( الأصل الثاني ) أن فإذا قوي ما في القلب من التصديق والمعرفة والمحبة لله ورسوله أوجب بغض أعداء الله . كما قال تعالى : { شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة ولا تتلازم عند الضعف ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء } وقال : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } . وقد تحصل للرجل موادتهم [ ص: 523 ] لرحم أو حاجة فتكون ذنبا ينقص به إيمانه ولا يكون به كافرا كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله فيه { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } . وكما حصل لسعد بن عبادة لما انتصر لابن أبي في قصة الإفك . فقال : لسعد بن معاذ : كذبت والله ; لا تقتله ولا تقدر على قتله ; قالت عائشة : وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية . ولهذه الشبهة { عمر حاطبا منافقا فقال دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال إنه شهد بدرا } فكان سمى عمر متأولا في تسميته منافقا للشبهة التي فعلها . وكذلك قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة ; كذبت لعمر الله لنقتلنه ; إنما أنت منافق تجادل عن المنافقين ; هو من هذا الباب .
وكذلك قول من قال من الصحابة عن مالك بن الدخشم : منافق وإن كان قال ذلك لما رأى فيه من نوع معاشرة ومودة للمنافقين . ولهذا لم يكن المتهمون بالنفاق نوعا واحدا بل فيهم المنافق المحض ; وفيهم من فيه إيمان ونفاق ; وفيهم من إيمانه غالب وفيه شعبة من النفاق . وكان كثير ذنوبهم بحسب ظهور الإيمان ; ولما قوي الإيمان وظهر الإيمان وقوته عام تبوك ; صاروا يعاتبون من النفاق على ما لم يكونوا يعاتبون عليه قبل ذلك ; [ ص: 524 ] ومن هذا الباب ما يروى عن الحسن البصري ونحوه من السلف ; أنهم سموا الفساق منافقين ; فجعل أهل المقالات هذا قولا مخالفا للجمهور ; إذا حكوا تنازع الناس في ؟ أو مؤمن بما معه من الإيمان فاسق بما معه من الفسق ؟ أو منافق الفاسق الملي هل هو كافر ؟ أو فاسق ليس معه إيمان ؟ أو مؤمن كامل الإيمان والحسن - رحمه الله تعالى - لم يقل ما خرج به عن الجماعة لكن سماه منافقا على الوجه الذي ذكرناه . والنفاق كالكفر نفاق دون نفاق ولهذا كثيرا ما يقال : كفر ينقل عن الملة وكفر لا ينقل ونفاق أكبر ونفاق أصغر كما يقال : الشرك شركان أصغر وأكبر ; وفي صحيح أبي حاتم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أبو بكر : يا رسول الله كيف ننجو منه وهو أخفى من دبيب النمل ؟ فقال : ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله ؟ قل : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم } . وفي الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل فقال الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { } قال من حلف بغير الله فقد أشرك الترمذي حديث حسن .
وبهذا تبين أن الشارع ينفي اسم الإيمان عن الشخص ; لانتفاء كماله الواجب وإن كان معه بعض أجزائه كما قال : { } ومنه قوله : { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ; ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ; ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن } . فإن صيغة " أنا " و " نحن " ونحو ذلك من ضمير المتكلم في مثل ذلك يتناول النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه - الإيمان المطلق - الذي يستحقون به الثواب . بلا عقاب ومن هنا قيل إن الفاسق الملي يجوز أن يقال : هو مؤمن باعتبار ويجوز أن يقال : ليس مؤمنا باعتبار . وبهذا تبين أن الرجل قد يكون مسلما لا مؤمنا ولا منافقا مطلقا بل يكون معه أصل الإيمان دون حقيقته الواجبة . ولهذا أنكر من غشنا فليس منا ومن حمل علينا [ ص: 525 ] السلاح فليس منا أحمد وغيره من الأئمة على من فسر قوله صلى الله عليه وسلم " ليس منا " ليس مثلنا أو ليس من خيارنا وقال هذا تفسير " المرجئة " وقالوا : لو لم يفعل هذه الكبيرة كان يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم . وكذلك تفسير الخوارج والمعتزلة بأنه يخرج من الإيمان بالكلية ويستحق الخلود في النار ; تأويل منكر كما تقدم فلا هذا ولا هذا . ومما يبين ذلك أنه من المعلوم أن معرفة الشيء المحبوب تقتضي حبه ومعرفة المعظم تقتضي تعظيمه ومعرفة المخوف تقتضي خوفه ، فنفس العلم والتصديق بالله وما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى يوجب محبة القلب له وتعظيمه وخشيته ; وذلك يوجب إرادة طاعته وكراهية معصيته .