[ ص: 231 ] وقد قيل في قد أفلح من زكاها } { وقد خاب من دساها } إن الضمير عائد إلى " الله " أي " قد أفلح من زكاها الله وقد خاب من دساها الله " . وهذا مخالف للظاهر بعيد عن نهج البيان الذي ألف عليه القرآن إذ كان الأحسن " قد أفلحت من زكاها الله وقد خابت من دساها " وهذا ضعيف . قوله : {
وأيضا فقوله { فألهمها فجورها وتقواها } بيان للقدر فلا حاجة إلى ذكره . مرة ثانية عقب ذلك في مثل هذه السورة القصيرة .
ولهذا لم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم في إلا هذه الآية دون الثانية كما في صحيح إثبات القدر مسلم عن قال قال لي أبي الأسود الدؤلي عمران بن حصين : أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم ؟ فقلت : بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم . قال فقال : [ أ ] فلا يكون ذلك ظلما ؟ قال : ففزعت من ذلك فزعا شديدا وقلت : [ كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون ] . فقال لي : يرحمك الله : إني لم أرد بما سألتك إلا لأحرز عقلك . فإن { مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم [ من قدر ] [ ص: 232 ] قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم ؟ فقال : لا بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم } وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل { رجلين من ونفس وما سواها } { فألهمها فجورها وتقواها } فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن تصديق ما أخبر به من القضاء قوله { فألهمها فجورها وتقواها
} والذي في الحديث هو القدر السابق من علم الله وكتابه وكلامه ; وهذا إنما تنكره غالية القدرية . وأما [ الذي في القرآن فهو وهذا أبلغ . فإن خلق الله أفعال العباد القدرية المجوسية تنكره .
فالذي في القرآن يدل على ما في الحديث وزيادة ولهذا جعله النبي صلى الله عليه وسلم مصدقا له . وذلك من وجوه .
أحدها : أنه إذا علم أن الله هو الملهم للفجور والتقوى ولم يكن في ذلك ظلم كما تقوله القدرية الإبليسية ولا مخالفة للأمر والنهي والوعد والوعيد كما تقوله القدرية المشركية [ ف الإقرار بأن الله كتب ذلك وقدره قبل وجوده مما لا نزاع فيه عند الإنسان من جهة القدر . ولهذا قد أقر بالقدر السابق جمهور القدرية الذين ينكرون خلق الأفعال . ولم يثبت أحد من القدرية أن الله خالق أفعال العباد وينكره من جهة القدر أن الله خالق ذلك .
[ ص: 233 ] الوجه الثاني : أنه إذا ثبت أن الله خالق فعل العبد وأنه الملهم الفجور والتقوى كان ذلك من جملة مصنوعاته والشبهة التي عرضت للقدرية التي سأل المزنيان النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي في أعمال العباد التي عليها الثواب والعقاب خاصة ولم ينكروا من جهة القدر أن الله قدر ما يخلقه هو قبل وجوده . وإنما أنكر من أنكر منهم إذا اشتبه أمر أفعال العباد .
وهؤلاء يقولون إن الله يقدر الأمور قبل وجودها إلا أفعال العباد والسعادة والشقاوة . فإن ذلك لا ينبغي أن يعلمه حتى يكون لأن أمر الأمير بما يعلم أن المكلف لا يطيعه فيه بل يكون ضررا عليه مستقبح عندهم . وقد حكى طوائف من المصنفين في أصول الفقه وغيرهم الخلاف في ذلك عن المعتزلة . وقالوا : يجوز أن الله يأمر العبد بما يعلم أنه لا يفعله خلافا للمعتزلة . لأن في جنس المعتزلة من يخالف في ذلك وأكثرهم لا يخالف في ذلك ; وإنما يخالف فيه طائفة منهم .
فإذا كان القرآن قد أثبت أنه الملهم للنفس فجورها وتقواها كان ذلك من جملة مفعولاته . فلا تبقى شبهة القدرية أنه قدر ذلك قبل وجوده كما لا شبهة عندهم في تقديره لما يخلقه من الأعيان والصفات .
وأما من أنكر تقديره العلم من منكرة الصفات أو بعضها فأولئك [ ص: 234 ] لهم مأخذ آخر ليس مأخذهم أمر الصفات .
الوجه الثالث : أنه قد كان ألهم الفجور والتقوى وهو خالق فعل العبد . فلا بد أن يعلم ما خلقه قبل أن يخلقه كما قال { ألا يعلم من خلق } لأن الفاعل المختار يريد ما يفعله والإرادة مستلزمة لتصور المراد . وذلك هو العلم بالمراد المفعول .
وإذا كان خلقه للشيء مستلزما لعلمه به فذلك أصل القدر السابق وما علمه الله سبحانه بقوله وبكتبه فلا نزاع فيه . وهذا بين في جميع الأشياء في هذا وغيره .
فإنه سبحانه إذا ألهم الفجور والتقوى فالملهم إن [ لم يميز بين الفجور والتقوى ويعلم أن هذا الفعل الذي يريد أن يفعله هذا فجور والذي يريد أن يفعله هذا تقوى لم يصح منه إلهام الفجور والتقوى .
فظهر بهذا حسن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من تصديق الآية لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من القدر السابق .
وقوله سبحانه { فألهمها فجورها وتقواها } كما يدل على القدر فيدل على الشرع . فإنه لو قال " فألهمها أفعالها " كما يقول الناس [ ص: 235 ] " خالق أفعال العباد " لم يكن في ذلك تمييز بين الخير والشر والمحبوب والمكروه والمأمور به والمنهي عنه . بل كان فيه حجة للمشركين من المباحية والجبرية الذين يدفعون الأمر والنهي والحسن والقبح ; فإنه خلق أفعال العباد . فلما قال { فألهمها فجورها وتقواها } كان الكلام تفريقا بين الحسن المأمور به والقبيح المنهي عنه وأن الأفعال منقسمة إلى حسن وسيئ مع كونه تعالى خالق الصنفين .
وهذه طريقة القرآن في غير موضع يذكر المؤمن والكافر وأفعالهما الحسنة والسيئة [ و وعده ووعيده ; ويذكر أنه خالق الصنفين كقوله { يضل من يشاء ويهدي من يشاء } ونحو ذلك .
وهذا الأصل ضلت فيه الجبرية والقدرية : فإن القدرية المجوسية قالوا : إن الأفعال تنقسم إلى حسن وقبيح لصفات قائمة بها والعبد هو المحدث لها بدون قدرة الله وبدون خلقه .
فقالت الجبرية : بل العبد مجبور على فعله والجبر حق يوجب وجود أفعاله عند وجود الأسباب التي يخلقها الله وامتناع وجودها عند عدم شيء من الأسباب . وإذا كان مجبورا يمتنع أن يكون الفعل حسنا أو قبيحا لمعنى يقوم به .
[ ص: 236 ] وهذه طريقة أبي عبد الله الرازي ونحوه من الجبرية . والأولى طريقة النافين لانقسام الفعل في نفسه إلى حسن وقبيح أبي الحسين البصري ونحوه من القدرية القائلين بأن فعل العبد لم يحدثه إلا هو والعلم بذلك ضروري أو نظري ; وأن الفعل ينقسم في نفسه إلى حسن وقبيح والعلم بذلك ضروري .
وأبو الحسين هو إمام المتأخرين من المعتزلة وله من العقل والفضل ما ليس لأكثر نظرائه . لكن هو قليل المعرفة بالسنن ومعاني القرآن وطريقة السلف .
وهو وأبو عبد الله الرازي في هذا الباب في طرفي نقيض ومع كل منهما من الحق ما ليس مع الآخر . فأبو الحسين يدعي أن العلم بأن العبد يحدث فعله ضروري والرازي يدعي [ أن العلم بأن افتقار الفعل المحدث الممكن إلى مرجح يجب وجوده عنده ويمتنع عند عدمه ضروري كذلك . بل كلاهما صادق فيما ذكره من العلم الضروري .
ثم يعتقد كل فريق أن هذا العلم الضروري يبطل ما ادعاه الآخر من الضرورة وليس الأمر كذلك . بل كلاهما صادق فيما ذكره من العلم الضروري ومصيب في ذلك وإنما وقع غلطه في إنكاره ما مع الآخر من الخلق . فإنه لا منافاة بين كون العبد محدثا لفعله وكون [ ص: 237 ] هذا الإحداث ممكن الوجود بمشيئة الله تعالى .
ولهذا كان أهل السنة المحضة أن العبد فاعل لفعله حقيقة كما ادعاه مذهب أبو الحسين من الضرورة ; لا يقولون : ليس بفاعل حقيقة أو ليس بفاعل كما يقوله المائلون إلى الجبر مثل طائفة أبي عبد الله الرازي . يقولون مع ذلك : إن الله هو الخالق لهذا الفاعل ولفعله وهو الذي جعله فاعلا حقيقة وهو خالق أفعال العباد كما يقوله أهل الإثبات من الأشعرية طائفة الرازي وغيرهم ; لا كما يقوله القدرية مثل أبي الحسين وطائفته : إن الله لم يخلق أفعال العباد .
ولهذا نص الأئمة ومن قبله من الأئمة كالإمام أحمد كالأوزاعي وغيره على " ولا يقال " لم يجبرهم " . فإن لفظ " الجبر " فيه اشتراك وإجمال . فإذا قيل " جبرهم " [ أشعر بأن الله يجبرهم على فعل الخير والشر بغير اختيارهم وإذا قيل " لم يجبرهم " أشعر بأنهم يفعلون ما يشاءون بغير اختياره وكلاهما خطأ . وقد بسطنا القول في هذا في غير هذا الموضع . إنكار إطلاق القول بالجبر نفيا وإثباتا فلا يقال " إن الله جبر العباد
والمقصود هنا أن هذين الفريقين اعتقدوا تنافي القدر والشرع كما اعتقد ذلك المجوس والمشركون فقالوا : إذا كان خالقا للفعل امتنع [ ص: 238 ] أن يكون الفعل في نفسه حسنا له ثواب أو قبيحا عليه عقاب . ثم قالت القدرية : لكن الفعل منقسم فليس خالقا للفعل . وقالت الجبرية : لكنه خالق فليس الفعل منقسما .
ولكن الجبرية المقرون بالرسل يقرون بالانقسام من جهة أمر الشارع ونهيه فقط ويقولون : له أن يأمر بما شاء لا لمعنى فيه وينهى عما يشاء لا لأجل معنى فيه ويقولون في خلقه وفي أمره جميعا : يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .
وأما من غلب عليه رأي أو هوى فإنه ينحل عن ربقة الشارع إذا عاين الجبر ويقولون ما يقوله المشركون { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء }
ومن أقر بالشرع والأمر والنهي والحسن والقبح دون القدر وخلق الأفعال كما عليه المعتزلة فهو من القدرية المجوسية الذين شابهوا المجوس . وللمعتزلة من مشابهة المجوس واليهود نصيب وافر .
ومن أقر بالقضاء والقدر وخلق الأفعال وعموم الربوبية وأنكر المعروف والمنكر والهدى والضلال والحسنات والسيئات ففيه شبه من المشركين والصابئة .
[ ص: 239 ] وكان الجهم بن صفوان ومن اتبعه كذلك لما ناظر أهل الهند كما كان المعتزلة كذلك لما ناظروا المجوس الفرس والمجوس أرجح من المشركين .
فإن فهو مشرك صريح كافر أكفر من من أنكر الأمر والنهي أو لم يقر بذلك اليهود والنصارى والمجوس كما يوجد ذلك في كثير من المتكلمة والمتصوفة أهل الإباحة ونحوهم .
ولهذا لم يظهر هؤلاء ونحوهم في عصر الصحابة والتابعين لقرب عهدهم بالنبوة . وإنما ظهر أولئك القدرية المجوسية لأن مذهبهم فيه تعظيم للأمر والنهي والثواب والعقاب . فهم أقرب إلى الكتاب والسنة والرسول والدين من هؤلاء المعطلة للأمر والنهي فإن هؤلاء من شر الخلق .
وأما القدرية الإبليسية فهم الذين يقرون بوجود الأمر والنهي من الله ويقرون مع ذلك بوجود القضاء والقدر منه لكن يقولون : هذا فيه جهل وظلم . فإنه بتناقضه يكون جهلا وسفها وبما فيه من عقوبة العبد بما خلق فيه يكون ظلما .
وهذا حال إبليس . فإنه قال { بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين } . فأقر بأن الله أغواه ثم جعل ذلك عنده داعيا يقتضي أن يغوي هو ذرية آدم .
وإبليس هو أول من عادى الله وطغى في خلقه وأمره وعارض النص بالقياس . ولهذا يقول بعض السلف : أول من قاس إبليس . فإن الله أمره بالسجود لآدم فاعترض على هذا الأمر بأني خير منه وامتنع من السجود . فهو أول من عادى الله وهو الجاهل الظالم الجاهل بما في أمر الله من الحكمة الظالم باستكباره الذي جمع فيه بين بطر الحق وغمط الناس .
ثم قوله لربه " فبما أغويتني لأفعلن " جعل فعل الله الذي هو إغواؤه له حجة له وداعيا إلى أن يغوي ابن آدم . وهذا طعن منه في فعل الله وأمره وزعم منه أنه قبيح فأنا أفعل القبيح أيضا . فقاس نفسه على ربه ومثل نفسه بربه .
ولهذا كان مضاهيا للربوبية كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم { } . : إن إبليس ينصب عرشه على البحر ثم يبعث سراياه فأعظمهم فتنة أقربهم إليه منزلة . فيجيء الرجل فيقول : ما زلت به حتى فعل كذا . ثم يجيء الآخر فيقول : ما زلت به حتى فرقت بينه وبين زوجته فيلتزمه ويدنيه منه ويقول : أنت أنت
[ ص: 241 ] والقدرية قصدوا تنزيه الله عن السفه وأحسنوا في هذا القصد . فإنه سبحانه مقدس عما يقول الظالمون من إبليس وجنوده علوا كبيرا حكم عدل . لكن ضاق ذرعهم وحصل عندهم نوع جهل اعتقدوا معه أن هذا التنزيه لا يتم إلا بأن يسلبوه قدرته على أفعال العباد وخلقه لها وشمول إرادته لكل شيء . فناظروا إبليس وحزبه في شيء واستحوذ عليهم إبليس من ناحية أخرى .
وهذا من أعظم آفات الجدال في الدين بغير علم أو بغير الحق . وهو الكلام الذي ذمه السلف فإن صاحبه يرد باطلا بباطل وبدعة ببدعة .
فجاء طوائف ممن ناظرهم من أهل الإثبات ليقرروا أن الله خالق كل شيء ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه على كل شيء قدير . فضاق ذرعهم وعلمهم واعتقدوا أن هذا لا يتم إن لم ننكر محبة الله ورضاه وما خص به بعض الأفعال دون بعض من الصفات الحسنة والسيئة ; وننكر حكمته ورحمته فيجوز عليه كل فعل لا ينزه عن ظلم ولا غيره من الأفعال .
وزاد قوم في ذلك حتى عطلوا الأمر والنهي والوعد والوعيد رأسا . ومال هؤلاء إلى الإرجاء كما مال الأولون إلى الوعيد . فقالت الوعيدية : [ ص: 242 ] كل فاسق خالد في النار لا يخرج منها أبدا ; وقالت الخوارج : هو كافر . وغالية المرجئة أنكرت عقاب أحد من أهل القبلة . ومن صرح بالكفر أنكر الوعيد في الآخرة رأسا كما يفعله طوائف من الاتحادية والمتفلسفة والقرامطة والباطنية . وكان هؤلاء الجبرية المرجئة أكفر بالأمر والنهي والوعد والوعيد من المعتزلة الوعيدية القدرية .
وأما مقتصدة المرجئة الجبرية الذين يقرون بالأمر والنهي والوعد والوعيد وأن من أهل القبلة من يدخل النار فهؤلاء أقرب الناس إلى أهل السنة .
وقد روى الترمذي { القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا أنا آخرهم } . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لعنت
لكن المعتزلة من القدرية أصلح من الجبرية والمرجئة ونحوهم في الشريعة علمها وعملها . فكلامهم في أصول الفقه وفي اتباع الأمر والنهي خير من كلام المرجئة من الأشعرية وغيرهم . فإن كلام هؤلاء في أصول الفقه قاصر جدا وكذلك هم مقصرون في تعظيم الطاعات والمعاصي . ولكن هم في أصول الدين أصلح من أولئك فإنهم يؤمنون من صفات الله وقدرته وخلقه بما لا يؤمن به أولئك . وهذا الصنف أعلى .
[ ص: 243 ] فلهذا كانت المرجئة في الجملة خيرا من القدرية حتى إن الإرجاء دخل فيه الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم بخلاف الاعتزال . فإنه ليس فيه أحد من فقهاء السلف وأئمتهم .