فصل فقد تبين أن كما كان على ذلك الواجب طلب علم ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة ومعرفة ما أراد بذلكالصحابة والتابعون لهم بإحسان ومن سلك سبيلهم فكل فكيف بأصول التوحيد والإيمان ثم إذا عرف ما بينه الرسول نظر في أقوال [ ص: 444 ] الناس وما أرادوه بها فعرضت على الكتاب والسنة . والعقل الصريح دائما موافق للرسول صلى الله عليه وسلم لا يخالفه قط فإن الميزان مع الكتاب والله أنزل الكتاب بالحق والميزان ; لكن قد تقصر عقول الناس عن معرفة تفصيل ما جاء به فيأتيهم الرسول بما عجزوا عن معرفته وحاروا فيه لا بما يعلمون بعقولهم بطلانه فالرسل صلوات الله وسلامه عليهم تخبر بمحارات العقول لا تخبر بمحالات العقول فهذا سبيل الهدى والسنة والعلم وأما سبيل الضلال والبدعة والجهل فعكس ذلك : أن يبتدع بدعة برأي رجال وتأويلاتهم ثم يجعل ما جاء به الرسول تبعا لها ويحرف ألفاظه ويتأول على وفق ما أصلوه . ما يحتاج الناس إليه في دينهم فقد بينه الله ورسوله بيانا شافيا
وهؤلاء تجدهم في نفس الأمر لا يعتمدون على ما جاء به الرسول ولا يتلقون الهدى منه ولكن ما وافقهم منه قبلوه وجعلوه حجة لا عمدة وما خالفهم تأولوه كالذين يحرفون الكلم عن مواضعه أو فوضوه كالذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني وهؤلاء قد لا يعرفون ما جاء به الرسول : إما عجزا وإما تفريطا فإنه يحتاج إلى مقدمتين : أن الرسول قال كذا وأنه أراد به كذا أما الأولى فعامتهم لا يرتابون في أنه جاء بالقرآن وإن كان من غلاة أهل البدع من يرتاب في بعضه لكن الأحاديث عامة أهل البدع جهال بها وهم يظنون أن هذه رواها آحاد يجوزون عليهم الكذب والخطأ ولا يعرفون من كثرة [ ص: 445 ] طرقها وصفات رجالها والأسباب الموجبة للتصديق بها ما يعلمه أهل العلم بالحديث ; فإن هؤلاء يقطعون قطعا يقينا بعامة المتون الصحيحة التي في الصحيحين كما قد بسطناه في غير هذا الموضع . وأما المقدمة الثانية : فإنهم قد لا يعرفون معاني القرآن والحديث ومنهم من وقد بسطنا الكلام على فساد ذلك في غير هذا الموضع . وكثير منهم إنما ينظر من تفسير القرآن والحديث فيما يقوله موافقوه على المذهب فيتأول تأويلاتهم فالنصوص التي توافقهم يحتجون بها والتي تخالفهم يتأولونها وكثير منهم لم يكن عمدتهم في نفس الأمر اتباع نص أصلا وهذا في البدع الكبار مثل يقول : الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين بمراد المتكلم الرافضة والجهمية فإن الذي وضع الرفض كان زنديقا ابتدأ تعمد الكذب الصريح الذي يعلم أنه كذب كالذين ذكرهم الله مناليهود الذين يفترون على الله الكذب وهم يعلمون ثم جاء من بعدهم من ظن صدق ما افتراه أولئك وهم في شك منه كما قال تعالى : { وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب } وكذلك الجهمية ليس معهم على نفي الصفات وعلو الله على العرش ونحو ذلك نص أصلا لا آية ولا حديث ولا أثر عن الصحابة [ ص: 446 ] بل الذي ابتدأ ذلك لم يكن قصده اتباع الأنبياء بل وضع ذلك كما وضعت عبادة الأوثان وغير ذلك من أديان الكفار مع علمهم بأن ذلك مخالف للرسل كما ذكر عن مبدلة اليهود ثم فشا ذلك فيمن لم يعرفوا أصل ذلك .
وهذا بخلاف الخوارج ; فإن أصلها ما فهموه من القرآن فغلطوا في فهمه ومقصودهم اتباع القرآن باطنا وظاهرا ليسوا زنادقة . وكذلك بدعة القدرية أصل مقصودهم تعظيم الأمر والنهي والوعد والوعيد الذي جاءت به الرسل ويتبعون من القرآن ما دل على ذلك . فعمرو بن عبيد وأمثاله لم يكن أصل مقصودهم معاندة الرسول صلى الله عليه وسلم كالذي ابتدع الرفض . وكذلك قابلوا الإرجاء إنما أحدثه قوم قصدهم جعل أهل القبلة كلهم مؤمنين ليسوا كفارا الخوارج والمعتزلة فصاروا في طرف آخر . وكذلك علي وتقديمه على غيره ونحو ذلك لم يكن هذا من إحداث التشيع المتوسط - الذي مضمونه تفضيل الزنادقة بخلاف دعوى النص فيه والعصمة فإن الذي ابتدع ذلك كان منافقا زنديقا [ ص: 447 ] ولهذا قال : عبد الله بن المبارك وغيرهما : ويوسف بن أسباط : أصول البدع أربعة الشيعة والخوارج والقدرية والمرجئة . قالوا : والجهمية ليسوا من الثنتين وسبعين فرقة . وكذلك ذكر أبو عبد الله بن حامد عن أصحاب أحمد في ذلك قولين هذا أحدهما . وهذا أرادوا به التجهم المحض الذي كان عليه جهم نفسه ومتبعوه عليه وهو نفي الأسماء مع نفي الصفات بحيث لا يسمى الله بشيء من أسمائه الحسنى ولا يسميه شيئا ولا موجودا ولا غير ذلك وإنما نقل عنه أنه كان يسميه قادرا - لأن جميع الأسماء يسمى بها الخلق فزعم أنه يلزم منها التشبيه بخلاف القادر - فإنه كان رأس الجبرية وعنده ليس للعبد قدرة ولا فعل ولا يسمى غير الله قادرا ; فلهذا نقل عنه أنه سمى الله قادرا . وشر منه نفاة الأسماء والصفات وهم الملاحدة من الفلاسفة والقرامطة ولهذا كان هؤلاء عند الأئمة قاطبة ملاحدة منافقين بل فيهم من الكفر الباطن ما هو أعظم من كفر اليهود والنصارى وهؤلاء لا ريب أنهم ليسوا من الثنتين وسبعين فرقة وإذا أظهروا الإسلام فغايتهم أن يكونوا منافقين كالمنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولئك كانوا أقرب إلى الإسلام من هؤلاء فإنهم كانوا يلتزمون شرائع الإسلام الظاهرة وهؤلاء قد [ ص: 448 ] يقولون برفعها فلا صوم ولا صلاة ولا حج ولا زكاة ; لكن قد يقال : إن أولئك كانوا قد قامت عليهم الحجة بالرسالة أكثر من هؤلاء . وأما من يقول ببعض التجهم كالمعتزلة ونحوهم الذين يتدينون بدين الإسلام باطنا وظاهرا فهؤلاء من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بلا ريب . وكذلك من هو خير منهم كالكلابية والكرامية . وكذلك الشيعة المفضلين لعلي ومن كان منهم يقول بالنص والعصمة مع اعتقاده نبوة محمد صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا وظنه أن ما هو عليه هو دين الإسلام فهؤلاء أهل ضلال وجهل ليسوا خارجين عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم بل هم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا .
وعامة هؤلاء ممن يتبع ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله كما أن من المنافقين والكفار من يفعل ذلك ولهذا قال طائفة من المفسرين : كالربيع بن أنس : هم النصارى كنصارى نجران وقالت طائفة كالكلبي : هم اليهود : وقالت طائفة : هم المنافقون . وقالت طائفة كابن جريج كالحسن هم الخوارج . وقالت طائفة كقتادة : هم الخوارج والشيعة . وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } يقول إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري من هم . والسبئية نسبة إلى عبد الله بن سبأ رأس الرافضة .