدوهم . وهو نظير قوله تعالى { ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم } .
إذا عرف هذا : فقوله تعالى : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } يتناول نوعي الدعاء ; لكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن دعاء العبادة ولهذا أمر بإخفائه وإسراره . قال الحسن : بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت أي ما كانت إلا همسا بينهم وبين ربهم عز وجل ; وذلك أن الله عز وجل يقول : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } وأنه ذكر عبدا صالحا ورضي بفعله فقال : { إذ نادى ربه نداء خفيا } . عديدة : " أحدها " أنه أعظم إيمانا ; لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع الدعاء الخفي . وفي إخفاء الدعاء فوائد
و " ثانيها " أنه أعظم في الأدب والتعظيم لأن الملوك لا ترفع [ ص: 16 ] الأصوات [ عندهم ] ومن رفع صوته لديهم مقتوه ولله المثل الأعلى فإذا كان يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به .
و " ثالثها " أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده . فإن الخاشع الذليل إنما يسأل مسألة مسكين ذليل قد انكسر قلبه . وذلت جوارحه وخشع صوته ; حتى أنه ليكاد تبلغ ذلته وسكينته وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوعه بالنطق . وقلبه يسأل طالبا مبتهلا ولسانه لشدة ذلته ساكتا وهذه الحال لا تأتي مع رفع الصوت بالدعاء أصلا .
و " رابعها " أنه أبلغ في الإخلاص .
و " خامسها " أنه أبلغ في جمعية القلب على الذلة في الدعاء فإن رفع الصوت يفرقه فكلما خفض صوته كان أبلغ في تجريد همته وقصده للمدعو سبحانه .
و " سادسها " - وهو من النكت البديعة جدا - أنه دال على قرب صاحبه للقريب لا مسألة نداء البعيد للبعيد ; ولهذا أثنى الله على عبده زكريا بقوله عز وجل : { إذ نادى ربه نداء خفيا } [ ص: 17 ] فلما استحضر القلب قرب الله عز وجل وأنه أقرب إليه من كل قريب أخفى دعاءه ما أمكنه .
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح : { الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فقال : أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته } " . وقد قال تعالى : { لما رفع وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } وهذا القرب من الداعي هو قرب خاص ليس قربا عاما من كل أحد فهو قريب من داعيه وقريب من عابديه وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد .
وقوله تعالى { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } فيه الإرشاد والإعلام بهذا القرب .
و " سابعها " أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب بخلاف ما إذا رفع صوته فإنه قد يمل اللسان وتضعف قواه . وهذا نظير من يقرأ ويكرر فإذا رفع صوته فإنه لا يطول له ; بخلاف من خفض صوته .
و " ثامنها " أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات ; [ ص: 18 ] فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد فلا يحصل على هذا تشويش ولا غيره وإذا جهر به فرطت له الأرواح البشرية ولا بد ومانعته وعارضته ولو لم يكن إلا أن تعلقها به يفزع عليه همته ; فيضعف أثر الدعاء ومن له تجربة يعرف هذا فإذا أسر الدعاء أمن هذه المفسدة .
و " تاسعها " أن أعظم النعمة الإقبال والتعبد ولكل نعمة حاسد على قدرها دقت أو جلت ولا نعمة أعظم من هذه النعمة فإن أنفس الحاسدين متعلقة بها وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد . وقد قال يعقوب ليوسف عليهما السلام { لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا } الآية . وكم من صاحب قلب وجمعية وحال مع الله تعالى قد تحدث بها وأخبر بها فسلبه إياها الأغيار ; ولهذا يوصي العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله تعالى ولا يطلع عليه أحد والقوم أعظم شيئا كتمانا لأحوالهم مع الله عز وجل وما وهب الله من محبته والأنس به وجمعية القلب ولا سيما فعله للمهتدي السالك فإذا تمكن أحدهم وقوي وثبت أصول تلك الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء في قلبه - بحيث لا يخشى عليه من العواصف فإنه إذا أبدى حاله مع الله تعالى ليقتدى به ويؤتم به - لم يبال . وهذا باب عظيم النفع إنما يعرفه أهله .
[ ص: 19 ] وإذا كان الدعاء المأمور بإخفائه يتضمن دعاء الطلب والثناء والمحبة والإقبال على الله تعالى فهو من عظيم الكنوز التي هي أحق بالإخفاء عن أعين الحاسدين وهذه فائدة شريفة نافعة .
و " عاشرها " أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه وتعالى متضمن للطلب والثناء عليه بأوصافه وأسمائه فهو ذكر وزيادة كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه للطلب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " { } " فسمى الحمد لله دعاء وهو ثناء محض ; لأن الحمد متضمن الحب والثناء والحب أعلى أنواع الطلب ; فالحامد طالب للمحبوب فهو أحق أن يسمى داعيا من السائل الطالب ; فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب فهو دعاء حقيقة بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذي هو دونه . أفضل الدعاء الحمد لله
و " المقصود " أن وقد قال تعالى : { كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة } فأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكره في نفسه قال مجاهد : أمروا أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت والصياح وتأمل كيف قال في آية الذكر : { وابن جريج واذكر ربك } الآية . وفي آية الدعاء : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } فذكر التضرع فيهما معا وهو التذلل والتمسكن والانكسار [ ص: 20 ] وهو روح الذكر والدعاء .
وخص الدعاء بالخفية لما ذكرنا من الحكم وغيرها فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها ; ولا بد لمن أكثر من ذكر الله أن يثمر له ذلك محبته والمحبة ما لم تقترن بالخوف فإنها لا تنفع صاحبها بل تضره ; لأنها توجب التواني والانبساط وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أن استغنوا بها عن الواجبات وقالوا : المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله . ومحبته له فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل . وخص الذكر بالخيفة لحاجة الذاكر إلى الخوف
ولقد حدثني رجلا أنه أنكر على بعض هؤلاء خلوة له ترك فيها الجمعة فقال له الشيخ أليس الفقهاء يقولون : إذا خاف على شيء من ماله فإن الجمعة تسقط ؟ فقال له : بلى . فقال له : فقلب المريد أعز عليه من عشرة دراهم - أو كما قال - وهو إذا خرج ضاع قلبه فحفظه لقلبه عذر مسقط للجمعة في حقه . فقال له : هذا غرور بك الواجب الخروج إلى أمر الله عز وجل . فتأمل هذا الغرور العظيم كيف أدى إلى الانسلاخ عن الإسلام جملة فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام كانسلاخ الحية من قشرها وهو يظن أنه من خاصة الخاصة .
[ ص: 21 ] وسبب هذا عدم اقتران الخوف من الله بحبه وإرادته ; ولهذا قال بعض السلف : من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن .
والمقصود أن تجريد الحب والذكر عن الخوف يوقع في هذه المعاطب فإذا اقترن بالخوف جمعه على الطريق ورده إليها كلما كلها شيء كالخائف الذي معه سوط يضرب به مطيته ; لئلا تخرج عن الطريق . والرجا حاد يحدوها يطلب لها السير والحب قائدها وزمامها الذي يشوقها فإذا لم يكن للمطية سوط ولا عصا يردها إذا حادت عن الطريق خرجت عن الطريق وظلت عنها .
فما حفظت حدود الله ومحارمه ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته فمتى خلا القلب من هذه الثلاث فسد فسادا لا يرجى صلاحه أبدا ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانه بحسبه فتأمل أسرار القرآن وحكمته في اقتران الخيفة بالذكر والخفية بالدعاء مع دلالته على اقتران الخفية بالدعاء والخيفة بالذكر أيضا وذكر الطمع الذي هو الرجاء في آية الدعاء ; لأن الدعاء مبني عليه فإن الداعي ما لم يطمع في سؤاله ومطلوبه لم تتحرك نفسه لطلبه ; إذ طلب ما لا طمع له فيه ممتنع وذكر الخوف في آية الذكر لشدة حاجة الخائف [ ص: 22 ] إليه فذكر في كل آية ما هو اللائق بها من الخوف والطمع فتبارك من أنزل كلامه شفاء لما في الصدور .
إنه لا يحب المعتدين } قيل المراد أنه لا يحب المعتدين في الدعاء كالذي يسأل ما لا يليق به من منازل الأنبياء وغير ذلك . وقد روى وقوله تعالى { أبو داود في سننه عن { أنه سمع ابنه يقول : اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال : يا بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء عبد الله بن معقل } وعلى هذا تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من المعونة على المحرمات . وتارة يسأل ما لا يفعله الله مثل أن يسأل تخليده إلى يوم القيامة أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية : من الحاجة إلى الطعام والشراب . ويسأله بأن يطلعه على غيبه أو أن يجعله من المعصومين أو يهب له ولدا من غير زوجة ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله . فالاعتداء في الدعاء
وفسر الاعتداء برفع الصوت أيضا في الدعاء .
وبعد : فالآية أعم من ذلك كله وإن كان الاعتداء بالدعاء مرادا [ ص: 23 ] بها فهو من جملة المراد والله لا يحب المعتدين في كل شيء : دعاء كان أو غيره ; كما قال تعالى : { ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } وعلى هذا : فيكون أمر بدعائه وعبادته وأخبر أنه لا يحب أهل العدوان وهم يدعون معه غيره فهؤلاء أعظم المعتدين عدوانا ; فإن أعظم العدوان الشرك وهو وضع العبادة في غير موضعها فهذا العدوان لا بد أن يكون داخلا في قوله تعالى { إنه لا يحب المعتدين } ومن العدوان أن يدعوه غير متضرع ; بل دعاء هذا كالمستغني المدلي على ربه وهذا من أعظم الاعتداء لمنافاته لدعاء الذليل . فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد .
ومن الاعتداء أن يعبده بما لم يشرع ويثني عليه بما لم يثن به على نفسه ولا أذن فيه فإن هذا اعتداء في دعائه : الثناء والعبادة وهو نظير الاعتداء في دعاء المسألة والطلب .
وعلى هذا فتكون الآية دالة على شيئين : " أحدهما " محبوب للرب سبحانه وهو الدعاء تضرعا وخفية .
" الثاني " مكروه له مسخوط وهو الاعتداء فأمر بما يحبه وندب إليه وحذر مما يبغضه وزجر عنه بما هو أبلغ طرق الزجر والتحذير [ ص: 24 ] وهو لا يحب فاعله ومن لا يحبه الله فأي خير يناله ؟ وقوله تعالى { إنه لا يحب المعتدين } عقيب قوله : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } دليل على أن من لم يدعه تضرعا وخفية فهو من المعتدين الذين لا يحبهم ; فقسمت الآية الناس إلى قسمين ; داع لله تضرعا وخفية ومعتد بترك ذلك .
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } قال أكثر المفسرين : لا تفسدوا فيها بالمعاصي والداعي إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله [ مفسد ] فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم الفساد في الأرض بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو الشرك بالله ومخالفة أمره . قال الله تعالى : { وقوله تعالى { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس } قال عطية في الآية : ولا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم . وقال غير واحد من السلف : إذا قحط المطر فالدواب تلعن عصاة بني آدم فتقول : اللهم العنهم فبسببهم أجدبت الأرض وقحط المطر .
و " بالجملة " فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره أو مطاع متبع غير الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعظم الفساد [ ص: 25 ] في الأرض ولا صلاح لها ولأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود والدعوة له لا لغيره والطاعة والاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن أمر بمعصيته فلا سمع ولا طاعة : فإن الله أصلح الأرض برسوله صلى الله عليه وسلم ودينه وبالأمر بالتوحيد ونهى عن فسادها بالشرك به ومخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم . وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك ; فسببه مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى غير الله . ومن تدبر هذا حق التدبر وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه وفي غيره عموما وخصوصا ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وادعوه خوفا وطمعا } إنما ذكر الأمر بالدعاء لما ذكره معه من الخوف والطمع فأمر أولا بدعائه تضرعا وخفية ثم أمر أيضا أن يكون الدعاء خوفا وطمعا . وقوله تعالى {
وفصل الجملتين بجملتين : " إحداهما " خبرية ومتضمنة للنهي وهي قوله : { إنه لا يحب المعتدين } [ ص: 26 ] .
و " الثانية " طلبية . وهي قوله تعالى { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } والجملتان مقررتان للجملة الأولى مؤكدتان لمضمونها .
ثم لما تم تقريرها وبيان ما يضاده أمر بدعائه خوفا وطمعا ; لتعلق قوله { إنه لا يحب المعتدين } بقوله تعالى : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } .
ولما كان قوله : { وادعوه خوفا وطمعا } مشتملا على جميع مقامات الإيمان والإحسان وهي الحب والخوف والرجاء : عقبها بقوله { إن رحمة الله قريب من المحسنين } أي : إنما تنال من دعاه خوفا وطمعا فهو المحسن والرحمة قريب منه ; لأن مدار الإحسان على هذه الأصول الثلاثة .
ولما كان دعاء التضرع والخفية يقابل الاعتداء بعدم التضرع والخفية عقب ذلك بقوله تعالى : { إنه لا يحب المعتدين } . وانتصاب قوله : { تضرعا وخفية } { خوفا وطمعا } على الحال أي ادعوه متضرعين إليه مختفين خائفين مطيعين .
وقوله : { إن رحمة الله قريب من المحسنين } فيه تنبيه ظاهر على أن فعل هذا المأمور هو الإحسان المطلوب منكم ومطلوبكم أنتم من [ ص: 27 ] الله رحمته ورحمته قريب من المحسنين الذين فعلوا ما أمروا به من دعائه تضرعا وخفية وخوفا وطمعا . فقرر مطلوبكم منه وهو الرحمة بحسب أدائكم لمطلوبه وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم .
وقوله تعالى { إن رحمة الله قريب من المحسنين } له دلالة بمنطوقه ودلالة بإيمائه وتعليله بمفهومه . فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل الإحسان ودلالته بإيمائه وتعليله على أن هذا القرب مستحق بالإحسان وهو السبب في قرب الرحمة منهم ودلالته بمفهومه على بعده من غير المحسنين .
فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة ; وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة لأنها إحسان من الله عز وجل أرحم الراحمين وإحسانه تبارك وتعالى إنما يكون لأهل الإحسان ; لأن الجزاء من جنس العمل وكلما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته وأما من لم يكن من أهل الإحسان فإنه لما بعد عن الإحسان بعدت عنه الرحمة بعد ببعد وقرب بقرب فمن تقرب إليه بالإحسان تقرب الله إليه برحمته ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته .
والله سبحانه يحب المحسنين ويبغض من ليس من المحسنين ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيء منه ومن أبغضه الله فرحمته أبعد [ ص: 28 ] شيء منه والإحسان هاهنا هو فعل المأمور به سواء كان إحسانا إلى الناس أو إلى نفسه فأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله تعالى والإقبال إليه والتوكل عليه وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالا ومهابة وحياء ومحبة وخشية .
فهذا هو مقام " الإحسان " كما { جبريل عليه السلام عن الإحسان ; فقال : أن تعبد الله كأنك تراه } " فإذا كان هذا هو الإحسان فرحمته قريب من صاحبه ; وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان يعني هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سأله ابن عباس - رضي الله عنهما - هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة ؟ .
وقد ذكر وغيره من حديث ابن أبي شيبة عن الزبير بن عدي أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : { قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } ثم قال : هل تدرون ما قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة } " . آخر الكلام على الآيتين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .