[ ص: 401 ] قوله تعالى: يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم
[قال ] : حدثنا البخاري أنا أبو اليمان: شعيب، عن : أخبرني الزهري ، أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله - وكان شهد عبادة بن الصامت بدرا، وهو أحد النقباء ليلة العقبة -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: - وحوله عصابة من أصحابه -: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه " . فبايعناه على ذلك . أن
هذا الحديث; سمعه [ . . . ] ، عن أبو إدريس ، عن عقبة بن عامر وزيادة عبادة . "عقبة" في إسناده وهم .
وقد خرج الحديث في "ذكر بيعة العقبة" وفي "تفسير سورة الممتحنة" من كتابه هذا، وفيه: التصريح بأن البخاري أبا إدريس أخبره به [ ص: 402 ] وسمعه منه . عبادة،
وكان قد شهد عبادة بدرا، وهو أحد النقباء ليلة العقبة، حيث بايعت الأنصار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة . لكن; هل هذه البيعة المذكورة في هذا الحديث كانت ليلة العقبة، أم لا؟ هذا وقع فيه تردد . فرواه ، عن ابن إسحاق ، وذكر في روايته، أن هذه البيعة كانت ليلة العقبة . . الزهري
وروى - أيضا -، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب أبي الخير مرثد ابن عبد الله ، عن ، الصنابحي ، قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلا، فبايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفرض الحرب على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني - عبادة بن الصامت الحديث . عن
خرجه ، من رواية الإمام أحمد - هكذا . وكذا رواه ابن إسحاق ، عن الواقدي . وخرجاه في "الصحيحين "، من حديث يزيد بن أبي حبيب ، عن الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب أبي الخير، عن ، الصنابحي عن قال: إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بايعنا على أن لا نشرك بالله شيئا - عبادة، فذكر الحديث . [ ص: 403 ] وليس هذا بالصريح في أن هذه البيعة كانت ليلة العقبة .
ولفظ بهذه الرواية: مسلم ، قال: إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال: بايعناه على أن لا نشرك - عبادة بن الصامت الحديث . وهذا اللفظ; قد يشعر بأن هذه البيعة غير بيعة النقباء . عن
وخرجه ، من وجه آخر، من رواية مسلم أبي قلابة ، عن . أبي الأشعث عن قال: أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما أخذ على النساء: أن لا نشرك بالله شيئا . عبادة، وهذا قد يشعر بتقدم أخذه على النساء على أخذه عليهم .
وخرج حديث مسلم من رواية عبادة، عنه، وقال في حديثه: "فتلا علينا آية النساء: أبي إدريس أن لا يشركن بالله شيئا الآية " .
وخرجه في "تفسير سورة الممتحنة" من رواية البخاري ، عن ابن عيينة ، وقال فيه: وقرأ آية النساء، وأكثر لفظ الزهري : وقرأ الآية . ثم قال: تابعه سفيان ، عن عبد الرزاق - في الآية . معمر
وكذا خرجه الإمام أحمد ، وعندهما: فقرأ عليهم الآية . والترمذي
زاد : التي أخذت على النساء: الإمام أحمد إذا جاءك المؤمنات
وهذا تصريح بأن هذه البيعة كانت بالمدينة; لأن آية بيعة النساء مدنية . [ ص: 404 ] وروى هذا الحديث ، عن سفيان بن حسين ، وقال في حديثه: الزهري إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: "أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ " ثم تلا هذه الآية: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا حتى فرغ من الثلاث آيات .
خرجه في "مسنده " . الهيثم بن كليب وسفيان بن حسين ، ليس بقوي، خصوصا في حديث ، وقد خالف سائر الثقات من أصحابه في هذا . الزهري
وقد روى ، أنهم بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وأن لا ينازعوا الأمر أهله، وأن يقولوا بالحق . فهذه صفة أخرى، غير صفة البيعة المذكورة في الأحاديث المتقدمة . عبادة بن الصامت
وهذه البيعة الثانية مخرجة في "الصحيحين " من غير وجه عن عبادة .
وقد خرجها ، من رواية الإمام أحمد : حدثني ابن إسحاق عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ، عن جده - وكان أحد النقباء - قال: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة الحرب، وكان عبادة من الاثني عشر الذين بايعوا في العقبة الأولى على بيعة النساء على السمع والطاعة، في عسرنا ويسرنا - وذكر الحديث . وهذه الرواية، تدل على أن هذه البيعة هي بيعة الحرب، وأن بيعة النساء كانت في العقبة الأولى، قبل أن تفرض الحرب . [ ص: 405 ] فهذا قد يشعر بأن هذه البيعة كانت عبادة بالمدينة، بعد فرض الحرب، وفي هذا نظر
وقد خرجه في "مسنده "، من رواية الهيثم بن كليب ابن إدريس، عن ابن إسحاق ويحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر ، عن أن أباه حدثه، عن جده قال: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العقبة الآخرة على السمع والطاعة - فذكره . عبادة بن الوليد،
وخرجه من وجه آخر، عن ابن سعد - مرسلا . عبادة بن الوليد
وخرج من وجه آخر، عن الإمام أحمد أنهم بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه البيعة على السمع والطاعة - الحديث، وقال فيه -: عبادة، يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا . وهذا يدل على أن هذه البيعة كانت قبل الهجرة، وذلك ليلة العقبة . وعلى أن ننصر النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم علينا
وخرج - أيضا - هذا المعنى من حديث ، أن هذه البيعة كانت للسبعين، بشعب العقبة . وهي البيعة الثانية، وتكون سميت هذه البيعة الثانية: "بيعة الحرب "; لأن فيها البيعة على منع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك يقتضي القتال دونه، فهذا هو المراد بالحرب، وقد شهد عبادة البيعتين معا . جابر بن عبد الله
ويحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبايع أصحابه على بيعة النساء قبل نزول آية مبايعتهن، ثم نزلت الآية بموافقة ذلك . [ ص: 406 ] وفي "المسند"، ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم أم عطية المدينة جمع النساء، . فبايعهن على هذه الآية، إلى قوله: ولا يعصينك في معروف وهذا قبل نزول سورة الممتحنة; فإنها إنما نزلت قبل الفتح بيسير . والله أعلم بحقيقة ذلك كله . عن
وأما ما بايعهم عليه، فقد اتفقت روايات حديث من طرقه الثلاثة عنه، أنهم بايعوه على أن لا يشركوا بالله، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا . وفي بعض الروايات: لا يقتلوا أولادهم، كما في لفظ الآية . وفي بعضها: لا يقتلوا النفس التي حرم الله . وهذه رواية عبادة، ، عن الصنابحي ثم إن من الرواة من اقتصر على هذه الأربع، ولم يزد عليها . ومنهم من ذكر في رواية المبايعة على بقية ما ذكر في الآية، كما في رواية عبادة . المذكورة هاهنا . ومنهم من ذكر خصلة خامسة بعد الأربع، ولكن لم يذكرها باللفظ الذي في الآية . ثم اختلفوا في لفظها: فمنهم من قال: البخاري وهي رواية "ولا ننتهب " . عن الصنابحي المخرجة في "الصحيحين " . [ ص: 407 ] ومنهم من قال: عبادة "ولا يعضه بعضنا بعضا" .
وهي رواية ، عن أبي الأشعث خرجها عبادة . . مسلم
ومنهم من قال: "ولا يغتب بعضنا بعضا" . - وهي رواية . الإمام أحمد
وأما الخصلة السادسة، فمنهم من لم يذكرها بالكلية، وهي رواية التي خرجها أبي الأشعث . مسلم
ومنهم من ذكرها، وسماها: "المعصية"، فقال: "ولا نعصي "، كما في رواية . الصنابحي
وفي رواية : أبي إدريس "ولا تعصوا في معروف " .
فأما الشرك والسرقة والزنا والقتل، فواضح .
وتخصيص قتل الأولاد بالذكر في بعض الروايات، موافق لما ورد في القرآن في مواضع، وليس له مفهوم، وإنما خصص بالذكر للحاجة إليه، فإن ذلك كان معتادا بين أهل الجاهلية .
وأما الإتيان ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، على ما جاء في رواية ، فهذا يدل على أن هذا البهتان ليس مما تختص به النساء . وقد اختلف المفسرون في البهتان المذكور في آية بيعة النساء: [ ص: 408 ] فأكثرهم فسروه، بإلحاق المرأة بزوجها ولدا من غيره . البخاري
رواه علي بن أبي طلحة ، عن . ابن عباس
وقاله وغيره . مقاتل بن حيان
واختلفوا في معنى قوله: بين أيديهن وأرجلهن فقيل: لأن الولد إذا ولدته أمه سقط بين يديها ورجليها . وقيل: بل أراد بما تفتريه بين يديها، أن تأخذ لقيط فتلحقه بزوجها، وبما تفتريه بين رجليها، أن تلده من زنا، ثم تلحقه بزوجها .
ومن المفسرين من فسر البهتان المفترى بالسحر . ومنهم من فسره بالمشي بالنميمة، والسعي في الفساد .
ومنهم من فسره بالقذف والرمي بالباطل .
وقيل: البهتان المفترى يشمل ذلك كله، وما كان في معناه . ورجحه وغيره . ابن عطية
وهو الأظهر; فيدخل فيه كذب المرأة فيما ائتمنت عليه من حمل وحيض . وغير ذلك .
ومن هؤلاء من قال: أراد بما بين يديها حفظ لسانها وفمها ووجهها عما لا يحل لها، وبما بين رجليها حفظ فرجها، فيحرم عليها الافتراء ببهتان في ذلك كله .
ولو قيل: إن من الافتراء ببهتان بين يديها: خيانة الزوج في ماله الذي في بيتها، لم يبعد ذلك . [ ص: 409 ] وقد دل مبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجال على أن لا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم أن ذلك لا يختص بالنساء . وجميع ما فسر به البهتان في حق النساء يدخل فيه الرجال - أيضا - . فيدخل فيه استلحاق الرجل ولد غيره، سواء كان لاحقا غيره أو غير لاحق . كولد الزنا، ويدخل فيه الكذب والغيبة . وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: خرجه "إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " . . مسلم
وكذلك القذف، وقد سمى الله قذف بهتانا عظيما . عائشة
وكذلك النميمة من البهتان .
وفي رواية ، عن أبي الأشعث عبادة: "ولا يعضه بعضكم بعضا" . والعضيهة: النميمة .
وفي "صحيح "، عن مسلم - مرفوعا -: ابن مسعود "ألا أنبئكم ما العضه; هي النميمة القالة بين الناس " .
وروى إبراهيم الهجري، عن ، عن أبي الأحوص ، قال: كنا نسمي العضيهة السحر، وهو اليوم: قيل وقال . ابن مسعود
وفسر العضيهة في حديث إسحاق بن راهويه ، قال: لا يبهت بعضكم بعضا . [ ص: 410 ] نقله عنه عبادة بن الصامت . محمد بن نصر
وذكر أهل اللغة: أن العضيهة: الشتيمة، والعضيهة: البهتان، والعاضهة . والمستعضهة: الساحرة والمستسحرة .
وفي رواية : "ولا ننتهب "، والنهبة من البهتان; فإن المنتهب يبهت الناس بانتهابه منه ما يرفعون إليه أبصارهم فيه . وكل ما بهت صاحبه وحيره وأدهشه من قول أو فعل لم يكن في حسابه فهو بهتان، فأخذ المال بالنهبى أو بالدعاوى الكاذبة بهتان . وقد قال تعالى: الصنابحي وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا
وفي "المسند" والترمذي ، عن والنسائي صفوان بن عسال، أن اليهود سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التسع آيات البينات التي أوتيها موسى، فقال: "لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفروا من الزحف، وعليكم اليهود خاصة أن لا تعدوا في السبت " .
فلم يذكر في هذا الحديث البهتان المفترى بلفظه، ولكن ذكر مما فسر به البهتان المذكور في القرآن عدة خصال: السحر، والمشي ببريء إلى السلطان، وقذف المحصنات . وهذا يشعر بدخول ذلك كله في اسم البهتان . [ ص: 411 ] وكذلك الأحاديث التي ذكر فيها عد الكبائر، ذكر في بعضها: القذف . وفي بعضها: قول الزور، أو شهادة الزور، وفي بعضها: اليمين الغموس . والسحر، وهذا كله من البهتان المفترى .
وأما الخصلة السادسة، فهي المعصية، وتشمل جميع أنواع المعاصي، فهو من باب ذكر العام بعد الخاص . وهو قريب من معنى قوله تعالى: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون وقوله تعالى: ولا يعصينك في معروف وفي بعض ألفاظ حديث عبادة: وفي بعضها: "ولا تعصوا في معروف " . " . "ولا تعصوني في معروف
وقد خرجها في موضع آخر . وكل هذا إشارة إلى أن البخاري فلا يطاع مخلوق إلا في معروف، ولا يطاع في معصية الخالق . وقد استنبط هذا المعنى من هذه الآية طائفة من السلف . فلو كان لأحد من البشر أن يطاع بكل حال، لكان ذلك للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلما خصت طاعته بالمعروف، مع أنه لا يأمر إلا بما هو معروف، دل على أن الطاعة في الأصل لله وحده، والرسول مبلغ عنه، وواسطة بينه وبين عباده . ولهذا قال تعالى: الطاعة لا تكون إلا في معروف، من يطع الرسول فقد أطاع الله فدخل في هذه الخصلة السادسة: الانتهاء عن جميع المعاصي، ويدخل فيها - أيضا -: القيام بجميع الطاعات على رأي من يرى أن النهي عن شيء [ ص: 412 ] أمر بضده .
فلما تمت هذه البيعة على هذه الخصال; ذكر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم من وفى بها، وحكم من لم يف بها عند الله عز وجل . فأما من وفى بها، فأخبر أن أجره على الله، كذا في رواية أبي إدريس وأبي الأشعث عن عبادة .
وفي رواية ، عنه: الصنابحي " . وقد قال الله تعالى: "فالجنة إن فعلنا ذلك إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما
وفسر الأجر العظيم بالجنة -: كذا قاله وغيره من السلف . قتادة
ولا ريب أن وعلى ذلك وقعت هذه البيعة وإن اختصر ذلك بعض الرواة، فأسقط بعض هذه الخصال . وأما من لم يوف بها، بل نكث بعض ما التزم بالبيعة تركه لله عز وجل - والمراد: ما عدا الشرك من الكبائر - فقسمه إلى قسمين: أحدهما: أن يعاقب به في الدنيا، فأخبر أن ذلك كفارة له . وفي رواية: "فهو طهور له " . وفي رواية: "طهور له، أو كفارة" - بالشك . ورواه بعضهم: "طهور وكفارة" - بالجمع . وقد خرجها من اجتنب الشرك والكبائر والمعاصي كلها فله الجنة، في موضع آخر من "صحيحه " . وروى البخاري ، عن ابن إسحاق حديث الزهري ، عن أبي إدريس وقال [ ص: 413 ] فيه: عبادة، " . "فأقيم عليه الحد، فهو كفارة له
وفي رواية عن أبي الأشعث عبادة: خرجه "ومن أتى منكم حدا، فأقيم عليه فهو كفارة" . . وهذا صريح في أن مسلم وقد صرح بذلك إقامة الحدود كفارات لأهلها . . ونص على ذلك سفيان الثوري - في رواية أحمد عبدوس بن مالك العطار، عنه . وقال : لم أسمع في هذا الباب أن الحد كفارة أحسن من حديث الشافعي وإنما قال هذا; لأنه قد روي هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة، عن عبادة . علي، وجرير، وخزيمة بن ثابت ، وغيرهم . وفي أسانيدها كلها مقال، وحديث وعبد الله بن عمرو صحيح ثابت . عبادة
وقد روى ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن المقبري، عن ابن أبي ذئب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أبي هريرة "ما أدري الحدود طهارة لأهلها، أم لا؟ " وذكر كلاما آخر . خرجه ، وخرج الحاكم بعض الحديث . وقد رواه أبو داود هشام بن يوسف، عن ، عن معمر ، عن ابن أبي ذئب - مرسلا . [ ص: 414 ] قال الزهري في "تاريخه ": المرسل أصح . قال: ولا يثبت هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ثبت عنه أن الحدود كفارة . انتهى . البخاري
وقد خرجه من رواية البيهقي ، عن آدم بن أبي إياس ، عن ابن أبي ذئب عن المقبري، - مرفوعا - أيضا . أبي هريرة
وخرجه من وجه آخر، فيه ضعف، عن البزار عن المقبري، - مرفوعا - أيضا . وعلى تقدير صحته، فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك قبل أن يعلمه ثم علمه، فأخبر به جزما . فإن كان الأمر كذلك فحديث عبادة إذن لم يكن ليلة العقبة بلا تردد; لأن حديث أبي هريرة متأخر عن الهجرة، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم حينئذ أن الحدود كفارة، فلا يجوز أن يكون قد أخبر قبل الهجرة بخلاف ذلك . أبي هريرة
وقد اختلف العلماء: هل إقامة الحد بمجرده كفارة للذنب من غير توبة أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أن إقامة الحد كفارة للذنب بمجرده، وهو مروي عن وابنه علي بن أبي طالب وعن الحسن، مجاهد ، وهو قول وزيد بن أسلم الثوري والشافعي ، واختيار وأحمد وغيره من المفسرين . ابن جرير
والثاني: أنه ليس بكفارة بمجرده، فلا بد من توبة، هو مروي عن صفوان ابن سليم وغيره . [ ص: 415 ] ورجحه ابن حزم وطائفة من متأخري المفسرين، كالبغوي وأبي عبد الله ابن تيمية وغيرهما .
واستدلوا بقوله تعالى - في المحاربين -: ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا
وقد يجاب عن هذا، بأن ذكر عقوبة الدنيا والآخرة لا يلزم اجتماعهما . فقد دل الدليل على أن عقوبة الدنيا تسقط عقوبة الآخرة .
وأما استثناء الذين تابوا، فإنما استثناهم من عقوبة الدنيا خاصة، ولهذا خصهم بما قبل القدرة، وعقوبة الآخرة تندفع بالتوبة، قبل القدرة وبعدها . ويدل على أن الحد يطهر الذنب: قول ماعز للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني أصبت حدا، فطهرني . وكذلك قالت له الغامدية، ولم ينكر عليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك،
فدل على أن الحد طهارة لصاحبه . ويدخل في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: العقوبات القدرية، من الأمراض والأسقام . "من أصاب شيئا من ذلك، فعوقب به في الدنيا فهو كفارته "
والأحاديث في تكفير الذنوب بالمصائب كثيرة جدا .
وهذه المصائب يحصل بها للنفوس من الألم نظير الألم الحاصل بإقامة الحد وربما زاد على ذلك كثيرا . وقد يقال في دخول هذه العقوبات القدرية في لفظ حديث عبادة نظر . لأنه قابل من عوقب في الدنيا ستر الله عليه، وهذه المصائب لا تنافي الستر . والله أعلم
. [ ص: 416 ] والقسم الثاني:
أن لا يعاقب في الدنيا بذنبه، بل ستر عليه ذنبه، ويعافى من عقوبته . فهذا أمره إلى الله في الآخرة، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه . وهذا موافق لقول الله عز وجل: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وفي ذلك رد على الخوارج والمعتزلة في قولهم: إن الله يخلده في النار إذا لم يتب . . وهذا المستور في الدنيا له حالتان:
إحداهما: أن يموت غير تائب، فهذا في مشيئة الله، كما ذكرنا .
والثانية: أن يتوب من ذنبه .
فقال طائفة: إنه تحت المشيئة - أيضا . واستدلوا بالآية المذكورة، وحديث عبادة . والأكثرون على أن التائب من الذنب مغفور له، وأنه كمن لا ذنب له . كما قال تعالى: إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وقال: أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها
فيكون التائب حينئذ ممن شاء الله أن يغفر له . واستدل بعضهم - وهو: ابن حزم - بحديث عبادة هذا على أن من أذنب ذنبا، فإن الأفضل له أن يأتي الإمام، فيعترف عنده; ليقيم عليه الحد، حتى [ ص: 417 ] يكفر عنه، ولا يبقى تحت المشيئة في الخطر .
وهذا مبني على قوله: إن التائب في المشيئة .
والصحيح: أن التائب توبة نصوحا مغفور له جزما، لكن المؤمن يتهم توبته، ولا يجزم بصحتها، ولا بقبولها، فلا يزال خائفا من ذنبه وجلا . ثم إن هذا القائل لا يرى أن الحد بمجرده كفارة، وإنما الكفارة التوبة . فكيف لا يقتصر على الكفارة، بل يكشف ستر الله عليه; ليقام عليه ما لا يكفر عنه .
وجمهور العلماء على أن ولا يقر به عند أحد، بل يتوب منه فيما بينه وبين الله عز وجل . من تاب من ذنب، فالأفضل أن يستر على نفسه،
روي ذلك عن أبي بكر وعمر وغيرهم . وابن مسعود
ونص عليه . ومن أصحابه وأصحابنا من قال: إن كان غير معروف بين الناس بالفجور فكذلك، وإن كان معلنا بالفجور مشتهرا به; فالأولى أن يقر بذنبه عند الإمام; ليطهره منه . الشافعي
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال : لمعاذ "إذا أحدثت ذنبا فأحدث عنده توبة، إن سرا فسرا، وإن علانية فعلانية" . وفي إسناده مقال .
وهو إنما يدل على إظهار التوبة، وذلك لا يلزم منه طلب إقامة الحد .
وقد وردت أحاديث تدل على أن من ستر الله عليه في الدنيا، فإن الله [ ص: 418 ] يستر عليه في الآخرة، كحديث في النجوى . وقد خرجه ابن عمر في "التفسير" . البخاري
وخرج الترمذي عن وابن ماجه - مرفوعا: علي "من أذنب ذنبا في الدنيا، فستره الله عليه، فالله أكرم أن يعود في شيء قد عفا عنه " .
وفي "المسند" عن - مرفوعا -: عائشة "لا يستر الله على عبد ذنبا في الدنيا إلا ستر عليه في الآخرة" .
وروي مثله عن علي ، من قولهما . وابن مسعود
وقد يحمل ذلك كله على التائب من ذنبه، جمعا بين هذه النصوص وبين حديث هذا . عبادة
وأصح الأحاديث المذكورة هاهنا حديث في النجوى، وليس فيه تصريح بأن ذلك عام لكل من ستر عليه ذنبه . والله تعالى أعلم . ابن عمر
وقد قيل: إن البيعة سميت بيعة; لأن صاحبها باع نفسه لله .
والتحقيق: أن البيع والمبايعة مأخوذان من مد الباع; لأن المتبايعين للسلعة كل منهما يمد باعه للآخر ويعاقده عليها، وكذلك من بايع الإمام ونحوه . فإنه يمد باعه إليه ويعاهده ويعاقده على ما يبايعه عليه .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبايع أصحابه عند دخولهم في الإسلام على التزام أحكامه، وكان أحيانا يبايعهم على ذلك بعد إسلامهم; تجديدا للعهد; [ ص: 419 ] وتذكيرا بالمقام عليه .
وفي "الصحيحين " عن ، ابن عباس يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا الآية . وقال: "أنتن على ذلك؟ " فقالت امرأة منهن: نعم . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى النساء في يوم عيد، وتلا عليهن هذه الآية:
وفي "صحيح " عن مسلم ، قال: عوف بن مالك كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: "ألا تبايعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ " وكنا حديث عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فقال: "ألا تبايعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلنا: بايعناك يا رسول الله، ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ " . فبسطنا أيدينا، وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ فقال: "أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا"، وأسر كلمة خفية: "ولا تسألوا الناس شيئا" .
وحديث المذكور هاهنا في البيعة قد سبق أنه يحتمل أنه كان ليلة العقبة الأولى، فيكون بيعة لهم على الإسلام والتزام أحكامه وشرائعه . عبادة
وقد ذكر طائفة من العلماء، منهم: في كتاب "أحكام القرآن " من أصحابنا - أن البيعة على الإسلام كانت من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - . واستدلوا، بأن الأمر بالبيعة في القرآن يخص الرسول بالخطاب بها وحده . كما قال تعالى: القاضي أبو يعلى يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا [ ص: 420 ] ولما كان الامتحان وجه الخطاب إلى المؤمنين عموما، فقال: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن فدل على أنه يعم المؤمنين . وكذلك قوله تعالى: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم
. وهذا أمر يختص به الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يشركه فيه غيره . ولكن قد روي عن ، أنه كان يبايع على الإسلام . عثمان
قال : حدثنا الإمام أحمد مسكين بن بكير، قال: ثنا ثابت بن عجلان . عن سليم أبي عامر ، أن وفد الحمراء أتوا ، يبايعونه على الإسلام، وعلى من وراءهم، فبايعهم على أن لا يشركوا بالله شيئا، وأن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويصوموا رمضان، ويدعوا عيد المجوس، فلما قالوا، بايعهم . عثمان بن عفان
وقد بايع عبد الله بن حنظلة الناس يوم الحرة على الموت، فذكر ذلك لعبد الله بن زيد الأنصاري، فقال: لا أبايع على هذا أحدا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
خرجه في "الجهاد" . وإنما أنكر البيعة على الموت، لا أصل المبايعة . وقال البخاري : قلت أبو إسحاق الفزاري لو أن إماما أتاه عدو كثير، [ ص: 421 ] فخاف على من معه، فقال لأصحابه: تعالوا، نتبايع على أن لا نفر، فبايعوا على ذلك؟ قال: ما أحسن هذا . قلت: فلو أن قوما فعلوا ذلك بينهم دون الإمام؟ قال: لو فعلوا ذلك بينهم أشبه العقد في غير بيعة . للأوزاعي: