الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل وقال في رواية بكر بن محمد فيمن وصى بفرس وسرج ولجام مفضض : يوقف في سبيل الله حبيس فهو على ما وقف وأوصى وإن بيع الفضة من السرج واللجام وجعل في وقف مثله فهو أحب إلي ; لأن الفضة لا ينتفع بها ولعله يشترى بتلك الفضة سرج ولجام فيكون أنفع للمسلمين . فقيل له : تباع الفضة وتصرف في نفقة الفرس ؟ قال : لا . وهذا مما ذكره الخلال وصاحبه أبو بكر عبد العزيز والقاضي وأبو محمد المقدسي وغيرهم . فقد صرح أحمد بأن الفرس واللجام المفضض هو على ما وقف وأوصى وأنه إن بيعت الفضة من السرج واللجام وجعل في وقف مثله فهو أحب إليه . قال : لأن الفضة لا ينتفع بها ولعله يشترى بتلك الفضة سرج ولجام فيكون أنفع للمسلمين . فخير بين إبقاء الحلية الموقوفة وقفا وبين [ ص: 237 ] أن تباع ويشترى بثمنها ما هو أنفع للمسلمين من سرج ولجام .

                وهذا يبين أفضل الأمرين . وقوله : لأن الفضة لا ينتفع بها . لم يرد به أنه لا منفعة بها بحال ; فإن التخلي منفعة مباحة ويجوز استئجار من يصوغ الحلية المباحة ولو أتلف متلف الصياغة المباحة ضمن ذلك وقد نص أحمد على ذلك ولو لم يكن منفعة لم يصح الاستئجار عليها ولا ضمنت بالإتلاف ; بل أراد نفي كمال المنفعة كما يقال هذا لا ينفع . يراد أنه لا ينفع منفعة تامة . ويدل على ذلك قوله : ويشترى بثمنها ما هو أنفع للمسلمين . فدل على أن كلاهما سائغ والثاني أنفع ; ولأنه لو لم تكن فيه منفعة بحال لم يصح وقفه ; فإن وقف ما لا ينتفع به لا يجوز وهذا يبين أن أفضل الأمرين أن يباع الوقف ويبدل بما هو أنفع منه للموقوف عليه وأن ذلك أفضل من إبقائه وقفا ; لأنه أصلح للموقوف عليه ولم يوجب الإبدال .

                وقوله : فهو على ما وقف وأوصى . يقتضي أن هذا حكم ما وقفه وما وصى بوقفه ; وإن كانت المسألة التي سئل عنها هي فيمن وصى بوقفه ومعلوم أنه يجب اتباع شرطه فيما وصى بوقفه ; كما يجب فيما وقفه كما يجب اتباع كلامه فيما وصى بعتقه كما يجب ذلك فيما أعتقه ; وأنه لا يجوز أن يوقف ويعتق غير ما أوصى بوقفه وعتقه ; كما لا يجوز أن يجعل الموقوف والمعتق غير ما وقفه وأعتقه . فجواز الإبدال في أحدهما كجوازه في الآخر . وقد علل استحبابه للإبدال بمجرد كون البدل أنفع للمسلمين من الزينة . [ ص: 238 ] ونظير هذا إذا وقف ما هو مزين بنقوش ورخام وخشب وغير ذلك مما يكون ثمنه مرتفعا لزينته ; فإنه يباع ويشترى بثمنه ما هو أنفع لأهل الوقف . فالاعتبار بما هو أنفع لأهل الوقف ; وقد تكون تلك الفضة أنفع لمشتريها وهذا لأن انتفاع المالك غير انتفاع أهل الوقف ; ولهذا يباع الوقف الخرب لتعطل نفعه ; ومعلوم أن ما لا نفع فيه لا يجوز بيعه ; لكن تعطل نفعه على أهل الوقف ولم يتعطل على المالك ; لأن أهل الوقف مقصودهم الاستغلال أو السكنى . وهذا يتعذر في الخراب والمالك يشتريه فيعمره بماله .

                وقد اختلف مذهب أحمد في مثل هذه الحلية . على قولين كحلية الخوذة والجوشن وحمائل السيف ونحو ذلك من لباس الجهاد ; فإن لباس خيل الجهاد كلباس المجاهدين . وهذه الرواية تدل على جواز تحلية لباس الخيل بالفضة : كالسرج واللجام ; فإنه جوز وقف ذلك . وجعل بيعه وصرف ثمنه في وقف مثله أحب إليه ; ولو لم يبح ذلك لم يخير بين هذا وهذا . وقال القاضي في " المجرد " ظاهر هذا أنه أبطل الوقف في الفضة التي على اللجام والسرج ; لأن الانتفاع بذلك محرم ; وليس كذلك الحلي الذي استعماله مباح وأجاز صرف ذلك في جنس ما وقفه من السروج واللجم ومنع من صرفه في نفقة الفرس ; لأنه ليس من جنس الوقف . والقاضي بنى هذا على أن هذه الحلية محرمة . وأنه إذا وقف ما يحرم الانتفاع به فإنه يباع ويشترى به ما يباح الانتفاع به . فيوقف على تلك الجهة .

                ومعلوم أنه لولا أن مقتضى عقد الوقف جواز الإبدال للمصلحة لم يجز هذا . كما أنه في البيع [ ص: 239 ] والنكاح لما لم يكن مقتضى العقد جواز الإبدال لم يصح بيع ما لا يحل الانتفاع به . ولا نكاح من يحرم وطؤها . وهذا يشبه ما لو أهدى ما لا يجوز أن يكون هديا ; فإنه يشترى بثمنه ما يكون هديا وكذلك في الأضحية . وكلام أحمد يدل على الطريقة الأولى ; لا على الثانية . وهي طريقة أبي محمد وغيره من أصحاب أحمد قال أبو محمد : أباح أحمد أن يشترى بفضة السرج واللجام سرجا ولجاما ; لأنه صرف لهما في جنس ما كانت عليه حيث لم ينتفع بهما فيه . فأشبه الفرس الحبيس إذا عطب فلم ينتفع به في الجهاد جاز بيعه وصرف ثمنه في مثله .

                قال : ولم يجز إنفاقها على الفرس لأنه صرف لها إلى غير جهتها . وأبو محمد جعل ذلك من باب تعطل النفع بالكلية كعطب الفرس وخراب الوقف ; بناء على أصله ; فإنه لا يجوز بيعه إلا إذا تعطل نفعه بالكلية كما تقدم ويدل على أن وقف الحلية صحيح وهو قول الخرقي والقاضي وغيرهما . والقاضي يجعل المذهب قولا واحدا في صحة وقفه . وأما أبو الخطاب وغيره فيجعلون في المسألة خلافا ; بل ويذكرون النصوص أنه لا يصح . بحسب ما بلغهم من نصه . قال القاضي : فإن وقف الحلي على الإعارة واللبس ؟ فقال في رواية الأثرم وحنبل : لا يصح وأنكر الحديث الذي يروى عن أم سلمة في وقفه . قال القاضي : وظاهر ما نقله الخرقي جواز وقفه ; لأنه يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه . وقوله : لا يصح . يعني لا يصح الحديث [ ص: 240 ] فيه ; ولم يقصد لا يصح الوقف فيه . وقال أبو الخطاب : وأما وقف الحلي على الإعارة واللبس فجائز على ظاهر ما نقله الخرقي . ونقل عنه الأثرم وحنبل . أنه لا يصح . وتجويزه لوقف السرج واللجام المفضض يوافق ما ذكره الخرقي ; لكن إبداله بما هو أنفع لأهل الوقف أفضل عنده أن يشترى بالحلية سرج ولجام .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية