[ ص: 286 ] فصل وأما الفلاسفة القائلون بأن العالم قديم صدر عن علة موجبة بذاته وأنه صدر عنه عقل ثم عقل ثم عقل إلى تمام عشرة عقول وتسعة أنفس . وقد يجعلون العقل بمنزلة الذكر والنفس بمنزلة الأنثى فهؤلاء قولهم أفسد من قول مشركي ما يقوله العرب وأهل الكتاب عقلا وشرعا ودلالة القرآن على فساده أبلغ وذلك من وجوه . أحدها : أن هؤلاء يقولون : بقدم الأفلاك وقدم هذه الروحانيات التي يثبتونها ويسمونها المجردات والمفارقات والجواهر العقلية وأن ذلك لم يزل قديما أزليا وما كان قديما أزليا امتنع أن يكون مفعولا بوجه من الوجوه ولا يكون مفعولا إلا ما كان حادثا وهذه قضية بديهية عند جماهير العقلاء وعليها الأولون والآخرون من الفلاسفة وسائر الأمم ولهذا كان جماهير الأمم يقولون كل ممكن أن يوجد وأن لا يوجد فلا يكون إلا حادثا وإنما ادعى وجود ممكن قديم معلول طائفة من المتأخرين : ومن وافقه : زعموا أن الفلك [ ص: 287 ] قديم معلول لعلة قديمة . وأما كابن سينا الفلاسفة القدماء فمن كان منهم يقول بحدوث الفلك وهم جمهورهم ومن كان قبل أرسطو فهؤلاء موافقون لأهل الملل ومن قال بقدم الفلك كأرسطو وشيعته فإنما يثبتون له علة غائية يتشبه الفلك بها لا يثبتون له علة فاعلة وما يثبتونه من العقول والنفوس فهو من جنس الفلك كل ذلك قديم واجب بنفسه وإن كان له علة غائية وهؤلاء أكفر من هؤلاء المتأخرين لكن الغرض أن يعرفوا أن قول هؤلاء ليس قول أولئك . الثاني : أن هؤلاء يقولون : إن الرب واحد والواحد لا يصدر عنه إلا واحد ويعنون بكونه واحدا أنه ليس له صفة ثبوتية أصلا ولا يعقل فيه معان متعددة ; لأن ذلك عندهم تركيب ولهذا يقولون : لا يكون فاعلا وقابلا لأن جهة الفعل غير جهة القبول وذلك يستلزم تعدد الصفة المستلزم للتركيب ومع هذا يقولون : إنه عاقل ومعقول وعقل وعاشق ومعشوق وعشق ولذيذ وملتذ ولذة إلى غير ذلك من المعاني المتعددة ويقولون : إن كل واحدة من هذه الصفات هي الصفة الأخرى والصفة هي الموصوف والعلم هو القدرة وهو الإرادة والعلم هو العالم وهو القادر .
ومن المتأخرين منهم من قال : العلم هو المعلوم فإذا تصور العاقل أقوالهم حق التصور تبين له أن هذا الواحد الذي أثبتوه لا يتصور [ ص: 288 ] وجوده إلا في الأذهان لا في الأعيان وقد بسط الكلام عليه وبين فساد ما يقولونه في التوحيد والصفات وبين فساد شبه التركيب من وجوه كثيرة في مواضع غير هذا وإذا كان كذلك فالأصل الذي بنوا عليه قولهم : " إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد " أصل فاسد . الثالث : أن يقال قولهم بصدور الأشياء مع ما فيها من الكثرة والحدوث عن واحد بسيط في غاية الفساد . الرابع : أنه لا يعلم في العالم واحد بسيط صدر عنه شيء لا واحد ولا اثنان فهذه الدعوى الكلية لا يعلم ثبوتها في شيء أصلا . الخامس : أنهم يقولون صدر عنه واحد وعن ذلك الواحد عقل ونفس وفلك فيقال : إن كان الصادر عنه واحدا من كل وجه فلا يصدر عن هذا الواحد إلا واحد أيضا فيلزم أن يكون كل ما في العالم إنما هو واحد عن واحد وهو مكابرة وإن كان في الصادر الأول كثرة ما بوجه من الوجوه فقد صدر عن الأول ما فيه كثرة ليس واحدا من كل وجه فقد صدر عن الواحد ما ليس بواحد . ولهذا اضطرب متأخروهم فأبو البركات صاحب " المعتبر " أبطل هذا القول ورده غاية الرد الحفيد زعم أن الفلك بما فيه صادر عن الأول . وابن رشد والطوسي وزير الملاحدة يقرب من هذا ; فجعل الأول [ ص: 289 ] شرطا في الثاني والثاني شرطا في الثالث وهم مشتركون في الضلال وهو إثبات جواهر قائمة بنفسها أزلية مع الرب لم تزل ولا تزال معه لم تكن مسبوقة بعدم وجعل الفلك أيضا أزليا وهذا وحده فيه من مخالفة صريح المعقول والكفر بما جاءت به الرسل ما فيه كفاية فكيف إذا ضم إليه غير ذلك من أقاويلهم المخالفة للعقل والنقل الوجه السادس : أن الصوادر المعلومة في العالم إنما تصدر عن اثنين وأما واحد وحده فلا يصدر عنه شيء كما تقدم التنبيه عليه في المتولدات من الأعيان والأعراض . وكل ما يذكرونه من صدور الحرارة عن الحار والبرودة عن البارد والشعاع عن الشمس وغير ذلك : فإنما هو صدور أعراض ومع هذا فلا بد لها من أصلين .
وأما صدور الأعيان عن غيرها فهذا لا يعلم إلا بالولادة المعروفة وتلك لا تكون إلا بانفصال جزء من الأصل وهذا الصدور والتولد والمعلولية التي يدعونها في العقول والنفوس والأفلاك يقولون إنها جواهر قائمة بأنفسها صدرت عن جوهر واحد بسيط فهذا من أبطل قول قيل في الصدور والتولد لأن فيه صدور جواهر عن جوهر واحد وهذا لا يعقل وفيه صدوره عنه من غير جزء منفصل من الأصل وهذا لا يعقل وهم غاية ما عندهم أن يشبهوا هذا بحدوث بعض الأعراض كالشعاع عن الشمس وحركة الخاتم عن حركة اليد وهذا تمثيل [ ص: 290 ] باطل لأن تلك ليست علة فاعلة وإنما هي شرط فقط والصادر هناك لم يكن عن أصل واحد بل عن أصلين والصادر عرض لا جوهر قائم بنفسه . فتبين أن ما ذكره هؤلاء من التولد العقلي الذي يدعونه من أبعد الأمور عن التولد والصدور وهو أبعد من قول النصارى ومشركي العرب وهم جعلوا مفعولاته بمنزلة صفة أزلية لازمة لذاته وقد ذكرنا أن هذا مما يمتنع أن يقال فيه أنه متولد عنه وحينئذ فهم في دعواهم إلهية العقول والنفوس والكواكب أكفر من هؤلاء وهؤلاء ومن جعل من المنتسبين إلى الملل منهم هؤلاء هم الملكية فقوله في جعل الملائكة متولدين عن الله شر من قول العرب وعوام النصارى فإن أولئك أثبتوا ولادة حسية وكونه صمدا يبطلها ; لكن ما أثبتوه معقول وهؤلاء ادعوا تولدا عقليا باطلا من كل وجه أبطل مما ادعته النصارى من تولد الكلمة عن الذات فكان نفي ما ادعوه أولى من نفي ما ادعاه أولئك لأن المحال الذي يعلم امتناعه في الخارج لا يمكن تصوره موجودا في الخارج فإنه يمتنع وجوده في الخارج بل هو يفرض في الذهن وجوده في الخارج وذلك إنما يمكن إذا كان له نظير من بعض الوجوه فيقدر له في الوجود الخارجي ما يشبهه كما إذا قدر مع الله إلها آخر وقدر أن له ولدا فإنه يشبه من له ولد من العباد ومن له شريك من [ ص: 291 ] العباد ثم يبين امتناع ذلك عليه فكلما كان المحال أبعد عن مشابهة الموجود كان أعظم استحالة . والولادة التي ادعتها النصارى ثم هؤلاء الفلاسفة : أبعد عن مشابهة الولادة المعلومة من الولادة التي ادعاها بعض مشركي العرب وعوام النصارى واليهود فكانت هذه الولادة العقلية أشد استحالة من تلك الولادة الحسية إذ الولادة الحسية تعقل في الأعيان القائمة بنفسها وأما الولادة العقلية فلا تعقل في الأعيان أصلا وأيضا فأولئك أثبتوا ولادة من أصلين وهذا هو الولادة المعقولة وهؤلاء أثبتوا ولادة من أصل واحد وأولئك أثبتوا ولادة بانفصال جزء وهذا معقول . وهؤلاء أثبتوا ولادة بدون ذلك وهو لا يعقل وأولئك أثبتوا ولادة قاسوها على ولادة الأعيان للأعيان وهؤلاء أثبتوا ولادة قاسوها على تولد الأعراض عن الأعيان فعلم أن قول أولئك أقرب إلى المعقول وهو باطل كما بين الله فساده وأنكره فقول هؤلاء أولى بالبطلان وهذا كما أن الله إذا كفر من أثبت مخلوقا يتخذ شفيعا معبودا من دون الله فمن أثبت قديما دون الله يعبد ويتخذ شفيعا كان أولى بالكفر .
ومن فقد كفره الله فمن أنكره مع قوله بقدم العالم فهو أعظم كفرا عند الله تعالى . وهذا كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى أمته عن مشابهة [ ص: 292 ] أنكر المعاد مع قوله بحدوث هذا العالم فارس المجوس والروم النصارى فنهيه عن مشابهة الروم اليونان المشركين والهند المشركين أعظم وأعظم وإذا كان ما دخل في بعض المسلمين من مشابهة اليهود والنصارى وفارس والروم مذموما عند الله ورسوله فما دخل من مشابهة اليونان والهند والترك المشركين وغيرهم من الأمم الذين هم أبعد عن الإسلام من أهل الكتاب ومن فارس والروم أولى أن يكون مذموما عند الله تعالى وأن يكون ذمه أعظم من ذاك . فهؤلاء الأمم الذين هم أبعد عن الإسلام الذين ابتلي بهم أواخر المسلمين شر من الأمم الذين ابتلي بهم أوائل المسلمين ; وذلك لأن الإسلام كان أهله أكمل وأعظم علما ودينا فإذا ابتلي بمن هو أرجح من هؤلاء غلبهم المسلمون لفضل علمهم ودينهم وأما هؤلاء المتأخرون فالمسلمون وإن كانوا أنقص من سلفهم فإنه يظهر رجحانهم على هؤلاء لعظم بعدهم عن الإسلام ولكن لما كثرت البدع من متأخري المسلمين استطال عليهم من استطال من هؤلاء ولبسوا عليهم دينهم وصارت شبه الفلاسفة أعظم عند هؤلاء من غيرهم كما صار قتال الترك الكفار أعظم من قتال من كان قبلهم عند أهل الزمان لأنهم إنما ابتلوا بسيوف هؤلاء وألسنة هؤلاء وكان فيهم من نقص الإيمان ما أورث ضعفا في العلم والجهاد وكما كان كثير من العرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا هذا . [ ص: 293 ] ومما يبين هذا أن مشركي العرب واليهود والنصارى يقولون إن الله خلق السموات والأرض بمشيئته وقدرته : بل يقولون : إنه خلق ذلك في ستة أيام وهؤلاء المتفلسفة عندهم لم يحدثها بعد أن لم تكن فضلا عن أن يكون ذلك في ستة أيام ثم يلبسون على المسلمين فيقولون العالم محدث يعنون بحدوثه أنه معلول علة قديمة فهو بمنزلة قولهم متولد عن الله تعالى لكن هو أمر لا حقيقة له ولا يعقل .
وأيضا فمشركو العرب وأهل الكتاب يقرون بالملائكة وإن كان كثير منهم يجعلون الملائكة والشياطين نوعا واحدا فمن خرج منهم عن طاعة الله أسقطه وصار شيطانا وينكرون أن يكون إبليس كان أبا الجن وأن يكون الجن ينكحون ويولدون ويأكلون ويشربون فهؤلاء النصارى الذين ينكرون هذا مع كفرهم هم خير من هؤلاء المتفلسفة فإن هؤلاء لا حقيقة للملائكة عندهم إلا ما يثبتونه من العقول والنفوس أو من أعراض تقوم بالأجسام كالقوى الصالحة وكذلك الجن جمهور أولئك يثبتونها فإن العرب كانت تثبت الجن وكذلك أكثر أهل الكتاب وهؤلاء لا يثبتونها ويجعلون الشياطين القوى الفاسدة وأيضا فمشركو العرب مع أهل الكتاب يدعون الله ويقولون إنه يسمع دعاءهم ويجيبهم . وهؤلاء عندهم لا يعلم شيئا من جزئيات العالم ولا يسمع دعاء أحد [ ص: 294 ] ولا يجيب أحدا ولا يحدث في العالم شيئا ولا سبب للحدوث عندهم إلا حركات الفلك والدعاء عندهم يؤثر لأنه تصرف النفس الناطقة في هيولى العالم وقد ثبت في الصحيح من حديث رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أبي هريرة } وهذا وإن كان متناولا قطعا لكفار يقول الله عز وجل : شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فأما شتمه إياي فقوله إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته العرب الذين قالوا هذا وهذا كما قال تعالى : { ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا } إلى قوله : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا } { لقد جئتم شيئا إدا } { تكاد السماوات يتفطرن منه } فذكر الله هذا وهذا فتناول النصوص لهؤلاء بطريق الأولى فإن هؤلاء ينكرون الإعادة والابتداء أيضا فلا يقولون : إن الله ابتدأ خلق السموات والأرض ولا كان للبشر ابتداء أولهم آدم وأما شتمهم إياه بقولهم اتخذ ولدا فهؤلاء عندهم الفلك كله لازم له معلول له أعظم من لزوم الولد والده والوالد له اختيار وقدرة في حدوث الولد منه وهؤلاء عندهم ليس لله مشيئة وقدرة في لزوم الفلك له بل ولا يمكنه أن يدفع لزومه عنه فالتولد الذي يثبتونه أبلغ من التولد الموجود في الخلق ولا يقولون : إنه اتخذ ولدا بقدرته فإنه لا يقدر [ ص: 295 ] عندهم على تغيير شيء من العالم بل ذلك لازم له لزوما : حقيقته أنه لم يفعل شيئا ; بل ولا هو موجود وإن سموه علة ومعلولا فعند التحقيق لا يرجعون إلى شيء محصل فإن في قولهم من التناقض والفساد أعظم مما في قول النصارى .
وقد ذكر طائفة من أهل الكلام أن قولهم بالعلة والمعلول من جنس قول غيرهم بالوالد والولد وأرادوا بذلك أن يجعلوهم من جنسهم في الذم وهذا تقصير عظيم بل أولئك خير من هؤلاء وهؤلاء إذا حققت ما يقوله من هو أقربهم إلى الإسلام وجدت غايته أن يكون الرب شرطا في وجود العالم لا فاعلا له وكذلك من سلك مسلكهم من المدعين للتحقيق من ملاحدة كابن رشد الحفيد الصوفية كابن عربي وابن سبعين حقيقة قولهم أن هذا العالم موجود واجب أزلي ليس له صانع غير نفسه وهم يقولون : الوجود واحد وحقيقة قولهم أنه ليس في الوجود خالق خلق موجودا آخر وكلامهم في المعاد والنبوات والتوحيد شر من كلام اليهود والنصارى وعباد الأصنام فإن هؤلاء يجوزون عبادة كل صنم في العالم لا يخصون بعض الأصنام بالعبادة .