[ ص: 68 ] سورة الروم
قوله تعالى: وله المثل الأعلى في السماوات والأرض
قالت بعض العارفات من السلف: من عمل لله على المشاهدة، فهو عارف، ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهو مخلص . فأشارت إلى المقامين اللذين تقدم ذكرهما:
أحدهما: مقام الإخلاص، وهو: أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه، واطلاعه عليه، وقربه منه، فإذا استحضر العبد هذا في عمله، وعمل عليه، فهو مخلص لله، لأن استحضاره ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله وإرادته بالعمل .
والثاني: مقام المشاهدة، وهو: أن يعمل العبد على مقتضى مشاهدته لله تعالى بقلبه، وهو أن يتنور القلب بالإيمان، وتنفذ البصيرة في العرفان، حتى يصير الغيب كالعيان .
وهذا هو حقيقة مقام الإحسان المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام، ويتفاوت أهل هذا المقام فيه بحسب قوة نفوذ البصائر .
وقد فسر طائفة من العلماء المثل الأعلى المذكور في قوله عز وجل: وله المثل الأعلى في السماوات والأرض بهذا المعنى، ومثله قوله تعالى: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح والمراد: [ ص: 69 ] مثل نوره في قلب المؤمن، كذا قاله وغيره من السلف . أبي بن كعب
وقد سبق حديث: وحديث "أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث كنت "، ما تزكية المرء نفسه؟ قال: "أن يعلم أن الله معه حيث كان " .
وخرج من حديث الطبراني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أبي أمامة وذكر الحديث . "ثلاثة في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله: رجل حيث توجه علم أن الله معه "،
وقد دل القرآن على هذا المعنى في مواضع متعددة، كقوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان وقوله تعالى: وهو معكم أين ما كنتم وقوله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا وقوله: وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وقوله: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وقوله: ولا يستخفون من الله وهو معهم
* * *
وبهذا فسر المثل الأعلى المذكور في قوله تعالى: وله المثل الأعلى في السماوات والأرض
ومثله قوله تعالى: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم
قال وغيره من السلف: مثل نوره في قلب المؤمن . أبي بن كعب
فمن وصل إلى هذا المقام فقد وصل إلى نهاية الإحسان، وصار الإيمان لقلبه بمنزلة العيان، فعرف ربه، به في خلوته، وتنعم بذكره ومناجاته ودعائه، حتى ربما استوحش من خلقه . وأنس
كما قال بعضهم: عجبت للخليقة، كيف أنست بسواك؟! بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك؟! .
وقيل لآخر: أما تستوحش؟ قال: كيف أستوحش، وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟! .
وقيل لآخر: أما تستوحش وحدك ؟ قال: ويستوحش مع الله أحد؟!
وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته، ويقول: من لم تقر عينه بك فلا قرت عينه، ومن لم يأنس بك فلا أنس .
وقال : طوبى لمن استوحش من الناس وكان الله جليسه . " الفضيل
وقال لرجل: توكل على الله، حتى يكون جليسك وأنيسك وموضع شكواك . معروف
[ ص: 71 ] وقال علامة المحبين لله: أن لا يأنسوا بسواه، ولا يستوحشوا معه، ثم قال: إذا سكن القلب حب الله أنس بالله; لأن الله أجل في صدور العارفين أن يحبوا غيره . ذو النون:
* * *
ثبت في "الصحيحين " و"السنن " و"المسانيد" من غير وجه جبريل - عليه السلام - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإحسان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " . "الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك أن
وقال بعض العارفين من السلف: "من عمل لله على المشاهدة فهو عارف . ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهو مخلص" . فهذان مقامان: أحدهما: الإخلاص، وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه، واطلاعه عليه وقربه منه، فإذا استحضر العبد ذلك في عمله، وعمل على هذا المقام فهو مخلص لله، لأن استحضاره ذلك يمنعه من الالتفات إلى غير الله وإرادته بالعمل .
والثاني: المعرفة التي تستلزم المحبة الخاصة، وهو: أن يعمل العبد على مشاهدة الله بقلبه، وهو أن يتنور قلبه بنور الإيمان وتنفذ بصيرته في العرفان، حتى يصير الغيب عنده كالعيان، وهذا هو مقام الإحسان المشار إليه في حديث جبريل - عليه السلام -، ويتفاوت أهل هذا المقام فيه بحسب قوة نفوذ البصائر .
وقد فسر طائفة من العلماء المثل الأعلى المذكور في قوله تعالى: وله المثل الأعلى في السماوات والأرض بهذا ، ومثله قوله تعالى: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح الآية، وقد فسرها وغيره من السلف بأن المراد: مثل نور الله في قلب المؤمن . أبي بن كعب
ومن هذا حديث حارثة المشهور لما قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: وهذا الحديث مروي مرسلا، وروي مسندا متصلا لكن من وجوه ضعيفة . "وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا; وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتعاوون فيها" فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عرفت فالزم، عبد نور الله الإيمان في قلبه " .
وخطب إلى عروة ابنته وهما في الطواف فلم يجبه بشيء، ثم رآه بعد ذلك فاعتذر إليه وقال: "كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا" . خرجه ابن عمر وغيره . أبو نعيم
ويتولد من هذين المقامين للعارفين مقام الحياء من الله - عز وجل -، وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك في حديث عن أبيه عن جده أنه سئل عن كشف العورة خاليا؟ فقال: "الله أحق أن يستحيا منه " بهز بن حكيم وقد ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بذلك في غير حديث، كما دل عليه قوله تعالى: دوام استحضار معية الله وقربه وإلى الحياء منه وهو معكم أين ما كنتم الآية، وقوله تعالى: وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وخرج من حديث البزار عبد الله [ ص: 73 ] بن معاوية الغاضري أن رجلا قال: يا رسول الله، ما تزكية المرء نفسه؟ قال: "أن يعلم أن الله حيث كان معه " .
وخرج من حديث الطبراني - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: عبادة بن الصامت "أفضل الإيمان: أن تعلم أن الله معك حيث كنت"، وبإسناد فيه نظر من حديث - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أبي أمامة إلخ . "ثلاثة في ظل الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله: رجل حيث توجه علم أن الله معه "
ومن حديث سعيد بن يزيد الأزدي أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أوصني، قال: "أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي رجلا صالحا من صالحي قومك "، ورويناه بإسناد فيه ضعف من حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أبي أمامة "استح من الله استحياؤك من رجلين من صالحي عشيرتك هما معك لا يفارقانك " .