قوله تعالى: من جاء بالحسنة فله خير منها
وقال : "لا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا"، وكذلك ترنمهم بالقرآن وسماعهم له، وأعلاه: سماعه من الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، فأين هذا من تلاوة أهل الدنيا وذكرهم؟ وأما سائر العبادات: فما كان منها فيه مشقة على الأبدان فإن أهل الجنة قد أسقط ذلك عنهم; وكذلك ما فيه نوع ذل وخضوع كالسجود ونحوه . ابن عيينة
[ ص: 60 ] وأما ما في العبادات من النعيم الحاصل بها لأهل المعرفة في الدنيا، فإنه يحصل في الجنة أضعافا مع راحة البدن من مشقة التكليف التي في الدنيا فتجتمع لهم راحة القلب والبدن على أكمل الوجوه .
وهذا مثل الصلاة، فإن العارفين في الدنيا إنما يتنعمون بما فيها من المناجاة وآثار القرب، وما يرد عليهم من الواردات في تلاوة الكتاب ونحو ذلك من نعيم القلوب، وربما يستغرقون به عن الشعور بتعب الأبدان فهذا القدر الذي حصل لهم به التنعم في الدنيا يتزايد في الجنة بلا ريب، لاسيما في أوقات الصلوات، فإن أكملهم من ينظر إلى وجه الله عز وجل كل يوم مرتين، بكرة وعشية، في وقت صلاة الصبح وصلاة العصر، لما جاء في حديث مرفوعا وموقوفا، وإلى ذلك أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمحافظة على هاتين الصلاتين عقيب ذكره رؤية الرب سبحانه في حديث ابن عمر . جرير البجلي
فالنعيم الحاصل لأهل الجنة بالرؤية والمخاطبة في هذين الوقتين أكمل مما كان حاصلا في الدنيا، وكذلك صلاة الجمعة: فإنهم يجتمعون في وقتها في يوم المزيد ويتجلى لهم سبحانه ويحاضرهم محاضرة، وكذلك في العيدين .
فهذا أكمل مما كان يحصل لهم في الدنيا في صلاتهم من آثار القرب وحلاوة مع راحة البدن ونعيمه أيضا . فتبين بهذا أن نعيم الجنة أكمل من نعيم [ ص: 61 ] الدنيا مطلقا، وسواء في ذلك نعيم الأبدان بالأكل والشرب والجماع، ونعيم القلوب والأرواح بالمعارف والعلوم والقرب والاتصال والأنس والمشاهدة، فظهر بهذا أن قوله تعالى: من جاء بالحسنة فله خير منها هو على ظاهره من غير حاجة إلى تأويل ولا تكلف فإن كثيرا من المفسرين فسروا الحسنة بكلمة التوحيد والجزاء عليهم بالجنة، ثم استشكلوا تفضيل الجنة على التوحيد، وبما ذكرناه يزول الإشكال .
ويتبين; أن وهو جزاء له، وكذلك المعرفة والمحبة والشوق أيضا، فقد جاء في بعض أحاديث يوم المزيد: أنهم ليسوا إلى شيء أشوق منهم إلى يوم الجمعة، وسبب بهذا الغلط الذي أشرنا إليه من قول من قال: إن العارفين لا يشتاقون إلى الله عز وجل في الدنيا لأنهم يشهدونه بقلوبهم حاضرا، وتباشر قلوبهم أنواره ويتجلى لها فيستأنسون به ويطمئنون إليه . وهذا وإن كان نقل عن بعض السلف المتقدمين فهو أيضا غلط، ولعله صدر من قائله في حال استغراقه في مشاهدة ما شاهده فظن أنه ليس وراء ذلك مطلب، وهذا كما قال بعضهم: "إنه تمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه، إنهم لفي عيش طيب " . التوحيد الذي في الجنة أكمل من التوحيد الذي في الدنيا
ومعلوم أن ولكنه لما استعظم ما حصل له من النعيم ظن أنه ليس وراءه شيء، وعند التحقيق يتبين أن ما حصل في الدنيا للقلوب من تجلي أنوار الإيمان يدل على عظمة ما يحصل في الجنة، وليس بينهما نسبة فيتزايد بذلك الشوق إلى ما وراءه، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل ربه الشوق إلى لقائه، مع أنه أكمل الخلق مشاهدة ومعرفة، وكان يقول في الوصال: أهل الجنة في أضعاف أضعاف ما هو فيه من النعيم واللذة . ويشير إلى ما تجلى لقلبه من آثار القرب والأنس بما يقويه ويغذيه ويغنيه عن الطعام والشراب . "إني لست كهيئتكم، إني أظل عند ربي [ ص: 62 ] يطعمني ويسقيني " .
* * *
وإنما وكذلك الحج والطواف . وأفضل أهل العبادات: أكثرهم لله ذكرا فيها، فهذا كله ليس من الدنيا المذمومة، وهو المقصود من إيجاد الدنيا، وأهلها، كما قال تعالى: شرع الله إقام الصلاة لذكره، وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
وقد ظن طوائف من الفقهاء والصوفية أن ما يوجد في الدنيا من هذه العبادات أفضل مما يوجد في الجنة من النعيم، قالوا: لأن نعيم الجنة حظ العبد، والعبادات في الدنيا حق الرب، وحق الرب أفضل من حظ العبد .
وهذا غلط، ويقوي غلطهم قول كثير من المفسرين في قوله تعالى: من جاء بالحسنة فله خير منها قالوا: الحسنة: لا إله إلا الله، وليس شيء خيرا منها . ولكن الكلام على التقديم والتأخير . والمراد: فله منها خير، أي: له خير بسببها ولأجلها .
والصواب: إطلاق ما جاءت به نصوص الكتاب والسنة، أن الآخرة خير من الأولى مطلقا .
وفي "صحيح " الحاكم عن المستورد بن شداد، قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتذاكروا الدنيا والآخرة، فقال بعضهم: إنما الدنيا بلاغ للآخرة، وفيها [ ص: 63 ] العمل، وفيها الصلاة، وفيها الزكاة . وقالت طائفة منهم: الآخرة فيها الجنة، وقالوا ما شاء الله . فقال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يمشي أحدكم إلى اليم، فأدخل أصبعه فيه، فما خرج منه فهو الدنيا" . فهذا نص بتفضيل الآخرة على الدنيا، وما فيها من الأعمال .
ووجه ذلك: أن كمال الدنيا إنما هو في العلم والعمل، والعلم مقصود الأعمال، يتضاعف في الآخرة بما لا نسبة لما في الدنيا إليه، فإن العلم أصله العلم بالله وأسمائه وصفاته، وفي الآخرة ينكشف الغطاء، ويصير الخبر عيانا، ويصير علم اليقين عين اليقين، وتصير المعرفة بالله رؤية له ومشاهدة، فأين هذا مما في الدنيا؟
وأما الأعمال البدنية، فإن لها في الدنيا مقصدين: أحدهما: اشتغال الجوارح بالطاعة، وكدها بالعبادة .
والثاني: اتصال القلوب بالله وتنويرها بذكره .
فالأول; قد رفع عن أهل الجنة، ولهذا روي أنهم إذا هموا بالسجود لله عند تجليه لهم يقال لهم: ارفعوا رؤوسكم فإنكم لستم في دار مجاهدة .
وأما المقصود الثاني; فحاصل لأهل الجنة على أكمل الوجوه وأتمها، ولا نسبة لما حصل لقلوبهم في الدنيا من لطائف القرب والأنس والاتصال إلى ما يشاهدونه في الآخرة عيانا، فتتنعم قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم بقرب الله . ورؤيته، وسماع كلامه، لا سيما في أوقات الصلوات في الدنيا، كالجمع والأعياد، والمقربون منهم يحصل ذلك لهم كل يوم مرتين بكرة وعشيا في وقت صلاة الصبح وصلاة العصر .
[ ص: 64 ] ولهذا، لما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أهل الجنة يرون ربهم، حض عقيب ذلك على لأن وقت هاتين الصلاتين وقت لرؤية خواص أهل الجنة ربهم وزيارتهم له، وكذلك نعيم الذكر وتلاوة القرآن لا ينقطع عنهم أبدا، فيلهمون التسبيح كما يلهمون النفس . قال المحافظة على صلاة العصر وصلاة الفجر; : لا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا . فأين لذة الذكر للعارفين في الدنيا من لذتهم به في الجنة؟! . ابن عيينة
فتبين بهذا أن قوله تعالى: من جاء بالحسنة فله خير منها على ظاهره، فإن ثواب كلمة التوحيد في الدنيا أن يصل صاحبها إلى قولها في الجنة على الوجه الذي يختص به أهل الجنة .
وبكل حال، فالذي يحصل لأهل الجنة من تفاصيل العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن قربه ومشاهدته ولذة ذكره هو أمر لا يمكن التعبير عن كنهه في الدنيا، لأن أهلها لم يدركوه على وجهه، بل هو مما لا عين رأت . ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، والله تعالى المسؤول أن لا يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا، بمنه وكرمه ورحمته، آمين .