قال أبو الفرج : في تكرار الكلام قولان . أحدهما أنه لتأكيد الأمر وحسم أطماعهم فيه قاله الفراء . وقد أفعمنا هذا في سورة الرحمن قال : ابن قتيبة . قال : وهذه مذاهب التكرير في سورة الرحمن للتوكيد العرب أن التكرير للتوكيد والإفهام كما أن مذاهبهم الاختصار للتخفيف [ ص: 535 ] والإيجاز . لأن افتنان المتعلم والخطيب في الفنون أحسن من اقتصاده في المقام على فن واحد . يقول القائل : والله لا أفعله ثم والله لا أفعله إذا أراد التوكيد وحسم الأطماع من أن يفعله كما يقول : والله أفعله ؟ بإضمار " لا " إذا أراد الاختصار . ويقول للمرسل . المستعجل : اعجل اعجل والرامي : ارم ارم ; قال الشاعر :
كم نعمة كانت لكم وكم وكم ؟
وقال الآخر :هل سألت جموع كندة يوم ولوا أين أينا ؟
قال : فلما عدد الله في هذه السورة إنعامه وذكر عباده آلاءه ونبههم على قدرته جعل كل كلمة فاصلة بين نعمتين لتفهيمهم النعم وتقريرهم بها كقولك للرجل : ألم أنزلك منزلا وكنت طريدا ؟ أفتنكر هذا ؟ ألم أحج بك وكنت صرورا ؟ أفتنكر هذا ؟ . ابن قتيبة
قلت قال : ابن قتيبة قل يا أيها الكافرون } . [ ص: 536 ] لتكرار الوقت . وذلك أنهم قالوا : إن سرك أن ندخل في دينك عاما فادخل في ديننا عاما . فنزلت هذه السورة . تكرار الكلام في {
قلت : هذا الكلام الذي ذكره بإعادة اللفظ وإن كان كلام العرب وغير العرب فإن جميع الأمم يؤكدون إما في الطلب وإما في الخبر بتكرار الكلام . ومنه { قريشا ثم والله لأغزون قريشا ثم والله لأغزون قريشا . ثم قال : إن شاء الله . ثم لم يغزهم } " قول النبي صلى الله عليه وسلم والله لأغزون
. وروي عنه { تبوك كان يقود به حذيفة ويسوق به عمار فخرج بضعة عشر رجلا حتى صعدوا العقبة ركبانا متلثمين وكانوا قد أرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لحذيفة : قد قد ولعمار : سق سق } . أنه في غزوة
فهذا أكثر لكن ليس في القرآن من هذا شيء . فإن القرآن له شأن اختص به لا يشبهه كلام البشر لا كلام نبي ولا غيره وإن كان نزل بلغة العرب . فلا يقدر مخلوق أن يأتي بسورة ولا ببعض سورة مثله .
فليس في القرآن تكرار للفظ بعينه عقب الأول قط . وإنما في [ ص: 537 ] سورة الرحمن خطابه بذلك بعد كل آية لم يذكر متواليا . وهذا النمط أرفع من الأول .
وكذلك قصص القرآن ليس فيها تكرار كما ظنه بعضهم .
و { قل يا أيها الكافرون } ليس فيها لفظ تكرار إلا قوله { ولا أنتم عابدون ما أعبد } وهو مع الفصل بينهما بجملة .
وقد شبهوا ما في سورة الرحمن بقول القائل لمن أحسن إليه وتابع عليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها : ألم تك فقيرا فأغنيتك ؟ أفتنكر هذا ؟ ألم تك عريانا فكسوتك ؟ أفتنكر هذا ؟ ألم تك خاملا فعرفتك ؟ ونحو ذلك . وهذا أقرب من التكرار المتوالي كما في اليمين المكررة .
وكذلك ما يقوله بعضهم إنه قد يعطف الشيء لمجرد تغاير اللفظ كقوله :
فألفى قولها كذبا ومينا
فليس في القرآن من هذا شيء . ولا يذكر فيه لفظا زائدا إلا لمعنى زائد وإن كان في ضمن ذلك التوكيد وما يجيء من زيادة اللفظ في مثل قوله { فبما رحمة من الله لنت لهم } وقوله { عما قليل ليصبحن نادمين } وقوله { قليلا ما تذكرون } فالمعنى مع هذا أزيد من المعنى بدونه . فزيادة اللفظ لزيادة المعنى وقوة اللفظ لقوة المعنى . والضم أقوى [ ص: 538 ] من الكسر والكسر أقوى من الفتح . ولهذا يقطع على الضم لما هو أقوى مثل " الكره " و " الكره " . فالكره هو الشيء المكروه كقوله { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } والكره المصدر كقوله { طوعا وكرها } . والشيء الذي في نفسه مكروه أقوى من نفس كراهة الكاره .وكذلك " الذبح " و " الذبح " فالذبح : المذبوح كقوله { وفديناه بذبح عظيم } والذبح : الفعل . والذبح . مذبوح وهو جسد يذبح فهو أكمل من نفس الفعل .
قال أبو الفرج : والقول الثاني أن المعنى : { لا أعبد ما تعبدون } في حالي هذه { ولا أنتم } في حالكم هذه { عابدون ما أعبد } { ولا أنا عابد ما عبدتم } في ما استقبل وكذلك { أنتم } فنفى عنهم في الحال والاستقبال . وهذا في قوم بأعيانهم أعلمه الله أنهم لا يؤمنون كما ذكرناه عن مقاتل . فلا يكون حينئذ تكرار . قال : وهذا قول ثعلب والزجاج .
قلت : قد ذكر القولين جماعة لكن منهم من جعل القول الأول قول أكثر أهل المعاني . فقالوا واللفظ للبغوي : معنى الآية : لا أعبد ما تعبدون في الحال ولا أنا عابد ما عبدتم في الاستقبال [ ص: 539 ] ولا أنتم عابدون ما أعبد في الاستقبال . وهذا خطاب لمن سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون .
قال وقال أكثر أهل المعاني : نزل بلسان العرب على مجاري خطابهم . ومن مذاهبهم التكرار إرادة للتوكيد والإفهام كما أن من مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز .
قلت : ومن المفسرين من لم يذكر غير الثاني منهم المهدوي . قال وابن عطية : لما كان قوله : { ابن عطية لا أعبد } محتملا أن يراد به الآن ويبقى المستأنف منتظرا ما يكون فيه من عبادته جاء البيان بقوله { ولا أنا عابد ما عبدتم } أي أبدا ما حييت . ثم جاء قوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } الثاني حتما عليهم أنهم لا يؤمنون أبدا كالذين كشف الغيب عنهم كما قيل لنوح { أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } أما إن هذا فخطاب لمعينين وقوم نوح قد عموا بذلك .
قال : فهذا معنى الترديد الذي في السورة وهو بارع الفصاحة . وليس هو بتكرار فقط بل فيه ما ذكرته مع الإبلاغ والتوكيد وزيادة الأمر بيانا وتبريا منهم .
قلت : هذا القول أجود من الذي قبله من جهة بيانهم لمعنى [ ص: 540 ] زائد على التكرير . لكن فيه نقص من جهة أخرى . وهو جعلهم هذا خطابا لمعينين فنقصوا معنى السورة من هذا الوجه ، وهذا غلط .