الوجه الثالث أنه قد تقرر من أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة أنهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب ولا يخرجونه من الإسلام بعمل إذا كان فعلا منهيا عنه ; مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر ; ما لم يتضمن ترك الإيمان وأما إن تضمن ترك ما أمر الله بالإيمان به مثل : الإيمان بالله وملائكته ; وكتبه ورسله ; والبعث بعد الموت ; فإنه يكفر به وكذلك يكفر بعدم اعتقاد وجوب الواجبات الظاهرة المتواترة وعدم تحريم الحرمات الظاهرة المتواترة . مذهب
فإن قلت فالذنوب تنقسم إلى ترك مأمور به وفعل منهي عنه .
قلت : لكن المأمور به إذا تركه العبد : فإما أن يكون مؤمنا بوجوبه ; أو لا يكون فإن كان مؤمنا بوجوبه تاركا لأدائه فلم يترك الواجب كله بل أدى بعضه وهو الإيمان به وترك بعضه وهو العمل [ ص: 91 ] به . وكذلك المحرم إذا فعله ; فإما أن يكون مؤمنا بتحريمه أو لا يكون فإن كان مؤمنا بتحريمه فاعلا له فقد جمع بين أداء واجب وفعل محرم فصار له حسنة وسيئة والكلام إنما هو فيما لا يعذر بترك الإيمان بوجوبه وتحريمه من الأمور المتواترة وأما من لم يعتقد ذلك فيما فعله أو تركه بتأويل أو جهل يعذر به ; فالكلام في تركه هذا الاعتقاد كالكلام فيما فعله أو تركه بتأويل أو جهل يعذر به .
وأما كون ترك الإيمان بهذه الشرائع كفرا ; وفعل المحرم المجرد ليس كفرا : فهذا مقرر في موضعه وقد دل على ذلك كتاب الله في قوله : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } إذ الإقرار بها مراد بالاتفاق ; وفي ترك الفعل نزاع . وكذلك قوله : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } فإن عدم الإيمان بوجوبه وتركه كفر والإيمان بوجوبه وفعله يجب أن يكون مرادا من هذا النص كما قال من قال من السلف : هو من لا يرى حجه برا ولا تركه إثما وأما الترك المجرد ففيه نزاع .
وأيضا { لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى من تزوج امرأة أبيه فأمره أن يضرب عنقه ويخمس ماله أبي بردة بن نيار } فإن [ ص: 92 ] تخميس المال دل على أنه كان كافرا لا فاسقا وكفره بأنه لم يحرم ما حرم الله ورسوله . حديث
وكذلك الصحابة مثل عمر وعلي وغيرهما لما شرب الخمر وكان بدريا ; وتأول أنها تباح للمؤمنين المصلحين وأنه منهم بقوله : { قدامة بن عبد الله ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات } الآية فاتفق الصحابة على أنه إن أصر قتل وإن تاب جلد فتاب فجلد .
وأما الذنوب ففي القرآن قطع السارق وجلد الزاني ; ولم يحكم بكفرهم وكذلك فيه اقتتال الطائفتين مع بغي إحداهما على الأخرى ; والشهادة لهما بالإيمان والأخوة وكذلك فيه قاتل النفس الذي يجب عليه القصاص جعله أخا ; وقد قال الله فيه { فمن عفي له من أخيه شيء } فسماه أخا وهو قاتل .
وقد ثبت في الصحيحين { لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي ذر جبريل : من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة ; وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر على رغم أنف أبي ذر } " وثبت في الصحاح حديث حديث أبي سعيد وغيره في وقوله : { الشفاعة في أهل الكبائر } فهذه النصوص كما دلت على أن أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال برة من إيمان ; مثقال حبة من [ ص: 93 ] إيمان مثقال ذرة من إيمان وأنه يخرج من النار بالشفاعة خلافا للمبتدعة من ذا الكبيرة لا يكفر مع الإيمان الخوارج في الأولى ولهم وللمعتزلة في الثانية نزاع : فقد دلت على أن الإيمان الذي خرجوا به من النار هو حسنة مأمور بها وأنه لا يقاومها شيء من الذنوب وهذا هو .