وأما متأخرو المفسرين
كالثعلبي فيفرقون بين التفسير والتأويل . قال : فمعنى التفسير هو التنوير وكشف المغلق من المراد بلفظه
[ ص: 368 ] والتأويل : صرف الآية إلى معنى تحتمله يوافق ما قبلها وما بعدها وتكلم في الفرق بينهما بكلام ليس هذا موضعه إلا أن التأويل الذي ذكره . هو المعنى الثالث المتأخر
وأبو الفرج بن الجوزي يقول : اختلف العلماء
nindex.php?page=treesubj&link=28956_28710هل التفسير والتأويل بمعنى واحد ؟ أم يختلفان ؟ فذهب قوم يميلون إلى العربية : إلى أنهما بمعنى وهذا قول جمهور المفسرين المتقدمين . وذهب قوم يميلون إلى الفقه : إلى اختلافهما فقالوا : التفسير إخراج الشيء عن مقام الخفاء إلى مقام التجلي والتأويل : نقل الكلام عن وضعه إلى ما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ فهو مأخوذ من قولك آل الشيء إلى كذا . أي صار إليه فهؤلاء لا يذكرون للتأويل إلا المعنى الأول والثاني وأما التأويل في لغة القرآن فلا يذكرونه وقد عرف أن التأويل في القرآن هو الموجود الذي يئول إليه الكلام وإن كان ذلك موافقا المعنى الذي يظهر من اللفظ بل لا يعرف في القرآن لفظ التأويل مخالفا لما يدل عليه اللفظ خلاف اصطلاح المتأخرين .
nindex.php?page=treesubj&link=28956والكلام نوعان : إنشاء وإخبار . فالإنشاء الأمر والنهي والإباحة وتأويل الأمر والنهي نفس فعل المأمور ونفس ترك المحظور . كما في الصحيح {
nindex.php?page=hadith&LINKID=598007عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك [ ص: 369 ] اللهم اغفر لي يتأول القرآن } فكان هذا الكلام تأويل قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6326&ayano=110فسبح بحمد ربك واستغفره } . قال
ابن عيينة : السنة تأويل الأمر والنهي .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12074أبو عبيد لما ذكر اختلاف الفقهاء وأهل اللغة في {
nindex.php?page=hadith&LINKID=598008نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اشتمال الصماء } قال : والفقهاء أعلم بالتأويل . يقول : هم أعلم بتأويل ما أمر الله به ; وما نهى عنه فيعرفون أعيان الأفعال الموجودة التي أمر بها وأعيان الأفعال المحظورة التي نهى عنها . وتفسير كلامه ليس هو نفس ما يوجد في الخارج ; بل هو بيانه وشرحه وكشف معناه . فالتفسير من جنس الكلام : يفسر الكلام بكلام يوضحه . وأما التأويل فهو فعل المأمور به وترك المنهي عنه ليس هو من جنس الكلام . والنوع الثاني : الخبر كإخبار الرب عن نفسه تعالى بأسمائه وصفاته وإخباره عما ذكره لعباده من الوعد والوعيد وهذا هو التأويل المذكور في قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1013&ayano=7ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1014&ayano=7هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق } وهذا كقولهم : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3793&ayano=36يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } ومثله قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5728&ayano=77انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون } وقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5333&ayano=10ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } {
nindex.php?page=tafseer&surano=5334&ayano=67قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين }
[ ص: 370 ] {
nindex.php?page=tafseer&surano=5335&ayano=67فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون } ونظائره متعددة في القرآن . وكذلك قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1412&ayano=10أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1413&ayano=10بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } فإن ما وعدوا به في القرآن لما يأتهم بعد وسوف يأتيهم .
فالتفسير هو الإحاطة بعلمه والتأويل هو نفس ما وعدوا به إذا أتاهم فهم كذبوا بالقرآن الذي لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ; وقد يحيط الناس بعلمه ولما يأتهم تأويله فالرسول صلى الله عليه وسلم يحيط بعلم ما أنزل الله عليه وإن كان تأويله لم يأت بعد وفي الحديث {
nindex.php?page=hadith&LINKID=598009عن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=860&ayano=6قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } الآية : قال : إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد } قال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=861&ayano=6وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل } {
nindex.php?page=tafseer&surano=862&ayano=6لكل نبإ مستقر } قال بعضهم : موضع قرار وحقيقة ومنتهى ينتهي إليه فيبين حقه من باطله وصدقه من كذبه . وقال
مقاتل : لكل خبر يخبر به الله وقت ومكان يقع فيه من غير خلف ولا تأخير . وقال
ابن السائب : لكل قول وفعل حقيقة ما كان منه في الدنيا فستعرفونه وما كان منه في الآخرة فسوف
[ ص: 371 ] يبدو لكم وسوف تعلمون . وقال
الحسن : لكل عمل جزاء ; فمن عمل عملا من الخير جوزي به في الجنة ومن عمل عمل سوء جوزي به في النار وسوف تعلمون . ومعنى قول
الحسن : أن الأعمال قد وقع عليها الوعد والوعيد فالوعد والوعيد عليها هو النبأ الذي له المستقر فبين المعنى ولم يرد أن نفس الجزاء هو نفس النبأ . وعن السدي قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=862&ayano=6لكل نبإ مستقر } أي ميعاد وعدتكموه فسيأتيكم حتى تعرفونه وعن عطاء : {
nindex.php?page=tafseer&surano=862&ayano=6لكل نبإ مستقر } تؤخر عقوبته ليعمل ذنبه " فإذا عمل ذنبه عاقبه أي لا يعاقب بالوعيد حتى يفعل الذنب الذي توعده عليه . ومنه قول كثير من
السلف في آيات : هذه ذهب تأويلها وهذه لم يأت تأويلها مثل ما روى
nindex.php?page=showalam&ids=11825أبو الأشهب عن
الحسن والربيع عن
nindex.php?page=showalam&ids=11873أبي العالية أن هذه الآية قرئت على
ابن مسعود : {
nindex.php?page=tafseer&surano=779&ayano=5يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } الآية . فقال
ابن مسعود : ليس هذا بزمانها قولوها ما قبلت منكم فإذا ردت عليكم فعليكم أنفسكم ثم قال : إن القرآن نزل حيث نزل فمنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ومنه آي وقع تأويلهن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومنه آي وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم ومنه آي يقع تأويلهن في آخر الزمان ومنه آي يقع تأويلهن يوم القيامة ما ذكر من الحساب والجنة والنار . فما دامت
[ ص: 372 ] قلوبكم وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا فإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية .
فابن مسعود رضي الله عنه - قد ذكر في هذا الكلام تأويل الأمر وتأويل الخبر فهذه الآية {
nindex.php?page=tafseer&surano=779&ayano=5عليكم أنفسكم } من باب الأمر وما ذكر من الحساب والقيامة من باب الخبر وقد تبين أن تأويل الخبر هو وجود المخبر به وتأويل الأمر هو فعل المأمور به فالآية التي مضى تأويلها قبل نزولها هي من باب الخبر : يقع الشيء فيذكره الله كما ذكر ما ذكره من قول المشركين للرسول وتكذيبهم له وهي وإن مضى تأويلها فهي عبرة ومعناها ثابت في نظيرها ومن هذا قول
ابن مسعود : خمس قد مضين ومنه قوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4901&ayano=54اقتربت الساعة وانشق القمر } . وإذا تبين ذلك ; فالمتشابه من الأمر لا بد من معرفة تأويله ; لأنه لا بد من فعل المأمور وترك المحظور وذلك لا يمكن إلا بعد العلم ; لكن ليس في القرآن ما يقتضي أن في الأمر متشابها فإن قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3وأخر متشابهات } قد يراد به من الخبر فالمتشابه من الخبر مثل ما أخبر به في الجنة من اللحم واللبن والعسل والماء والحرير والذهب فإن بين
[ ص: 373 ] هذا وبين ما في الدنيا تشابه في اللفظ والمعنى ومع هذا فحقيقة ذلك مخالفة لحقيقة هذا وتلك الحقيقة لا نعلمها نحن في الدنيا وقد قال الله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3552&ayano=32فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } وفي الحديث الصحيح {
nindex.php?page=hadith&LINKID=1186يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر } فهذا الذي وعد الله به عباده المؤمنين لا تعلمه نفس هو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله وكذلك وقت الساعة لا يعلمه إلا الله وأشراطها وكذلك كيفيات ما يكون فيها من الحساب والصراط والميزان والحوض والثواب والعقاب لا يعلم كيفيته إلا الله فإنه لم يخلق بعد حتى تعلمه الملائكة ولا له نظير مطابق من كل وجه حتى يعلم به فهو من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله . وكذلك ما أخبر به الرب عن نفسه مثل استوائه على عرشه وسمعه وبصره وكلامه وغير ذلك فإن كيفيات ذلك لا يعلمها إلا الله كما قال
ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس . وسائر أهل العلم : تلقوا هذا الكلام عنهما بالقبول لما قيل : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2373&ayano=20الرحمن على العرش استوى } كيف استوى ؟ فقال : الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة . هذا لفظ
مالك . فأخبر أن الاستواء معلوم وهذا تفسير اللفظ وأخبر أن الكيف مجهول وهذا هو الكيفية التي استأثر الله بعلمها .
[ ص: 374 ] وكذلك سائر
السلف nindex.php?page=showalam&ids=12873كابن الماجشون nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل وغيرهما يبينون أن
nindex.php?page=treesubj&link=28956العباد لا يعلمون كيفية ما أخبر الله به عن نفسه فالكيف هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله .
وأما نفس المعنى الذي بينه الله فيعلمه الناس كل على قدر فهمه فإنهم يفهمون معنى السمع ومعنى البصر " وأن مفهوم هذا ليس هو مفهوم هذا ويعرفون الفرق بينهما وبين العليم والقدير وإن كانوا لا يعرفون كيفية سمعه وبصره بل الروح التي فيهم يعرفونها من حيث الجملة ولا يعرفون كيفيتها كذلك يعلمون
nindex.php?page=treesubj&link=28728معنى الاستواء على العرش . وأنه يتضمن علو الرب على عرشه وارتفاعه عليه كما فسره بذلك
السلف قبلهم وهذا معنى معروف من اللفظ لا يحتمل في اللغة غيره كما قد بسط في موضعه ولهذا قال
مالك : الاستواء معلوم . ومن قال : الاستواء له معان متعددة فقد أجمل كلامه فإنهم يقولون : استوى فقط . ولا يصلونه بحرف وهذا له معنى . ويقولون : استوى على كذا وله معنى واستوى إلى كذا وله معنى واستوى مع كذا وله معنى فتتنوع معانيه بحسب صلاته . وأما استوى على كذا فليس في القرآن ولغة
العرب المعروفة إلا بمعنى واحد . قال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4660&ayano=48فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه } وقال {
nindex.php?page=tafseer&surano=1528&ayano=11واستوت على الجودي } وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4381&ayano=43لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه } وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2724&ayano=23فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك } وقد {
nindex.php?page=hadith&LINKID=598010أتي النبي صلى الله عليه وسلم بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الغرز قال : بسم الله فلما استوى على ظهرها قال : الحمد لله } {
nindex.php?page=hadith&LINKID=65514وقال ابن عمر : أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج لما استوى على بعيره } وهذا المعنى يتضمن شيئين : علوه على ما استوى عليه واعتداله أيضا . فلا يسمون المائل على الشيء مستويا عليه ومنه حديث
الخليل بن أحمد لما قال : استووا . وقوله :
ثم استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
هو من هذا الباب ; فإن المراد به
nindex.php?page=showalam&ids=15539بشر بن مروان واستواؤه عليها أي على كرسي ملكها لم يرد بذلك مجرد الاستيلاء ; بل استواء منه عليها ; إذ لو كان كذلك لكان
عبد الملك الذي هو الخليفة قد استوى أيضا على
العراق وعلى سائر مملكة الإسلام ولكان
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب قد استوى على
العراق وخراسان والشام ومصر وسائر ما فتحه ولكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استوى على
اليمن وغيرها مما فتحه . ومعلوم أنه لم يوجد في كلامهم استعمال الاستواء في شيء من هذا وإنما قيل فيمن استوى بنفسه على بلد ; فإنه مستو على سرير ملكه كما يقال جلس فلان على السرير وقعد على التخت . ومنه قوله . {
nindex.php?page=tafseer&surano=1708&ayano=12ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا } وقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3209&ayano=27إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم } .
[ ص: 376 ] وقول
الزمخشري وغيره : استوى على كذا بمعنى ملك " دعوى مجردة . فليس لها شاهد في كلام
العرب ولو قدر ذلك لكان هذا المعنى باطلا في استواء الله على العرش ; لأنه أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وقد أخبر أن العرش كان موجودا قبل خلق السموات والأرض كما دل على ذلك الكتاب والسنة وحينئذ فهو من حين خلق العرش مالك له مستول عليه فكيف يكون الاستواء عليه مؤخرا عن خلق السموات والأرض . وأيضا فهو مالك لكل شيء مستول عليه فلا يخص العرش بالاستواء وليس هذا كتخصيصه بالربوبية في قوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=1373&ayano=9رب العرش العظيم } فإنه قد يخص لعظمته ولكن يجوز ذلك في سائر المخلوقات فيقال : رب العرش ورب كل شيء وأما الاستواء فمختص بالعرش فلا يقال استوى على العرش وعلى كل شيء ولا استعمل ذلك أحد من المسلمين في كل شيء ولا يوجد في كتاب ولا سنة كما استعمل لفظ الربوبية في العرش خاصة وفي كل شيء عامة وكذلك لفظ الخلق ونحوه من الألفاظ التي تخص وتعم . كقوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=6203&ayano=96اقرأ باسم ربك الذي خلق } {
nindex.php?page=tafseer&surano=6204&ayano=96خلق الإنسان من علق } فالاستواء من الألفاظ المختصة بالعرش لا تضاف إلى غيره لا خصوصا ولا عموما وهذا مبسوط في موضع آخر . وإنما الغرض بيان صواب كلام
السلف في قولهم : الاستواء معلوم
[ ص: 377 ] بخلاف من جعل هذا اللفظ له بضعة عشر معنى . كما ذكر ذلك
ابن عربي المعافري .
يبين هذا أن سبب نزول هذه الآية كان قدوم
نصارى نجران ومناظرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر
المسيح كما ذكر ذلك أهل التفسير وأهل السيرة وهو من المشهور بل من المتواتر أن
نصارى نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى المباهلة المذكورة في سورة آل عمران فأقروا بالجزية ولم يباهلوه وصدر آل عمران نزل بسبب ما جرى ; ولهذا عامتها في أمر
المسيح وذكروا أنهم احتجوا بما في القرآن من لفظ ( أنا و ( نحن ونحو ذلك على أن الآلهة ثلاثة فاتبعوا المتشابه وتركوا المحكم الذي في القرآن من أن الإله واحد {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } فإنهم قصدوا بذلك الفتنة وهي فتنة القلوب بالكفر وابتغاء تأويل لفظ ( إنا و ( نحن وما يعلم تأويل هذه الأسماء إلا الله لأن هذه الأسماء إنما تقال للواحد الذي له أعوان إما أن يكونوا شركاء له وإما أن يكونوا مماليك له . ولهذا صارت متشابهة فإن الذي معه شركاء يقول : فعلنا نحن كذا وإنا نفعل نحن كذا وهذا ممتنع في حق الله تعالى والذي له مماليك ومطيعون يطيعونه - كالملك - يقول : فعلنا كذا . أي أنا
[ ص: 378 ] فعلت بأهل ملكي وملكي وكل ما سوى الله مخلوق له مملوك له وهو سبحانه يدبر أمر العالم بنفسه وملائكته التي هي رسله في خلقه وأمره وهو سبحانه أحق من قال : إنا ونحن بهذا الاعتبار فإن ما سواه ليس له ملك تام ولا أمر مطاع طاعة تامة فهو المستحق أن يقول : ( إنا و ( نحن والملوك لهم شبه بهذا فصار فيه أيضا من المتشابه معنى آخر ولكن الذي ينسب لله من هذا الاختصاص لا يماثله فيه شيء وتأويل ذلك معرفة ملائكته وصفاتهم وأقدارهم وكيف يدبر بهم أمر السماء والأرض وقد قال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5600&ayano=74وما يعلم جنود ربك إلا هو } فهذا التأويل لهذا المتشابه لا يعلمه إلا هو وإن علمنا تفسيره ومعناه ; لكن لم نعلم تأويله الواقع في الخارج ; بخلاف قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1015&ayano=7الله الذي خلق } فإنها آية محكمة ليس فيها تشابه فإن هذا الاسم مختص بالله ليس مثل ( إنا و ( نحن التي تقال لمن له شركاء ولمن له أعوان يحتاج إليهم والله تعالى منزه عن هذا وهذا . كما قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3662&ayano=34قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2157&ayano=17وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا } فالمعنى الذي يراد به هذا في حق المخلوقين لا يجوز أن يكون نظيره ثابتا لله ; فلهذا صار متشابها .
[ ص: 379 ] وكذلك قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1015&ayano=7ثم استوى على العرش } فإنه قد قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1528&ayano=11واستوت على الجودي } وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4660&ayano=48فاستوى على سوقه } وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2724&ayano=23فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك } وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4381&ayano=43لتستووا على ظهوره } فهذا الاستواء كله يتضمن حاجة المستوي إلى المستوى عليه وأنه لو عدم من تحته لخر والله تعالى غني عن العرش وعن كل شيء بل هو سبحانه بقدرته يحمل العرش وحملة العرش وقد روي : أنهم إنما أطاقوا حمل العرش لما أمرهم أن يقولوا : لا حول ولا قوة إلا بالله . فصار لفظ الاستواء متشابها يلزمه في حق المخلوقين معاني ينزه . الله عنها . فنحن نعلم معناه وأنه العلو والاعتدال ; لكن لا نعلم الكيفية التي اختص بها الرب التي يكون بها مستويا من غير افتقار منه إلى العرش بل مع حاجة العرش وكل شيء محتاج إليه من كل وجه وأنا لم نعهد في الموجودات ما يستوي على غيره مع غناه عنه وحاجة ذلك المستوى عليه إلى المستوي فصار متشابها من هذا الوجه فإن بين اللفظين والمعنيين قدرا مشتركا وبينهما قدرا فارقا هو مراد في كل منهما ونحن لا نعرف الفارق الذي امتاز الرب به فصرنا نعرفه من وجه ونجهله من وجه وذلك هو تأويله والأول هو تفسيره .
وكذلك ما أخبر الله به في الجنة من المطاعم والمشارب والملابس : كاللبن والعسل والخمر والماء فإنا لا نعرف لبنا إلا مخلوقا من ماشية
[ ص: 380 ] يخرج من بين فرث ودم وإذا بقي أياما يتغير طعمه ولا نعرف عسلا إلا من نحل تصنعه في بيوت الشمع المسدسة فليس هو عسلا مصفى ولا نعرف حريرا إلا من دود القز وهو يبلى وقد علمنا أن ما وعد الله به عباده ليس مماثلا لهذه لا في المادة ولا في الصورة والحقيقة بل له حقيقة تخالف حقيقة هذه وذلك هو من التأويل الذي لا نعلمه نحن قال
ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء . لكن يقال : فالملائكة قد تعلم هذا . فيقال : هي لا تعلم ما لم يخلق بعد ولا تعلم كل ما في الجنة وأيضا فمن النعم ما لا تعرفه الملائكة والتأويل يتناول هذا كله . وإذا قدرنا أنها تعرف ما لا نعرفه فذاك لا يكون من المتشابه عندها ويكون من المتشابه عندنا فإن المتشابه قد يراد به ما هو صفة لازمة للآية وقد يراد به ما هو من الأمور النسبية فقد يكون . متشابها عند هذا ما لا يكون متشابها عند هذا .
وَأَمَّا مُتَأَخِّرُو الْمُفَسِّرِينَ
كَالثَّعْلَبِيِّ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ . قَالَ : فَمَعْنَى التَّفْسِيرِ هُوَ التَّنْوِيرُ وَكَشْفُ الْمُغْلَقِ مِنْ الْمُرَادِ بِلَفْظِهِ
[ ص: 368 ] وَالتَّأْوِيلُ : صَرْفُ الْآيَةِ إلَى مَعْنًى تَحْتَمِلُهُ يُوَافِقُ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا وَتَكَلَّمَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِكَلَامٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ إلَّا أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ . هُوَ الْمَعْنَى الثَّالِثُ الْمُتَأَخِّرُ
وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ يَقُولُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
nindex.php?page=treesubj&link=28956_28710هَلْ التَّفْسِيرُ وَالتَّأْوِيلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ؟ أَمْ يَخْتَلِفَانِ ؟ فَذَهَبَ قَوْمٌ يَمِيلُونَ إلَى الْعَرَبِيَّةِ : إلَى أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ . وَذَهَبَ قَوْمٌ يَمِيلُونَ إلَى الْفِقْهِ : إلَى اخْتِلَافِهِمَا فَقَالُوا : التَّفْسِيرُ إخْرَاجُ الشَّيْءِ عَنْ مَقَامِ الْخَفَاءِ إلَى مَقَامِ التَّجَلِّي وَالتَّأْوِيلُ : نَقْلُ الْكَلَامِ عَنْ وَضْعِهِ إلَى مَا يَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِهِ إلَى دَلِيلٍ لَوْلَاهُ مَا تُرِكَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِك آلَ الشَّيْءُ إلَى كَذَا . أَيْ صَارَ إلَيْهِ فَهَؤُلَاءِ لَا يَذْكُرُونَ لِلتَّأْوِيلِ إلَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ فَلَا يَذْكُرُونَهُ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ التَّأْوِيلَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْمَوْجُودُ الَّذِي يَئُولُ إلَيْهِ الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُوَافِقًا الْمَعْنَى الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ اللَّفْظِ بَلْ لَا يُعْرَفُ فِي الْقُرْآنِ لَفْظُ التَّأْوِيلِ مُخَالِفًا لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ خِلَافَ اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ .
nindex.php?page=treesubj&link=28956وَالْكَلَامُ نَوْعَانِ : إنْشَاءٌ وَإِخْبَارٌ . فَالْإِنْشَاءُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْإِبَاحَةُ وَتَأْوِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ نَفْسُ فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَنَفْسُ تَرْكِ الْمَحْظُورِ . كَمَا فِي الصَّحِيحِ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=598007عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك [ ص: 369 ] اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ } فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6326&ayano=110فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ } . قَالَ
ابْن عيينة : السُّنَّةُ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12074أَبُو عُبَيْدٍ لَمَّا ذَكَرَ اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ فِي {
nindex.php?page=hadith&LINKID=598008نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ } قَالَ : وَالْفُقَهَاءُ أَعْلَمُ بِالتَّأْوِيلِ . يَقُولُ : هُمْ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ; وَمَا نَهَى عَنْهُ فَيَعْرِفُونَ أَعْيَانَ الْأَفْعَالِ الْمَوْجُودَةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا وَأَعْيَانَ الْأَفْعَالِ الْمَحْظُورَةِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا . وَتَفْسِيرُ كَلَامِهِ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ مَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ ; بَلْ هُوَ بَيَانُهُ وَشَرْحُهُ وَكَشْفُ مَعْنَاهُ . فَالتَّفْسِيرُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ : يُفَسَّرُ الْكَلَامُ بِكَلَامٍ يُوَضِّحُهُ . وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَهُوَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَيْسَ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : الْخَبَرُ كَإِخْبَارِ الرَّبِّ عَنْ نَفْسِهِ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَإِخْبَارِهِ عَمَّا ذِكْرِهِ لِعِبَادِهِ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1013&ayano=7وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1014&ayano=7هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3793&ayano=36يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5728&ayano=77انْطَلِقُوا إلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } وَقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5333&ayano=10وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=5334&ayano=67قُلْ إنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ }
[ ص: 370 ] {
nindex.php?page=tafseer&surano=5335&ayano=67فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ } وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ فِي الْقُرْآنِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1412&ayano=10أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1413&ayano=10بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } فَإِنَّ مَا وُعِدُوا بِهِ فِي الْقُرْآنِ لَمَّا يَأْتِهِمْ بَعْدُ وَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ .
فَالتَّفْسِيرُ هُوَ الْإِحَاطَةُ بِعِلْمِهِ وَالتَّأْوِيلُ هُوَ نَفْسُ مَا وُعِدُوا بِهِ إذَا أَتَاهُمْ فَهُمْ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ; وَقَدْ يُحِيطُ النَّاسُ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِيطُ بِعِلْمِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ وَفِي الْحَدِيثِ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=598009عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=860&ayano=6قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } الْآيَةُ : قَالَ : إنَّهَا كَائِنَةٌ وَلَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ } قَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=861&ayano=6وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=862&ayano=6لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ } قَالَ بَعْضُهُمْ : مَوْضِعُ قَرَارٍ وَحَقِيقَةٌ وَمُنْتَهًى يَنْتَهِي إلَيْهِ فَيُبَيِّنُ حَقَّهُ مِنْ بَاطِلِهِ وَصِدْقَهُ مِنْ كَذِبِهِ . وَقَالَ
مُقَاتِلٌ : لِكُلِّ خَبَرٍ يُخْبِرُ بِهِ اللَّهُ وَقْتٌ وَمَكَانٌ يَقَعُ فِيهِ مِنْ غَيْرٍ خَلْفٍ وَلَا تَأْخِيرٍ . وَقَالَ
ابْنُ السَّائِبِ : لِكُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ حَقِيقَةٌ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا فَسَتَعْرِفُونَهُ وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ فَسَوْفَ
[ ص: 371 ] يَبْدُو لَكُمْ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ . وَقَالَ
الْحَسَنُ : لِكُلِّ عَمَلٍ جَزَاءٌ ; فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا مِنْ الْخَيْرِ جُوزِيَ بِهِ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْ عَمِلَ عَمَلَ سُوءٍ جُوزِيَ بِهِ فِي النَّارِ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ . وَمَعْنَى قَوْلِ
الْحَسَنِ : أَنَّ الْأَعْمَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهَا الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ فَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ عَلَيْهَا هُوَ النَّبَأُ الَّذِي لَهُ الْمُسْتَقَرُّ فَبَيَّنَ الْمَعْنَى وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ نَفْسَ الْجَزَاءِ هُوَ نَفْسُ النَّبَأِ . وَعَنْ السدي قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=862&ayano=6لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ } أَيْ مِيعَادٌ وَعَدَتْكُمُوهُ فَسَيَأْتِيكُمْ حَتَّى تَعْرِفُونَهُ وَعَنْ عَطَاءٍ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=862&ayano=6لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ } تُؤَخَّرُ عُقُوبَتُهُ لِيَعْمَلَ ذَنْبَهُ " فَإِذَا عَمِلَ ذَنْبَهُ عَاقَبَهُ أَيْ لَا يُعَاقِبُ بِالْوَعِيدِ حَتَّى يَفْعَلَ الذَّنْبَ الَّذِي تَوَعَّدَهُ عَلَيْهِ . وَمِنْهُ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ
السَّلَفِ فِي آيَاتٍ : هَذِهِ ذَهَبَ تَأْوِيلُهَا وَهَذِهِ لَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا مِثْلَ مَا رَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=11825أَبُو الْأَشْهَبِ عَنْ
الْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=11873أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قُرِئَتْ عَلَى
ابْنِ مَسْعُودٍ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=779&ayano=5يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الْآيَةُ . فَقَالَ
ابْنُ مَسْعُودٍ : لَيْسَ هَذَا بِزَمَانِهَا قُولُوهَا مَا قُبِلَتْ مِنْكُمْ فَإِذَا رُدَّتْ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ حَيْثُ نَزَلَ فَمِنْهُ آيٌ قَدْ مَضَى تَأْوِيلُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلْنَ وَمِنْهُ آيٌ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُ آيٌ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَسِيرِ وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ الْيَوْمِ وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ . فَمَا دَامَتْ
[ ص: 372 ] قُلُوبُكُمْ وَأَهْوَاؤُكُمْ وَاحِدَةً وَلَمْ تُلْبَسُوا شِيَعًا وَلَمْ يَذُقْ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَأْمُرُوا وَانْهَوْا فَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْقُلُوبُ وَالْأَهْوَاءُ وَأُلْبِسْتُمْ شِيَعًا وَذَاقَ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَامْرُؤُ وَنَفْسُهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ جَاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ .
فَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْكَلَامِ تَأْوِيلَ الْأَمْرِ وَتَأْوِيلَ الْخَبَرِ فَهَذِهِ الْآيَةُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=779&ayano=5عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } مِنْ بَابِ الْأَمْرِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْحِسَابِ وَالْقِيَامَةِ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ تَأْوِيلَ الْخَبَرِ هُوَ وُجُودُ الْمُخْبَرِ بِهِ وَتَأْوِيلُ الْأَمْرِ هُوَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ فَالْآيَةُ الَّتِي مَضَى تَأْوِيلُهَا قَبْلَ نُزُولِهَا هِيَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ : يَقَعُ الشَّيْءُ فَيَذْكُرُهُ اللَّهُ كَمَا ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ لِلرَّسُولِ وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُ وَهِيَ وَإِنَّ مَضَى تَأْوِيلُهَا فَهِيَ عِبْرَةٌ وَمَعْنَاهَا ثَابِتٌ فِي نَظِيرِهَا وَمِنْ هَذَا قَوْلُ
ابْنِ مَسْعُودٍ : خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4901&ayano=54اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } . وَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ ; فَالْمُتَشَابِهُ مِنْ الْأَمْرِ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ تَأْوِيلِهِ ; لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ ; لَكِنْ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ فِي الْأَمْرِ مُتَشَابِهًا فَإِنَّ قَوْلَهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } قَدْ يُرَادُ بِهِ مِنْ الْخَبَرِ فَالْمُتَشَابِهُ مِنْ الْخَبَرِ مِثْلَ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ وَالْمَاءِ وَالْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ فَإِنَّ بَيْنَ
[ ص: 373 ] هَذَا وَبَيْنَ مَا فِي الدُّنْيَا تَشَابُهٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَمَعَ هَذَا فَحَقِيقَةُ ذَلِكَ مُخَالِفَةٌ لِحَقِيقَةِ هَذَا وَتِلْكَ الْحَقِيقَةُ لَا نَعْلَمُهَا نَحْنُ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3552&ayano=32فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=1186يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ } فَهَذَا الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَعْلَمُهُ نَفْسٌ هُوَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَكَذَلِكَ وَقْتُ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَأَشْرَاطُهَا وَكَذَلِكَ كَيْفِيَّاتُ مَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ الْحِسَابِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالْحَوْضِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَا يَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهُ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ حَتَّى تَعْلَمَهُ الْمَلَائِكَةُ وَلَا لَهُ نَظِيرٌ مُطَابِقٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى يُعْلَمَ بِهِ فَهُوَ مِنْ تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّبُّ عَنْ نَفْسِهِ مِثْلَ اسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَكَلَامِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ كَيْفِيَّاتِ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ كَمَا قَالَ
رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ . وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ : تَلَقَّوْا هَذَا الْكَلَامَ عَنْهُمَا بِالْقَبُولِ لَمَّا قِيلَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2373&ayano=20الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كَيْفَ اسْتَوَى ؟ فَقَالَ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ . هَذَا لَفْظُ
مَالِكٍ . فَأَخْبَرَ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مَعْلُومٌ وَهَذَا تَفْسِيرُ اللَّفْظِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْكَيْفَ مَجْهُولٌ وَهَذَا هُوَ الْكَيْفِيَّةُ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهَا .
[ ص: 374 ] وَكَذَلِكَ سَائِرُ
السَّلَفِ nindex.php?page=showalam&ids=12873كَابْنِ الماجشون nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا يُبَيِّنُونَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28956الْعِبَادَ لَا يَعْلَمُونَ كَيْفِيَّةَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَالْكَيْفُ هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ .
وَأَمَّا نَفْسُ الْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ فَيَعْلَمُهُ النَّاسُ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ فَهْمِهِ فَإِنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مَعْنَى السَّمْعِ وَمَعْنَى الْبَصَرِ " وَأَنَّ مَفْهُومَ هَذَا لَيْسَ هُوَ مَفْهُومَ هَذَا وَيَعْرِفُونَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ بَلْ الرُّوحُ الَّتِي فِيهِمْ يَعْرِفُونَهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ وَلَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّتَهَا كَذَلِكَ يَعْلَمُونَ
nindex.php?page=treesubj&link=28728مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ . وَأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ عُلُوَّ الرَّبِّ عَلَى عَرْشِهِ وَارْتِفَاعَهُ عَلَيْهِ كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ
السَّلَفُ قَبْلَهُمْ وَهَذَا مَعْنًى مَعْرُوفٌ مِنْ اللَّفْظِ لَا يُحْتَمَلُ فِي اللُّغَةِ غَيْرُهُ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ وَلِهَذَا قَالَ
مَالِكٌ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ . وَمَنْ قَالَ : الِاسْتِوَاءُ لَهُ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ فَقَدْ أَجْمَلَ كَلَامَهُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : اسْتَوَى فَقَطْ . وَلَا يَصِلُونَهُ بِحَرْفِ وَهَذَا لَهُ مَعْنًى . وَيَقُولُونَ : اسْتَوَى عَلَى كَذَا وَلَهُ مَعْنًى وَاسْتَوَى إلَى كَذَا وَلَهُ مَعْنًى وَاسْتَوَى مَعَ كَذَا وَلَهُ مَعْنًى فَتَتَنَوَّعُ مَعَانِيهِ بِحَسَبِ صِلَاتِهِ . وَأَمَّا اسْتَوَى عَلَى كَذَا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلُغَةِ
الْعَرَبِ الْمَعْرُوفَةِ إلَّا بِمَعْنًى وَاحِدٍ . قَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4660&ayano=48فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } وَقَالَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=1528&ayano=11وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ } وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4381&ayano=43لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2724&ayano=23فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ } وَقَدْ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=598010أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ } {
nindex.php?page=hadith&LINKID=65514وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ لَمَّا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ } وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ : عُلُوَّهُ عَلَى مَا اسْتَوَى عَلَيْهِ وَاعْتِدَالَهُ أَيْضًا . فَلَا يُسَمُّونَ الْمَائِلَ عَلَى الشَّيْءِ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ وَمِنْهُ حَدِيثُ
الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَد لَمَّا قَالَ : اسْتَوُوا . وَقَوْلُهُ :
ثُمَّ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مهراق
هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ; فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ
nindex.php?page=showalam&ids=15539بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَيْهَا أَيْ عَلَى كُرْسِيِّ مُلْكِهَا لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ مُجَرَّدَ الِاسْتِيلَاءِ ; بَلْ اسْتِوَاءٌ مِنْهُ عَلَيْهَا ; إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ
عَبْدُ الْمَلِكِ الَّذِي هُوَ الْخَلِيفَةُ قَدْ اسْتَوَى أَيْضًا عَلَى
الْعِرَاقِ وَعَلَى سَائِرِ مَمْلَكَةِ الْإِسْلَامِ وَلَكَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ اسْتَوَى عَلَى
الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَسَائِرِ مَا فَتَحَهُ وَلَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اسْتَوَى عَلَى
الْيَمَنِ وَغَيْرهَا مِمَّا فَتَحَهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي كَلَامِهِمْ اسْتِعْمَالُ الِاسْتِوَاءِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَإِنَّمَا قِيلَ فِيمَنْ اسْتَوَى بِنَفْسِهِ عَلَى بَلَدٍ ; فَإِنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ كَمَا يُقَالُ جَلَسَ فُلَانٌ عَلَى السَّرِيرِ وَقَعَدَ عَلَى التَّخْتِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ . {
nindex.php?page=tafseer&surano=1708&ayano=12وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا } وَقَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3209&ayano=27إنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } .
[ ص: 376 ] وَقَوْلُ
الزمخشري وَغَيْرِهِ : اسْتَوَى عَلَى كَذَا بِمَعْنَى مَلَكَ " دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ . فَلَيْسَ لَهَا شَاهِدٌ فِي كَلَامِ
الْعَرَبِ وَلَوْ قُدِّرَ ذَلِكَ لَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى بَاطِلًا فِي اسْتِوَاءِ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْعَرْشَ كَانَ مَوْجُودًا قَبْل خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مِنْ حِينِ خَلَقَ الْعَرْشَ مَالِكٌ لَهُ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكُونُ الِاسْتِوَاءُ عَلَيْهِ مُؤَخَّرًا عَنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ . وَأَيْضًا فَهُوَ مَالِكٌ لِكُلِّ شَيْءٍ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ فَلَا يُخَصُّ الْعَرْشُ بِالِاسْتِوَاءِ وَلَيْسَ هَذَا كَتَخْصِيصِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=1373&ayano=9رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } فَإِنَّهُ قَدْ يُخَصُّ لِعَظَمَتِهِ وَلَكِنْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ فَيُقَالُ : رَبِّ الْعَرْشِ وَرَبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَأَمَّا الِاسْتِوَاءُ فَمُخْتَصٌّ بِالْعَرْشِ فَلَا يُقَالُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَلَا اسْتَعْمَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يُوجَدُ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ كَمَا اُسْتُعْمِلَ لَفْظُ الرُّبُوبِيَّةِ فِي الْعَرْشِ خَاصَّةً وَفِي كُلِّ شَيْءٍ عَامَّةً وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْخَلْقِ وَنَحْوُهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَخُصُّ وَتَعُمُّ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=6203&ayano=96اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=6204&ayano=96خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } فَالِاسْتِوَاءُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْعَرْشِ لَا تُضَافُ إلَى غَيْرِهِ لَا خُصُوصًا وَلَا عُمُومًا وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بَيَانُ صَوَابِ كَلَامِ
السَّلَفِ فِي قَوْلِهِمْ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ
[ ص: 377 ] بِخِلَافِ مَنْ جَعَلَ هَذَا اللَّفْظَ لَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ مَعْنًى . كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ
ابْنُ عَرَبِيٍّ المعافري .
يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ قُدُومَ
نَصَارَى نَجْرَانَ وَمُنَاظَرَتَهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ
الْمَسِيحِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَأَهْلُ السِّيرَةِ وَهُوَ مِنْ الْمَشْهُورِ بَلْ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ
نَصَارَى نَجْرَانَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَاهُمْ إلَى الْمُبَاهَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فَأَقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ وَلِمَ يُبَاهِلُوهُ وَصَدْرُ آلِ عِمْرَانَ نَزَلَ بِسَبَبِ مَا جَرَى ; وَلِهَذَا عَامَّتُهَا فِي أَمْرِ
الْمَسِيحِ وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ احْتَجُّوا بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ لَفْظِ ( أَنَّا و ( نَحْنُ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْآلِهَةَ ثَلَاثَةٌ فَاتَّبَعُوا الْمُتَشَابِهَ وَتَرَكُوا الْمُحْكَمَ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } فَإِنَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ الْفِتْنَةَ وَهِيَ فِتْنَةُ الْقُلُوبِ بِالْكُفْرِ وَابْتِغَاءِ تَأْوِيلِ لَفْظِ ( إنَّا و ( نَحْنُ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إلَّا اللَّهُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ إنَّمَا تُقَالُ لِلْوَاحِدِ الَّذِي لَهُ أَعْوَانٌ إمَّا أَنْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ لَهُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مَمَالِيكَ لَهُ . وَلِهَذَا صَارَتْ مُتَشَابِهَةً فَإِنَّ الَّذِي مَعَهُ شُرَكَاءُ يَقُولُ : فَعَلْنَا نَحْنُ كَذَا وَإِنَّا نَفْعَلُ نَحْنُ كَذَا وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَاَلَّذِي لَهُ مَمَالِيكُ وَمُطِيعُونَ يُطِيعُونَهُ - كَالْمَلِكِ - يَقُولُ : فَعَلْنَا كَذَا . أَيْ أَنَا
[ ص: 378 ] فَعَلْت بِأَهْلِ مُلْكِي وَمِلْكِي وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ لَهُ مَمْلُوكٌ لَهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُدَبِّرُ أَمْرَ الْعَالَمِ بِنَفْسِهِ وَمَلَائِكَتِهِ الَّتِي هِيَ رُسُلُهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ مَنْ قَالَ : إنَّا وَنَحْنُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَإِنَّ مَا سِوَاهُ لَيْسَ لَهُ مُلْكٌ تَامٌّ وَلَا أَمْرٌ مُطَاعٌ طَاعَةً تَامَّةً فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ أَنْ يَقُولَ : ( إنَّا و ( نَحْنُ وَالْمُلُوكُ لَهُمْ شَبَهٌ بِهَذَا فَصَارَ فِيهِ أَيْضًا مِنْ الْمُتَشَابِهِ مَعْنًى آخَرُ وَلَكِنَّ الَّذِي يُنْسَبُ لِلَّهِ مِنْ هَذَا الِاخْتِصَاصِ لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ شَيْءٌ وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ مَلَائِكَتِهِ وَصِفَاتِهِمْ وَأَقْدَارِهِمْ وَكَيْفَ يُدَبِّرُ بِهِمْ أَمْرَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5600&ayano=74وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ } فَهَذَا التَّأْوِيلُ لِهَذَا الْمُتَشَابِهِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ عَلِمْنَا تَفْسِيرَهُ وَمَعْنَاهُ ; لَكِنْ لَمْ نَعْلَمْ تَأْوِيلَهُ الْوَاقِعَ فِي الْخَارِجِ ; بِخِلَافِ قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1015&ayano=7اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ } فَإِنَّهَا آيَةٌ مُحْكَمَةٌ لَيْسَ فِيهَا تَشَابُهٌ فَإِنَّ هَذَا الِاسْمَ مُخْتَصٌّ بِاَللَّهِ لَيْسَ مِثْلَ ( إنَّا و ( نَحْنُ الَّتِي تُقَالُ لِمَنْ لَهُ شُرَكَاءُ وَلِمَنْ لَهُ أَعْوَانٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا وَهَذَا . كَمَا قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3662&ayano=34قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2157&ayano=17وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } فَالْمَعْنَى الَّذِي يُرَادُ بِهِ هَذَا فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَظِيرُهُ ثَابِتًا لِلَّهِ ; فَلِهَذَا صَارَ مُتَشَابِهًا .
[ ص: 379 ] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1015&ayano=7ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1528&ayano=11وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ } وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4660&ayano=48فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2724&ayano=23فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ } وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4381&ayano=43لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } فَهَذَا الِاسْتِوَاءُ كُلُّهُ يَتَضَمَّنُ حَاجَةَ الْمُسْتَوِي إلَى الْمُسْتَوَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَوْ عَدِمَ مَنْ تَحْتَهُ لَخَرَّ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ الْعَرْشِ وَعَنْ كُلِّ شَيْءٍ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ بِقُدْرَتِهِ يَحْمِلُ الْعَرْشَ وَحَمَلَةُ الْعَرْشُ وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّهُمْ إنَّمَا أَطَاقُوا حَمْلَ الْعَرْشِ لَمَّا أَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . فَصَارَ لَفْظُ الِاسْتِوَاءِ مُتَشَابِهًا يَلْزَمُهُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ مَعَانِي يُنَزَّهُ . اللَّهُ عَنْهَا . فَنَحْنُ نَعْلَمُ مَعْنَاهُ وَأَنَّهُ الْعُلُوُّ وَالِاعْتِدَالُ ; لَكِنْ لَا نَعْلَمُ الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا الرَّبُّ الَّتِي يَكُونُ بِهَا مُسْتَوِيًا مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ مِنْهُ إلَى الْعَرْشِ بَلْ مَعَ حَاجَةِ الْعَرْشِ وَكُلُّ شَيْءٍ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَأَنَّا لَمْ نَعْهَدْ فِي الْمَوْجُودَاتِ مَا يَسْتَوِي عَلَى غَيْرِهِ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُ وَحَاجَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَوَى عَلَيْهِ إلَى الْمُسْتَوِي فَصَارَ مُتَشَابِهًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ وَالْمَعْنَيَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَبَيْنَهُمَا قَدْرًا فَارِقًا هُوَ مُرَادٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُ الْفَارِقَ الَّذِي امْتَازَ الرَّبُّ بِهِ فَصِرْنَا نَعْرِفُهُ مِنْ وَجْهٍ وَنَجْهَلُهُ مِنْ وَجْهٍ وَذَلِكَ هُوَ تَأْوِيلُهُ وَالْأَوَّلُ هُوَ تَفْسِيرُهُ .
وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ : كَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ وَالْخَمْرِ وَالْمَاءِ فَإِنَّا لَا نَعْرِفُ لَبَنًا إلَّا مَخْلُوقًا مِنْ مَاشِيَةٍ
[ ص: 380 ] يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ وَإِذَا بَقِيَ أَيَّامًا يَتَغَيَّرُ طَعْمُهُ وَلَا نَعْرِفُ عَسَلًا إلَّا مِنْ نَحْلٍ تَصْنَعُهُ فِي بُيُوتِ الشَّمْعِ الْمُسَدَّسَةِ فَلَيْسَ هُوَ عَسَلًا مُصَفًّى وَلَا نَعْرِفُ حَرِيرًا إلَّا مِنْ دُودِ الْقَزِّ وَهُوَ يَبْلَى وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ لَيْسَ مُمَاثِلًا لِهَذِهِ لَا فِي الْمَادَّةِ وَلَا فِي الصُّورَةِ وَالْحَقِيقَةِ بَلْ لَهُ حَقِيقَةٌ تُخَالِفُ حَقِيقَةَ هَذِهِ وَذَلِكَ هُوَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ . لَكِنْ يُقَالُ : فَالْمَلَائِكَةُ قَدْ تَعْلَمُ هَذَا . فَيُقَالُ : هِيَ لَا تَعْلَمُ مَا لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ وَلَا تَعْلَمُ كُلَّ مَا فِي الْجَنَّةِ وَأَيْضًا فَمِنْ النِّعَمِ مَا لَا تَعْرِفُهُ الْمَلَائِكَةُ وَالتَّأْوِيلُ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ . وَإِذَا قَدَّرْنَا أَنَّهَا تَعْرِفُ مَا لَا نَعْرِفُهُ فَذَاكَ لَا يَكُونُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ عِنْدَهَا وَيَكُونُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ عِنْدَنَا فَإِنَّ الْمُتَشَابِهَ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا هُوَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِلْآيَةِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا هُوَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ فَقَدْ يَكُونُ . مُتَشَابِهًا عِنْدَ هَذَا مَا لَا يَكُونُ مُتَشَابِهًا عِنْدَ هَذَا .