الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              [ ص: 260 ] سورة الأحقاف

                                                                                                                                                                                              قوله تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (13) أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون

                                                                                                                                                                                              قول سفيان بن عبد الله للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك " طلب منه أن يعلمه كلاما جامعا لأمر الإسلام كافيا حتى لا يحتاج بعده إلى غيره، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قل: آمنت بالله، ثم استقم " وفي الرواية الأخرى: " قل: ربي الله، ثم استقم " .

                                                                                                                                                                                              هذا منتزع من قوله عز وجل: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنـزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون

                                                                                                                                                                                              وقوله عز وجل: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون وخرج النسائي في "تفسيره " من رواية سهيل بن أبي حزم: حدثنا ثابت عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فقال: "قد قالها الناس، ثم كفروا، فمن مات عليها فهو من أهل الاستقامة" . [ ص: 261 ] وخرجه الترمذي ، ولفظه: فقال: "قد قالها الناس، ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها، فهو ممن استقام "، وقال: حسن غريب، و" سهيل " تكلم فيه من قبل حفظه .

                                                                                                                                                                                              وقال أبو بكر الصديق في تفسير ثم استقاموا قال: لم يشركوا بالله شيئا . وعنه قال: لم يلتفتوا إلى إله غيره . وعنه قال: ثم استقاموا على أن الله ربهم . وعن ابن عباس بإسناد ضعيف قال: هذه أرخص آية في كتاب الله: قالوا ربنا الله ثم استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله .

                                                                                                                                                                                              وروي نحوه عن أنس ومجاهد والأسود بن هلال، وزيد بن أسلم . والسدي وعكرمة وغيرهم . وروي عن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية على المنبر إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فقال: لم يروغوا روغان الثعالب .

                                                                                                                                                                                              وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: ثم استقاموا قال: استقاموا على أداء فرائضه .

                                                                                                                                                                                              وعن أبي العالية ، قال: ثم أخلصوا له الدين والعمل .

                                                                                                                                                                                              وعن قتادة قال: استقاموا على طاعة الله، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة .

                                                                                                                                                                                              ولعل من قال: "إن المراد الاستقامة على التوحيد" إنما أراد التوحيد الكامل الذي يحرم صاحبه على النار، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي يطاع، فلا يعصى خشية وإجلالا ومهابة ومحبة ورجاء وتوكلا ودعاء، والمعاصي كلها قادحة في هذا التوحيد، لأنها إجابة لداعي الهوى [ ص: 262 ] وهو الشيطان، قال الله عز وجل: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه قال الحسن وغيره: هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه . فهذا ينافي الاستقامة على التوحيد .

                                                                                                                                                                                              وأما على رواية من روى: "قل آمنت بالله " . فالمعنى أظهر، لأن الإيمان يدخل فيه الأعمال عند السلف ومن تابعهم من أهل الحديث . وقال الله عز وجل: فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير فأمره أن يستقيم هو ومن تابعه، وأن لا يجاوزوا ما أمروا به . وهو الطغيان، وأخبر أنه بصير بأعمالهم، مطلع عليها، قال تعالى: فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقال قتادة : أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يستقيم على أمر الله . وقال الثوري : على القرآن . وعن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية شمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما رئي ضاحكا . خرجه ابن أبي حاتم . وذكر القشيري وغيره عن بعضهم: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال له: يا رسول الله قلت: "شيبتني هود وأخواتها"، فما شيبك منها؟ قال: " قوله: فاستقم كما أمرت " .

                                                                                                                                                                                              وقال عز وجل: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وقد أمر الله تعالى بإقامة الدين عموما كما قال: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه وأمر بإقام الصلاة في غير موضع من كتابه، كما أمر بالاستقامة على التوحيد في تلك الآيتين .

                                                                                                                                                                                              والاستقامة: هي سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القيم من غير تعريج عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها، الظاهرة والباطنة . وترك المنهيات كلها كذلك، فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الدين كلها . وفي قوله عز وجل: فاستقيموا إليه واستغفروه إشارة إلى أنه لا بد من تقصير في الاستقامة المأمور بها، فيجبر ذلك الاستغفار المقتضي للتوبة والرجوع إلى الاستقامة، فهو كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ : "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها" . وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الناس لن يطيقوا الاستقامة حق الاستقامة، كما خرجه الإمام أحمد وابن ماجه من حديث ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن " . وفي رواية للإمام أحمد : "سددوا وقاربوا، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن " .

                                                                                                                                                                                              وفي "الصحيحين " عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سددوا وقاربوا" .

                                                                                                                                                                                              فالسداد: هو حقيقة الاستقامة، وهو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد كالذي يرمي إلى غرض فيصيبه . وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا أن يسأل الله عز وجل السداد والهدى، وقال له: "اذكر بالسداد تسديدك السهم، وبالهدى هدايتك الطريق " . [ ص: 264 ] والمقاربة: أن يصيب ما قرب من الغرض إذا لم يصب الغرض نفسه . ولكن بشرط أن يكون مصمما على قصد السداد وإصابة الغرض، فتكون مقاربته عن غير عمد .

                                                                                                                                                                                              ويدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الحكم بن حزن الكلفي: "أيها الناس إنكم لن تعملوا - أو لن تطيقوا - كل ما أمرتكم، ولكن سددوا وأبشروا" . والمعنى: اقصدوا التسديد والإصابة والاستقامة، فإنهم لو سددوا في العمل كله، لكانوا قد فعلوا ما أمروا به كله .

                                                                                                                                                                                              فأصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد، كما فسر أبو بكر الصديق وغيره قوله: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا بأنهم لم يلتفتوا إلى غيره، فمتى استقام القلب على معرفة الله، وعلى خشيته، وإجلاله . ومهابته، ومحبته، وإرادته، ورجائه، ودعائه، والتوكل عليه، والإعراض عما سواه، استقامت الجوارح كلها على طاعته، فإن القلب هو ملك الأعضاء، وهي جنوده، فإذا استقام الملك، استقامت جنوده ورعاياه، وكذلك فسر قوله عز وجل: فأقم وجهك للدين حنيفا بإخلاص القصد لله وإرادته وحده لا شريك له .

                                                                                                                                                                                              وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح: اللسان، فإنه ترجمان القلب والمعبر عنه، ولهذا لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاستقامة، وصاه بعد ذلك بحفظ لسانه، وفي " مسند الإمام أحمد " عن أنس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه . ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه . [ ص: 265 ] وفي " الترمذي " عن أبي سعيد الخدري مرفوعا وموقوفا: "إذا أصبح ابن آدم، فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا" .

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية