ولا يجوز لعاقل أن لوجوه : ( أحدها ) : أن الله أنزل الموازين مع كتبه قبل أن يخلق اليونان من عهد يظن أن الميزان العقلي الذي أنزله الله هو منطق اليونان نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم . وهذا المنطق اليوناني وضعه أرسطو قبل المسيح بثلاثمائة سنة فكيف كانت الأمم المتقدمة تزن به .
[ ص: 241 ] ( الثاني ) : أن أمتنا أهل الإسلام ما زالوا يزنون بالموازين العقلية . ولم يسمع سلفا بذكر هذا المنطق اليوناني . وإنما ظهر في الإسلام لما عربت الكتب الرومية في عهد دولة المأمون أو قريبا منها .
( الثالث ) أنه ما زال نظار المسلمين بعد أن عرب وعرفوه يعيبونه ويذمونه ولا يلتفتون إليه ولا إلى أهله في موازينهم العقلية والشرعية . ولا يقول القائل ليس فيه مما انفردوا به إلا اصطلاحات لفظية وإلا فالمعاني العقلية مشتركة بين الأمم فإنه ليس الأمر كذلك ; بل فيه معاني كثيرة فاسدة .
ثم هذا جعلوه ميزان الموازين العقلية التي هي الأقيسة العقلية . وزعموا أنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره . وليس الأمر كذلك فإنه لو احتاج الميزان إلى ميزان لزم التسلسل .
و أيضا فالفطرة إن كانت صحيحة وزنت بالميزان العقلي وإن كانت بليدة أو فاسدة لم يزدها المنطق إلا بلادة وفسادا . ولهذا يوجد عامة من يزن به علومه لا بد أن يتخبط ولا يأتي بالأدلة العقلية على الوجه المحمود ومتى أتى بها على الوجه المحمود أعرض عن اعتبارها بالمنطق لما فيه من العجز والتطويل وتبعيد الطريق وجعل الواضحات خفيات وكثرة الغلط والتغليط . فإنهم إذا عدلوا عن المعرفة الفطرية العقلية للمعينات إلى أقيسة كلية وضعوا [ ص: 242 ] ألفاظها وصارت مجملة تتناول حقا وباطلا حصل بها من الضلال ما هو ضد المقصود من الموازين . وصارت هذه الموازين عائلة لا عادلة . وكانوا فيها من المطففين : { الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون } { وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } وأين البخس في الأموال من البخس في العقول والأديان مع أن أكثرهم لا يقصدون البخس بل هم بمنزلة من ورث موازين من أبيه يزن بها تارة له وتارة عليه . ولا يعرف أهي عادلة أم عائلة .
والميزان التي أنزلها الله مع الكتاب ميزان عادلة تتضمن اعتبار الشيء بمثله وخلافه فتسوي بين المتماثلين وتفرق بين المختلفين بما جعله الله في فطر عباده وعقولهم من معرفة التماثل والاختلاف .
فإذا قيل : إن كان هذا مما يعرف بالعقل . فكيف جعله الله مما أرسل به الرسل .
قيل : لأن الرسل ضربت للناس الأمثال العقلية التي يعرفون بها التماثل والاختلاف . فإن الرسل دلت الناس وأرشدتهم إلى ما به يعرفون العدل ويعرفون الأقيسة العقلية الصحيحة التي يستدل بها على المطالب الدينية . فليست العلوم النبوية مقصورة على الخبر بل الرسل صلوات الله عليهم بينت العلوم العقلية التي بها يتم دين الله علما وعملا . وضربت الأمثال فكملت الفطرة بما نبهتها عليه وأرشدتها لما كانت الفطرة معرضة عنه [ ص: 243 ] أو كانت الفطرة قد فسدت بما يحصل لها من الآراء والأهواء الفاسدة فأزالت ذلك الفساد . والقرآن والحديث مملوءان من هذا يبين الله الحقائق بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة . ويبين طريق التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين . وينكر على من يخرج عن ذلك كقوله : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية وقوله : { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } { ما لكم كيف تحكمون } أي هذا حكم جائر لا عادل فإن فيه تسوية بين المختلفين . ومن التسوية بين المتماثلين قوله : { أكفاركم خير من أولئكم } وقوله : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم } الآية .
و المقصود التنبيه على أن بل هي الأقيسة الصحيحة المتضمنة للتسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين سواء صيغ ذلك بصيغة قياس الشمول أو بصيغة قياس التمثيل وصيغ التمثيل هي الأصل وهي الحمل والميزان هو القدر المشترك وهو الجامع . الميزان العقلي حق كما ذكر الله في كتابه . وليس هو مختصا بمنطق اليونان
( الوجه الثامن ) : أنهم كما حصروا اليقين في الصورة القياسية حصروه في المادة التي ذكروها من القضايا : الحسيات والأوليات والمتواترات والمجربات . والحدسيات . ومعلوم أنه لا دليل على نفي ما سوى هذه القضايا ثم مع ذلك إنما اعتبروا في الحسيات والعقليات وغيرها ما جرت العادة باشتراك [ ص: 244 ] بني آدم فيه وتناقضوا في ذلك ; فإن بني آدم إنما يشتركون كلهم في بعض المرئيات وبعض المسموعات فإنهم كلهم يرون عين الشمس والقمر والكواكب ويرون جنس السحاب والبرق وإن لم يكن ما يراه هؤلاء عين ما يراه هؤلاء وكذلك يشتركون في سماع صوت الرعد وأما ما يسمعه بعضهم من كلام بعض وصوته فهذا لا يشترك بنو آدم في عينه بل كل قوم يسمعون ما لم يسمع غيرهم وكذا أكثر المرئيات .
وأما الشم والذوق واللمس فهذا لا يشترك جميع الناس في شيء معين فيه بل الذي يشمه هؤلاء ويذوقونه ويلمسونه ليس هو الذي يشمه ويذوقه ويلمسه هؤلاء . لكن قد يتفقان في الجنس لا في العين .
وكذلك ما يعلم بالتواتر والتجربة والحدس فإنه قد يتواتر عند هؤلاء ويجرب هؤلاء ما لم يتواتر عند غيرهم ويجربوه . ولكن قد يتفقان في الجنس كما يجرب قوم بعض الأدوية ويجرب آخرون جنس تلك الأدوية فيتفق في معرفة الجنس لا في معرفة عين المجرب .
ثم هم مع هذا يقولون في المنطق : إن المتواترات والمجربات والحدسيات تختص بمن علمها فلا يقوم منها برهان على غيره .
فيقال لهم ; وكذلك المشمومات والمذوقات . والملموسات بل اشتراك [ ص: 245 ] الناس في المتواترات أكثر فإن الخبر المتواتر ينقله عدد كثير فيكثر السامعون له ويشتركون في سماعه من العدد الكثير بخلاف ما يدرك بالحواس فإنه يختص بمن أحسه فإذا قال : رأيت أو سمعت أو ذقت أو لمست أو شممت فكيف يمكنه أن يقيم من هذا برهانا على غيره . ولو قدر أنه شاركه في تلك الحسيات عدد فلا يلزم من ذلك أن يكون غيرهم أحسها ولا يمكن علمها لمن لم يحسها إلا بطريق الخبر .
وعامة ما عندهم من العلوم الكلية بأحوال الموجودات هي من العلم بعادة ذلك الموجود وهو ما يسمونه " الحدسيات " وعامة ما عندهم من العلوم العقلية الطبيعية والعلوم الفلكية كعلم الهيئة فهو من قسم المجربات وهذه لا يقوم فيها برهان فإن كون هذه الأجسام الطبيعية جربت وكون الحركات جربت لا يعرفه أكثر الناس إلا بالنقل . والتواتر في هذا قليل .
وغاية الأمر أن تنقل التجربة في ذلك عن بعض الأطباء أو بعض أهل الحساب . وغاية ما يوجد . أن يقول بطليموس : هذا مما رصده فلان وأن يقول جالينوس : هذا مما جربته أو ذكر لي فلان أنه جربه وليس في هذا شيء من المتواتر . وإن قدر أن غيره جربه أيضا فذاك خبر واحد وأكثر الناس لم يجربوا جميع ما جربوه ولا علموا بالأرصاد ما ادعوا أنهم [ ص: 246 ] علموه . وإن ذكروا جماعة رصدوا فغايته أنه من المتواتر الخاص الذي تنقله طائفة .
فمن زعم أنه لا يقوم عليه برهان بما تواتر عن الأنبياء كيف يمكنه أن يقيم على غيره برهانا بمثل هذا التواتر ويعظم علم الهيئة والفلسفة ويدعي أنه علم عقلي معلوم بالبرهان . وهذا أعظم ما يقوم عليه البرهان العقلي عندهم هذا حاله فما الظن بالإلهيات التي إذا نظر فيها كلام معلمهم الأول أرسطو وتدبره الفاضل العاقل لم يفده إلا العلم بأنهم كانوا من أجهل الخلق برب العالمين وأن كفار اليهود والنصارى أعلم منهم بهذه الأمور .