والذين . فالإقرار باللسان يتضمن التصديق باللسان . قالوا : الإيمان هو الإقرار والمرجئة لم تختلف أن الإقرار باللسان فيه التصديق ; فعلم أنه أراد تصديق القلب ومعرفته مع الإقرار باللسان ; إلا أن يقال : أراد تصديق القلب واللسان جميعا مع المعرفة والإقرار ; ومراده بالإقرار الالتزام لا التصديق كما قال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } فالميثاق المأخوذ على أنهم يؤمنون به وينصرونه وقد أمروا بهذا وليس هذا الإقرار تصديقا فإن الله تعالى لم يخبرهم بخبر ; بل أوجب عليهم إذا جاءهم ذلك الرسول أن يؤمنوا به وينصروه . فصدقوا بهذا الإقرار والتزموه فهذا هو إقرارهم . والإنسان قد يقر للرسول بمعنى أنه يلتزم ما يأمر به مع غير معرفة ومن غير تصديق له بأنه رسول الله لكن لم يقل أحد من المرجئة : إن هذا الإقرار يكون إيمانا . [ ص: 397 ] بل لا بد عندهم من الإقرار الخبري وهو أنه يقر له بأنه رسول الله كما يقر المقر بما يقر به من الحقوق ولفظ الإقرار يتناول الالتزام والتصديق ولا بد منهما وقد يراد بالإقرار مجرد التصديق بدون التزام الطاعة ; والمرجئة تارة يجعلون هذا هو الإيمان وتارة يجعلون الإيمان التصديق والالتزام معا هذا هو الإقرار الذي يقوله فقهاء المرجئة : إنه إيمان وإلا لو قال : أنا أطيعه ولا أصدق أنه رسول الله أو أصدقه ولا ألتزم طاعته لم يكن مسلما ولا مؤمنا عندهم .
وأحمد قال : لا بد مع هذا الإقرار أن يكون مصدقا وأن يكون عارفا وأن يكون مصدقا بما عرف . وفي رواية أخرى : مصدقا بما أقر وهذا يقتضي أنه لا بد من تصديق باطن ويحتمل أن يكون لفظ التصديق عنده يتضمن القول والعمل جميعا كما قد ذكرنا شواهده أنه يقال : صدق بالقول والعمل فيكون تصديق القلب عنده يتضمن أنه مع معرفة قلبه أنه رسول الله قد خضع له وانقاد ; فصدقه بقول قلبه وعمل قلبه محبة وتعظيما وإلا فمجرد معرفة قلبه أنه رسول الله مع الإعراض عن الانقياد له ولما جاء به إما حسدا وإما كبرا وإما لمحبة دينه الذي يخالفه وإما لغير ذلك فلا يكون إيمانا . ولا بد في الإيمان من علم القلب وعمله فأراد أحمد بالتصديق أنه مع المعرفة به صار القلب مصدقا له تابعا له محبا له معظما له فإن هذا لا بد منه ومن دفع هذا عن أن يكون من الإيمان فهو من جنس من دفع المعرفة من أن تكون من الإيمان وهذا أشبه بأن [ ص: 398 ] يحمل عليه كلام أحمد ; لأن وجوب انقياد القلب مع معرفته ظاهر ثابت بدلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة بل ذلك معلوم بالاضطرار من دين الإسلام ومن نازع من الجهمية في أن انقياد القلب من الإيمان فهو كمن نازع من الكرامية في أن معرفة القلب من الإيمان فكان حمل كلام أحمد على هذا هو المناسب لكلامه في هذا المقام .
وأيضا فإن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالي عن الانقياد الذي يجعل قول القلب ; أمر دقيق وأكثر العقلاء ينكرونه وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد أن يوجب شيئين لا يتصور الفرق بينهما وأكثر الناس لا يتصورون الفرق بين معرفة القلب وتصديقه ويقولون : إن ما قاله ابن كلاب والأشعري من الفرق كلام باطل لا حقيقة له وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق وعمدتهم من الحجة إنما هو خبر الكاذب قالوا : ففي قلبه خبر بخلاف علمه فدل على الفرق . فقال لهم الناس : ذاك بتقدير خبر وعلم ليس هو علما حقيقيا ولا خبرا حقيقيا ولما أثبتوه من قول القلب المخالف للعلم والإرادة إنما يعود إلى تقدير علوم وإرادات لا إلى جنس آخر يخالفها . ولهذا قالوا : إن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بقلبه خبر بخلاف علمه ; وإنما يمكنه أن يقول ذلك بلسانه وأما أنه يقوم بقلبه خبر بخلاف ما يعلمه فهذا غير ممكن وهذا مما استدلوا به على أن الرب تعالى لا يتصور قيام الكذب [ ص: 399 ] بذاته لأنه بكل شيء عليم ويمتنع قيام معنى يضاد العلم بذات العالم والخبر النفساني الكاذب يضاد العلم . فيقال لهم : الخبر النفساني لو كان خلافا للعلم لجاز وجود العلم مع ضده كما يقولون مثل ذلك في مواضع كثيرة وهي من أقوى الحجج التي يحتج بها القاضي أبو بكر وموافقوه في مسألة العقل وغيرها كالقاضي أبي يعلى وأبي محمد ابن اللبان وأبي علي بن شاذان وأبي الطيب وأبي الوليد الباجي وأبي الخطاب وغيرهم ; فيقولون : العقل نوع من العلم فإنه ليس بضد له فإن لم يكن نوعا منه كان خلافا له ولو كان خلافا لجاز وجوده مع ضد العقل وهذه الحجة وإن كانت ضعيفة - كما ضعفها الجمهور وابن عقيل وأبو المعالي الجويني ممن ضعفها - فإن ما كان مستلزما لغيره لم يكن ضدا له إذ قد اجتمعا وليس هو من نوعه ; بل هو خلاف له على هذا الاصطلاح الذي يقسمون فيه كل اثنين إلى أن يكونا مثلين أو خلافين أو ضدين فالملزوم كالإرادة مع العلم أو كالعلم مع الحياة ونحو ذلك ضدا ولا مثلا ; بل هو خلاف ومع هذا فلا يجوز وجوده مع ضد اللازم فإن ضد اللازم ينافيه ووجود الملزوم بدون اللازم محال كوجود الإرادة بدون العلم والعلم بدون الحياة فهذان خلافان عندهم ولا يجوز وجود أحدهما مع ضد الآخر .
كذلك العلم هو مستلزم للعقل فكل عالم عاقل والعقل شرط في العلم فليس مثلا له ولا ضدا ولا نوعا منه ومع هذا لا يجوز وجوده مع ضد العقل [ ص: 400 ] لكن هذه الحجة تقال لهم في العلم مع كلام النفس الذي هو الخبر فإنه ليس ضدا ولا مثلا بل خلافا ; فيجوز وجود العلم مع ضد الخبر الصادق وهو الكاذب فبطلت تلك الحجة على امتناع الكذب النفساني من العالم وبسط هذا له موضع آخر . والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عسر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صادق وبين تصديق قلبه تصديقا مجردا عن انقياد وغيره من أعمال القلب بأنه صادق . ثم احتج على أن الإمام أحمد بحجج كثيرة فقال وقد { الأعمال من الإيمان وفد عبد القيس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا خمسا من المغنم } فجعل ذلك كله من الإيمان . قال : وقال النبي صلى الله عليه وسلم { سأل } وقال : { الحياء شعبة من الإيمان } وقال . { أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا } . وقال { إن البذاذة من الإيمان } مع أشياء كثيرة منها : { الإيمان بضع وستون شعبة فأدناها إماطة الأذى عن الطريق وأرفعها قول لا إله إلا الله } وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة المنافق : { أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان } مع حجج كثيرة . ثلاث من كن فيه فهو منافق
وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تارك الصلاة وعن أصحابه من بعده ثم ما وصف الله تعالى في كتابه [ ص: 401 ] من زيادة الإيمان في غير موضع مثل قوله : { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم } وقال : { ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا } وقال : { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } وقال تعالى { فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون } وقال : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } وقال تعالى : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } وقال تعالى : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } وقال : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } . قال أحمد : ويلزمه أن يقول : هو مؤمن بإقراره وإن أقر بالزكاة في الجملة ولم يجد في كل مائتي درهم خمسة أنه مؤمن فيلزمه أن يقول : إذا أقر ثم شد الزنار في وسطه وصلى للصليب وأتى الكنائس والبيع وعمل الكبائر كلها إلا أنه في ذلك مقر بالله ; فيلزمه أن يكون عنده مؤمنا وهذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم .
" قلت " : هذا الذي ذكره من أحسن ما احتج الناس به عليهم جمع في ذلك يقول جملا يقول غيره بعضها وهذا الإلزام لا محيد لهم عنه ولهذا لما عرف متكلمهم مثل الإمام أحمد جهم ومن وافقه أنه لازم التزموه . وقالوا : لو فعل [ ص: 402 ] [ ما فعل ] من الأفعال الظاهرة لم يكن بذلك كافرا في الباطن ; لكن يكون دليلا على الكفر في أحكام الدنيا فإذا احتج عليهم بنصوص تقتضي أنه يكون كافرا في الآخرة . قالوا : فهذه النصوص تدل على أنه في الباطن ليس معه من معرفة الله شيء فإنها عندهم شيء واحد فخالفوا صريح المعقول وصريح الشرع . وهذا القول مع فساده عقلا وشرعا ومع كونه عند التحقيق لا يثبت إيمانا ; فإنهم جعلوا الإيمان شيئا واحدا لا حقيقة له كما قالت الجهمية ومن وافقهم مثل ذلك في وحدة الرب أنه ذات بلا صفات . وقالوا بأن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة وما يقوله [ ] من وحدة الكلام وغيره من الصفات . فقولهم في الرب وصفاته وكلامه والإيمان به يرجع إلى تعطيل محض وهذا قد وقع فيه طوائف كثيرة من المتأخرين المنتسبين إلى السنة والفقه والحديث المتبعين للأئمة الأربعة المتعصبين ابن كلاب للجهمية والمعتزلة ; بل وللمرجئة أيضا ; لكن لعدم معرفتهم بالحقائق التي نشأت منها البدع يجمعون بين الضدين ولكن من رحمة الله بعباده المسلمين أن الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدق مثل الأئمة الأربعة وغيرهم كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وكالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد ; كانوا ينكرون على أهل الكلام من الجهمية قولهم في القرآن والإيمان وصفات الرب وكانوا متفقين على ما كان عليه السلف من أن الله يرى في الآخرة وأن [ ص: 403 ] القرآن كلام الله غير مخلوق وأن الإيمان لا بد فيه من تصديق القلب واللسان فلو كان كافرا باطنا وظاهرا عندهم كلهم ومن كان موافقا لقول شتم الله ورسوله جهم في الإيمان بسبب انتصار أبي الحسن لقوله في الإيمان يبقى تارة يقول بقول السلف والأئمة وتارة يقول بقول المتكلمين الموافقين لجهم ; حتى في مسألة سب الله ورسوله رأيت طائفة من الحنبليين والشافعيين والمالكيين إذا تكلموا بكلام الأئمة قالوا : إن هذا كفر باطنا وظاهرا .
وإذا تكلموا بكلام أولئك قالوا : هذا كفر في الظاهر وهو في الباطن يجوز أن يكون مؤمنا تام الإيمان فإن الإيمان عندهم لا يتبعض . ولهذا لما عرف هذا من قول بعض أصحابه أنكره ونصر قول القاضي عياض مالك وأهل السنة وأحسن في ذلك . وقد ذكرت بعض ما يتعلق بهذا في كتاب " الصارم المسلول على شاتم الرسول " وكذلك تجدهم في مسائل الإيمان يذكرون أقوال الأئمة والسلف ويبحثون بحثا يناسب قول الجهمية لأن البحث أخذوه من كتب أهل الكلام الذين نصروا قول جهم في مسائل الإيمان . والرازي لما صنف " مناقب الشافعي " ذكر قوله في الإيمان . وقول الشافعي قول الصحابة والتابعين وقد ذكر الشافعي أنه إجماع من الصحابة والتابعين . ومن لقيه استشكل قول الشافعي جدا لأنه كان قد انعقد في نفسه : من شبهة أهل البدع في الإيمان الخوارج والمعتزلة والجهمية والكرامية [ ص: 404 ] وسائر المرجئة وهو أن الشيء المركب إذا زال بعض أجزائه لزم زواله كله ; لكن هو لم يذكر إلا ظاهر شبهتهم . والجواب عما ذكروه هو سهل فإنه يسلم له أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت ; لكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء .
والشافعي مع الصحابة والتابعين وسائر السلف يقولون : إن ولهذا نفى الشارع الإيمان عن هؤلاء فذلك المجموع الذي هو الإيمان لم يبق مجموعا مع الذنوب لكن يقولون بقي بعضه : إما أصل وإما أكثره وإما غير ذلك فيعود الكلام إلى أنه يذهب بعضه ويبقى بعضه . ولهذا كانت الذنب يقدح في كمال الإيمان المرجئة تنفر من لفظ النقص أعظم من نفورها من لفظ الزيادة ; لأنه إذا نقص لزم ذهابه كله عندهم إن كان متبعضا متعددا عند من يقول بذلك وهم الخوارج والمعتزلة . وإما الجهمية فهو واحد عندهم لا يقبل التعدد ; فيثبتون واحدا لا حقيقة له ; كما قالوا مثل ذلك في وحدانية الرب ووحدانية صفاته عند من أثبتها منهم