[ ص: 96 ] قوله تعالى: وما أنت بمسمع من في القبور
أما ففي "الصحيحين " عن سماع الموتى لكلام الأحياء: ، عن أنس أبي طلحة ، قال: بدر وظهر عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر ببضعة وعشرين رجلا، وفي رواية أربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فألقوا في طوى من أطواء بدر، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناداهم قال: "يا أبا جهل بن هشام ، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة ، أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا" فقال : يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها، فقال: "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " . عمر لما كان يوم
وفي "صحيح " من حديث مسلم نحوه من غير ذكر أنس أبي طلحة ، وفي حديثه قال: "والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا" .
وفيه - أيضا - عن ، عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه القصة بمعناها . عمر بن الخطاب
وفي "الصحيحين " عن - رضي الله عنهما -، قال: ابن عمر
قال: "ما أنتم بأسمع منهم، ولكنهم لا يجيبون " وفي رواية قال: "إنهم الآن يسمعون ما أقول " . اطلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل القليب، فقال: "وجدتم ما وعدكم حقا؟ " فقيل له: أتدعو أمواتا؟
وقد أنكرت - رضي الله عنها - ذلك، كما في "الصحيحين " عن عائشة ، عروة - رضي الله عنها -، أنها قالت: ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنهم ليسمعون الآن ما أقول "، وقد وهم - يعني عائشة - إنما قال: "إنهم ليعلمون الآن ما كنت أقول لهم إنه حق " ثم قرأت قوله: ابن عمر إنك لا تسمع الموتى وما أنت بمسمع من في القبور عن [ ص: 97 ]
وقد وافق على نفي سماع الموتى كلام الأحياء طائفة من العلماء، ورجحه عائشة من أصحابنا، في كتاب "الجامع الكبير" له، واحتجوا بما احتجت به القاضي أبو يعلى - رضي الله عنها -، وأجابوا عن حديث عائشة قليب بدر بما أجابت به - رضي الله عنها - وبأنه يجوز أن يكون ذلك معجزة مختصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيره، وهو سماع الموتى لكلامه . عائشة
وفي "صحيح " عن البخاري قال: أحياهم الله تعالى - يعني أهل القليب - حتى أسمعهم قوله، توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما . قتادة
وذهب طوائف من أهل العلم إلى سماع الموتى في الجملة، قال : ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم - وهم الأكثرون - وهو اختيار ابن عبد البر وغيره، ويعني الطبري ، وكذلك ذكره بالطبري: ابن جرير ابن قتيبة وغيره من العلماء، وهؤلاء يحتجون بحديث القليب، كما سبق، وليس هو بوهم ممن رواه، فإن عمر وأبا طلحة وغيرهما ممن شهد القصة حكاه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . لم تشهد ذلك، وروايتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: وعائشة يؤيد رواية من روى: "إنهم ليسمعون "، ولا ينافيه، فإن الميت إذا جاز أن يعلم جاز أن يسمع، لأن الموت ينافي العلم، كما ينافي [ ص: 98 ] السمع والبصر، فلو كان مانعا من البعض لكان مانعا من الجميع . "إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقول لهم حق"
وروى بإسناده عن أبو الشيخ الأصبهاني عبيد بن مرزوق، قال: كانت امرأة بالمدينة يقال لها: أم محجن، تقم المسجد، فماتت، فلم يعلم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فمر على قبرها، فقال: "ما هذا القبر؟ " فقالوا: قبر أم محجن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "التي كانت تقم المسجد؟ " قالوا: نعم، فصف الناس وصلى عليها، ثم قال: "أي العمل وجدت أفضل؟ " قالوا: يا رسول الله أتسمع؟ قال: "ما أنتم بأسمع منها"، فذكر أنها أجابته، قم المسجد، وهذا مرسل .
وأما أن ذلك خاص بكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس كذلك، وقد ثبت في الصحيحين عن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أنس وقد سبق ذكره، وسنذكر الأحاديث الواردة بسماع الموتى سلام من يسلم عليهم فيما بعد إن شاء الله تعالى . "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم "،
وأما قوله تعالى: إنك لا تسمع الموتى وقوله: وما أنت بمسمع من في القبور فإن السماع يطلق ويراد به إدراك الكلام وفهمه، ويراد به أيضا الانتفاع به، والاستجابة له، والمراد بهذه الآية: نفي الثاني دون الأول، فإنها في سياق خطاب الكفار الذين لا يستجيبون للهدى ولا للإيمان إذا دعوا إليه، كما قال الله تعالى: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها الآية في نفي السماع والإبصار عنهم، لأن الشيء قد ينفى لانتفاء فائدته وثمرته، فإذا لم ينتفع المرء بما سمعه وأبصره، فكأنه لم [ ص: 99 ] يسمع ولم يبصر، وسماع الموتى هو بهذه المثابة، وكذلك سماع الكفار لمن دعاهم إلى الإيمان والهدى .
وقول في أهل القليب: أحياهم الله تعالى حتى أسمعهم، قوله يدل على أن الميت لا يسمع القول إلا بعد إعادة الروح إلى جسده، كذلك قال طوائف من السلف كثيرة أنه لا يسأل في قبره إلا بعد إعادة الروح إلى جسده، كما جاء ذلك مصرحا به في حديث قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الطويل، وقد سبق ذكر بعضه، وفيه في حق الكافر: البراء بن عازب "وتعاد روحه إلى جسده" .
وفي "مسند " من حديث الإمام أحمد عن الأعمش ، عن المنهال ، عن زاذان ، في حق المؤمن والكافر في كل منهما، قال: البراء "وتعاد روحه إلى جسده" .
وكذلك عند ، إعادتها إلى جسده عند ضرب الملك له، بعد أن يضربه فيصير ترابا، من رواية ابن منده يونس بن خباب ، عن ، وقد سبق ذلك كله . المنهال
وخرج وغيره، من حديث ابن ماجه - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة قبض الروح والمسألة، وقال في روح الكافر: "فتصير إلى القبر" وقد سبق أيضا . أبي هريرة
وخرج بإسناد ضعيف جدا - عن ابن منده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في [ ص: 100 ] صفة قبض الروح، وفيه قال: ابن عباس "فيهبطون بها - يعني الروح - على قدر فراغهم من غسله وأكفانه، فيدخلون ذلك الروح بين جسده وأكفانه " وهذا لا يثبت .
وخرج في كتاب "شرح السنة" من طريق الخلال أبي هاشم، عن أبي إسحاق ، عن ، عن أبي الأحوص ، قال: إن المؤمن إذا نزل به الموت أتاه ملك الموت يناديه: يا روح طيبة اخرجي من الجسد الطيب، قال: فإذا خرجت روحه لفت في خرقة حمراء، فإذا غسل وكفن، وحمل على السرير وارتفعت الروح فوق السرير حيث تحول السرير، تحولت حتى يوضع في قبره، فإذا وضع في قبره أجلس، وجيء بالروح، فجعلت فيه، فقيل له: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - فيقال له: صدقت، فيوسع له في قبره مد البصر، ثم ترفع روحه، فتجعل في أعلى عليين، ثم تلا عبد الله هذه الآية: عبد الله إن كتاب الأبرار لفي عليين
وخرج ، من طريق ابن أبي الدنيا ، قال: قال سالم بن أبي الجعد : الروح بيد ملك، وإن الجسد ليغسل، وإن الملك ليمشي معه إلى القبر، فإذا سوي عليه سلك فيه، فذلك حين يخاطب . حذيفة
ومن طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن . قال: الروح بيد ملك يمشي مع الجنازة، يقول: اسمع ما يقال لك، فإذا بلغ حفرته دفن معه . عبد الرحمن بن أبي ليلى
ومن طريق داود العطار، عن أبي نجيح، قال: ما من ميت يموت إلا روحه في يد ملك ينظر إلى جسده، كيف يغسل ويكفن، وكيف يمشى به إلى قبره، ثم تعاد إليه روحه، فيجلس في قبره .
[ ص: 101 ] وكذا قال وغيره من السلف في قوله تعالى: أبو صالح كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون فدل على أن الحياة الأولى هي القبر للسؤال، وإن كان الأكثرون خالفوا في ذلك .
فهؤلاء السلف كلهم صرحوا بأن وصرح بمثل ذلك طوائف من الفقهاء والمتكلمين من أصحابنا وغيرهم، كالقاضي الروح تعاد إلى البدن عند السؤال، أبي يعلى وأصحابه، وأنكر ذلك طائفة منهم ابن حزم وغيره، وذكر أن السؤال للروح خاصة، وكذلك سماع الخطاب، وأنكر أن تعاد الروح إلى الجسد في القبر للعذاب وغيره، وقالوا: لو كان ذلك حقا للزم أن يموت الإنسان ثلاث مرات ويحيا ثلاث مرات، والقرآن دل على أنهما موتتان وحياتان فقط، وهذا ضعيف جدا، فإن حياة البرزخ ليست حياة تامة مستقلة كحياة الدنيا وكالحياة الآخرة بعد البعث، وإنما فيها نوع اتصال الروح في البدن بحيث يحصل بذلك شعور البدن وإحساس بالنعيم والعذاب وغيرهما، وليست هي حياة تامة حتى يكون انفصال الروح به موتا تاما، وإنما هو شبيه بانفصال روح النائم عنه، ورجوعها إليه، فإن ذلك يسمى موتا وحياة .
كما وسماه الله تعالى وفاة، لقوله تعالى: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا استيقظ من منامه: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور"، الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى مع هذا فلا ينافي ذلك أن يكون النائم حيا، وكذلك اتصال روح الميت ببدنه وانفصالها عنه لا يوجب أن يصير للميت [ ص: 102 ] حياة مطلقة .
وممن رجح هذا القول - أعني السؤال والنعيم والعذاب للروح خاصة - من أصحابنا ابن عقيل وأبو الفرج ابن الجوزي في بعض تصانيفهما، واستدل ابن عقيل بأن أرواح المؤمنين تنعم في حواصل طير خضر، وأرواح الكافرين تعذب في حواصل طير سود، وهذه الأجساد تبلى فدل ذلك على أن الأرواح تعذب وتنعم في أجساد أخر، وهذا لا حجة فيه لأنه لا ينافي اتصال الروح ببدنها أحيانا مع بقائه واستحالته .
واستدل طائفة ممن ذهب إلى هذا القول بما روى منصور بن عبد الرحمن ، عن قال: دخل أبي أمامة المسجد، ابن عمر قد قتل وصلب، فقيل له: هذه وابن الزبير في المسجد، فقال لها: اصبري فإن هذه الجثث ليست بشيء، وإنما الأرواح عند الله، فقالت: وما يمنعني من الصبر، وقد أهدي رأس أسماء بنت أبي بكر يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل .
وروى ، من طريق ابن أبي الدنيا - صاحب السقيا - قال: نزل ابن عمر إلى جانب قبور قد درست، فنظر إلى قبر منها، فإذا بجمجمة بادية، فأمر رجلا فواراها، ثم قال: إن هذه الأبدان ليست يضرها هذا الثرى شيئا، وإنما الأرواح التي تعاقب وتثاب إلى يوم القيامة . ابن عمر
وروى ، عن محمد بن سعد ، حدثني الواقدي ، عن ثور بن يزيد قال: لما انهزمت الروم يوم أجنادين، انتهوا إلى موضع لا يعبره إلا إنسان، فجعلت الروم تقاتل عليه، فتقدم خالد بن معدان هشام بن العاص فقاتلهم حتى قتل، ووقع على تلك الثلمة فسدها، فلما انتهى المسلمون إليها، هابوا أن [ ص: 103 ] يوطئه الخيل، فقال : إن الله قد استشهده ورفع روحه وإنما هو جثة فأوطئوه الخيل، ثم أوطأه وتبعه الناس حتى قطعوه . عمرو بن العاص
وهذه الآثار لا تدل على أن وإنما تدل على أن الأجساد لا تتضرر بما ينالها من عذاب الناس لها ومن أكل التراب لها، وهذا حق، فإن عذاب القبر ليس من جنس عذاب الدنيا، وإنما هو نوع آخر يصل إلى الميت بمشيئة الله وقدرته . الأرواح لا تتصل بالأبدان بعد الموت،
وقولهم: إن الأرواح عند الله تعالى تعاقب وتثاب لا ينافي أن تتصل بالبدن أحيانا، فيحصل بذلك إلى الجسد نعيم أو عذاب، وقد تستقل الروح أحيانا بالنعيم والعذاب، إما عند استحالة الجسد أو قبل ذلك .
وقد أثبت طائفة أخرى النعيم والعذاب للجسد بمجرده، من غير اتصال الروح به، وممن ذكر ذلك من أصحابنا: ابن عقيل في كتاب "الإرشاد" له وابن الزاغوني، وحكي عن - أيضا - وذكر ابن جرير الطبري أنه ظاهر كلام القاضي أبو يعلى ، فإنه قال في رواية الإمام أحمد : أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكفار في النار، والأبدان في الدنيا يعذب الله من يشاء، ويرحم من يشاء منها بعفوه . حنبل
قال القاضي: ظاهر هذا أن الأرواح تعذب وتنعم على الانفراد وكذلك الأبدان إذا كانت باقية أدى إلى الأجزاء التي استحالت، قال: فلا يمتنع أن يخلق في الأبدان إدراك تحس به النعيم والعذاب، كما خلق في الجبل لما تجلى له ربه ثم جعله دكا .
وقال ابنه القاضي أبو الحسين : ولأنه لما لم يستحل نطق الذراع المسمومة، [ ص: 104 ] لم يستحل عذاب الجسد البالي وإيصال العذاب إليه بقدرة الله عز وجل .
وقد يستدل لهذا أيضا بأن قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم كلم أهل القليب: كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ فلم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وإنما قال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " عمر بن الخطاب فدل على أن سماعهم حصل مع أجسامهم والأرواح فيها .
وقد دل القرآن على سجود الجمادات وعلى تسبيحها لله عز وجل . وخشوعها له، فدل على أن فيها حياة وإدراكا، فلا يمتنع مثل ذلك في جسد ابن آدم بعد مفارقة الروح له، والله أعلم .
ويدل على ذلك: ما أخبر الله عن شهادات الجلود والأعضاء يوم القيامة وما روي عن في ابن عباس فيدل على أن الجسد يخاصم الروح ويكلمها وتكلمه، ومما يدل على وقوع العذاب على الأجساد، الأحاديث الكثيرة في تضييق القبر على الميت، حتى تختلف أضلاعه، ولأنه لو كان العذاب على الروح خاصة لم يختص العذاب بالقبر ولم ينسب إليه . اختصام الروح والجسد يوم القيامة،