وتنازع العلماء فيما إذا حلف بالله أو الطلاق أو الظهار أو الحرام أو النذر أنه لا يفعل شيئا ففعله ناسيا ليمينه  أو جاهلا بأنه المحلوف عليه : فهل يحنث كقول أبي حنيفة  ومالك  وأحمد  وأحد القولين للشافعي  وإحدى الروايات عن أحمد  ؟ أولا يحنث بحال كقول المكيين والقول الآخر للشافعي  والرواية الثانية عن أحمد  ؟ أو يفرق بين اليمين بالطلاق والعتاق وغيرهما كالرواية الثالثة عن أحمد  وهو اختيار القاضي  والخرقي  وغيرهما من أصحاب أحمد  والقفال  من أصحاب الشافعي  ؟ وكذلك لو اعتقد أن امرأته بانت بفعل المحلوف عليه ثم تبين له أنها لم تبن ؟ فقيه قولان . 
وكذلك إذا حلف بالطلاق أو غيره على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه  ؟ ففيه ثلاثة أقوال كما ذكر ولو حلف على شيء يشك فيه ثم تبين صدقه  ؟ ففيه قولان . عند مالك  يقع وعند الأكثرين لا يقع وهو المشهور من مذهب أحمد   . 
والمنصوص عنه في رواية حرب  التوقف في المسألة فيخرج على وجهين كما إذا حلف ليفعلن اليوم كذا ومضى اليوم أو شك في فعله هل يحنث ؟ على وجهين . 
واتفقوا على أنه يرجع في اليمين إلى نية الحالف إذا احتملها لفظه ولم يخالف الظاهر أو خالفه وكان مظلوما . 
وتنازعوا هل يرجع إلى سبب  [ ص: 87 ] اليمين وسياقها وما هيجها ؟ على قولين : فمذهب المدنيين كمالك  وأحمد  وغيره أنه يرجع إلى ذلك والمعروف في مذهب أبي حنيفة  والشافعي  أنه لا يرجع لكن في مسائلهما ما يقتضي خلاف ذلك . 
وإن كان السبب أعم من اليمين عمل به عند من يرى السبب . وإن كان خاصا : فهل يقصر اليمين عليه ؟ فيه قولان في مذهب أحمد  وغيره . وإن حلف على معين يعتقده على صفة فتبين بخلافها ؟ ففيه أيضا قولان . 
وكذلك لو طلق امرأته بصفة ; ثم تبين بخلافها  مثل أن يقول : أنت طالق إن دخلت الدار - بالفتح - أي لأجل دخولك الدار ; ولم تكن دخلت . فهل يقع به الطلاق ؟ على قولين في مذهب أحمد  وغيره . وكذلك إذا قال : أنت طالق لأنك فعلت كذا ونحو ذلك ولم تكن فعلته  ؟ ولو قيل له : امرأتك فعلت كذا ; فقال : هي طالق . ثم تبين أنهم كذبوا عليها ؟ ففيه قولان وتنازعوا في الطلاق المحرم : كالطلاق في الحيض ; وكجمع الثلاث عند الجمهور الذين يقولون إنه حرام ; ولكن الأربعة وجمهور العلماء يقولون : كونه حراما لا يمنع وقوعه كما أن الظهار محرم وإذا ظاهر ثبت حكم الظهار ; وكذلك " النذر " قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه نهى عنه } ومع هذا يجب عليه الوفاء به بالنص والإجماع . 
والذين قالوا لا يقع : اعتقدوا أن كل ما نهى الله عنه فإنه يقع فاسدا لا يترتب عليه حكم والجمهور فرقوا بين أن يكون الحكم يعمه لا يناسب فعل  [ ص: 88 ] المحرم : كحل الأموال والإبضاع وإجزاء العبادات وبين أن يكون عبادة تناسب فعل المحرم كالإيجاب والتحريم ; فإن المنهي عن شيء إذا فعله قد تلزمه بفعله كفارة أو حد أو غير ذلك من العقوبات : فكذلك قد ينهى عن فعل شيء فإذا فعله لزمه به واجبات ومحرمات ; ولكن لا ينهى عن شيء إذا فعله أحلت له بسبب فعل المحرم الطيبات ; فبرئت ذمته من الواجبات ; فإن هذا من " باب الإكرام والإحسان " والمحرمات لا تكون سببا محضا للإكرام والإحسان ; بل هي سبب للعقوبات إذا لم يتقوا الله تبارك وتعالى . 
كما قال تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم   } وقال تعالى : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر   } إلى قوله تبارك وتعالى : { ذلك جزيناهم ببغيهم   } وكذلك ما ذكره تعالى في قصة البقرة من كثرة سؤالهم وتوقفهم عن امتثال أمره كان سببا لزيادة الإيجاب ومنه قوله تعالى { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم   } وحديث النبي صلى الله عليه وسلم { إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته  } ولما { سألوه عن الحج : أفي كل عام ؟ قال : لا . 
ولو قلت : نعم لوجب ; ولو وجب لم تطيقوه ; ذروني ما تركتم ; فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ; فإذا نهيتم عن شيء فاجتنبوه . 
وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم  } . ومن هنا قال طائفة من العلماء : إن الطلاق الثلاث حرمت به المرأة عقوبة للرجل حتى لا يطلق   ; فإن الله يبغض الطلاق ; وإنما يأمر به الشياطين والسحرة كما قال تعالى في السحر : { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه   } وفي  [ ص: 89 ] الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الشيطان ينصب عرشه على البحر ; ويبعث جنوده فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة ; فيأتي أحدهم فيقول ما زلت به حتى شرب الخمر . فيقول الساعة يتوب ويأتي الآخر فيقول : ما زلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته . فيقبله بين عينيه . ويقول : أنت أنت  } . 
وقد روى أهل التفسير والحديث والفقه : أنهم كانوا في أول الإسلام يطلقون بغير عدد ; يطلق الرجل المرأة ثم يدعها حتى إذا شارفت انقضاء العدة راجعها ثم طلقها ضرارا فقصرهم الله على الطلقات الثلاث ; لأن الثلاث أول حد الكثرة وآخر حد القلة . ولولا أن الحاجة داعية إلى الطلاق لكان الدليل يقتضي تحريمه كما دلت عليه الآثار والأصول ; ولكن الله تعالى أباحه رحمة منه بعباده لحاجتهم إليه أحيانا . وحرمه في مواضع باتفاق العلماء . كما إذا طلقها في الحيض ولم تكن سألته الطلاق   ; فإن هذا الطلاق حرام باتفاق العلماء . والله تعالى بعث محمدا  صلى الله عليه وسلم بأفضل الشرائع وهي الحنيفية السمحة كما قال : { أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة  } فأباح لعباده المؤمنين الوطء بالنكاح . والوطء بملك اليمين . واليهود  والنصارى  لا يطئون إلا بالنكاح ; لا يطئون بملك اليمين . 
و " أصل ابتداء الرق " إنما يقع من السبي . والغنائم لم تحل إلا لأمة محمد  صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديث الصحيح أنه قال : { فضلنا على الأنبياء بخمس : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة  [ ص: 90 ] وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة وأعطيت الشفاعة  } فأباح سبحانه للمؤمنين أن ينكحوا وأن يطلقوا وأن يتزوجوا المرأة المطلقة بعد أن تتزوج بغير زوجها . " والنصارى   " يحرمون النكاح على بعضهم ومن أباحوا له النكاح لم يبيحوا له الطلاق . " واليهود   " يبيحون الطلاق ; لكن إذا تزوجت المطلقة بغير زوجها حرمت عليه عندهم . والنصارى  لا طلاق عندهم . واليهود  لا مراجعة بعد أن تتزوج غيره عندهم . والله تعالى أباح للمؤمنين هذا وهذا . 
ولو أبيح الطلاق بغير عدد - كما كان في أول الأمر - لكان الناس يطلقون دائما : إذا لم يكن أمر يزجرهم عن الطلاق ; وفي ذلك من الضرر والفساد ما أوجب حرمة ذلك ولم يكن فساد الطلاق لمجرد حق المرأة فقط : كالطلاق في الحيض حتى يباح دائما بسؤالها ; بل نفس الطلاق إذا لم تدع إليه حاجة  منهي عنه باتفاق العلماء : إما نهي تحريم أو نهي تنزيه . 
وما كان مباحا للحاجة قدر بقدر الحاجة . والثلاث هي مقدار ما أبيح للحاجة ; كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام  } وكما قال : { لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ; إلا على زوج  [ ص: 91 ] فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا  } وكما رخص للمهاجر أن يقيم بمكة  بعد قضاء نسكه ثلاثا . 
وهذه الأحاديث في الصحيح . وهذا مما احتج به من لا يرى وقوع الطلاق إلا من القصد ; ولا يرى وقوع طلاق المكره ; كما لا يكفر من تكلم بالكفر مكرها  بالنص والإجماع ; ولو تكلم بالكفر مستهزئا بآيات الله وبالله ورسوله  كفر ; كذلك من تكلم بالطلاق هازلا  وقع به . 
ولو حلف بالكفر فقال : إن فعل كذا فهو بريء من الله ورسوله ; أو فهو يهودي أو نصراني . لم يكفر بفعل المحلوف عليه ; وإن كان هذا حكما معلقا بشرط في اللفظ ; لأن مقصوده الحلف به بغضا له ونفورا عنه ; لا إرادة له ; بخلاف من قال : إن أعطيتموني ألفا كفرت فإن هذا يكفر . 
وهكذا يقول من يفرق بين الحلف بالطلاق وتعليقه بشرط لا يقصد كونه وبين الطلاق المقصود عند وقوع الشرط . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					