[ ص: 388 ] سورة الحشر
قوله تعالى: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم
الأرض المعنوة هل هي داخلة في آية الغنائم المذكورة في سورة الأنفال وهي قوله تعالى: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه الآية . أم هي داخلة في آية الفيء المذكورة في سورة الحشر وهي قوله تعالى: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل الآية ثم ذكر ثلاثة أصناف المهاجرين والأنصار ومن جاء بعدهم; فقالت طائفة: الأرض داخلة في آية الغنيمة، فإنه تعالى قال: واعلموا أنما غنمتم من شيء وشيء نكرة في سياق النفي فيعمه كل ما يسمى شيئا، قالوا: وآية الفيء لم يدخل فيها حكم الغنيمة كما أن آية الغنيمة لم يدخل فيها الفيء بل الغنيمة والفيء لكل واحد منهما حق يختص له، وهذا قول من قال من الفقهاء: إن الأرض تتعين قسمتها بين الغانمين .
وقالت طائفة: بل الأرض داخلة في آية الفيء، وهذا قول أكثر العلماء صرحوا بذلك، وممن روي عنه ، وقد سبق ذكر من قال من السلف: إن السواد فيء ونص عليه عمر بن عبد العزيز . [ ص: 389 ] ووجه دخول الأرض في الفيء أن الله تعالى قال: الإمام أحمد ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول إلى قوله: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا الآية، فجعل الفيء لثلاثة أصناف; المهاجرين والأنصار والذين جاءوا من بعدهم ولذلك لما تلا - رضي الله عنه - هذه الآية قال: "استوعبت هذه الآية الناس فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق إلا بعض من تملكون من أرقائكم " خرجه عمر من طريق أبو داود عن الزهري - رضي الله عنه - منقطعا . وروي من وجه آخر عن عمر موصولا، ورواه الزهري هشام بن سعد عن عن أبيه عن زيد بن أسلم - رضي الله عنه - أيضا . عمر
ثم إن - رضي الله عنه - جعل أرض العنوة فيئا وأرصدها للمسلمين إلى يوم القيامة، فدل على أنه فهم دخولها في آيات الفيء ولذلك قرره أمير المؤمنين عمر في رسالته المشهورة التي بين فيها أحكام الفيء وقد اعتمد عليها عمر بن عبد العزيز وأخذ بها، كما ذكر ذلك مالك في كتاب "أحكام القرآن " وساقها بتمامها بإسناده، وذكر القاضي إسماعيل في "صحيحه " بعضها تعليقا وبين دخول الأرض في الفيء وأن هذه الآيات ليست بسبب البخاري بني النضير .
وبنو النضير أجلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة بعد أن حاصرهم قال : حاصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزهري بني النضير وهم سبط من اليهود بناحية من المدينة حتى نزلوا على الجلاء وعلى أنه لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة إلا الحلقة فأنزل الله فيهم يعني أول سورة الحشر . خرجه وخرجه أبو عبيد مطولا من طريق أبو داود عن الزهري عبد الرحمن بن كعب عن رجل من أصحاب [ ص: 390 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر حديثا طويلا وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غزا على بني النضير بالكتاب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء فجلت بنو النضير واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها، فدل أن نخل بني النضير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها فقال تعالى: وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب يقول: فأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثرها للمهاجرين وقسمها بينهم وقسم منها لرجلين من الأنصار كانا ذوي حاجة . وبقي منها صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي في أيدي بني فاطمة - رضي الله عنها -، وهذا الكلام أكثره مدرج من قول ، والله أعلم . الزهري
وخرج من قوله: "كانت أبو داود بنو النضير للنبي - صلى الله عليه وسلم - " إلى آخره من قول . الزهري
وثبت في "الصحيحين " عن - رضي الله عنهما -: ابن عمر ما قطعتم من لينة أو تركتموها الآية . وفي "الصحيحين " أيضا عن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرق نخل بني النضير وقطع وهي البويرة فنزلت فيهم هذه الآية: - رضي الله عنه - أنه قال: "كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب وكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة فكان ينفق منها على أهله نفقة سنة ثم ما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله عز وجل . عمر
وإذا علم أن الآية نزلت بسبب بني النضير فبنو النضير بما تركوا أرضهم ونخلهم وسلاحهم وقد جعله الله فيئا وخصه برسوله إما لأنه كان يملك الفيء في حياته، أو لأنه كان يقسمه باجتهاده ونظره بخلاف الغنيمة ولا ريب أن [ ص: 391 ] بني النضير لم يتركوا أرضهم إلا بعد حصار ومحاربة ولم ينزلوا من حصونهم إلا خشية القتل ومع هذا فقد جعل الله أرض بني النضير فيئا . وقوله تعالى: فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب تذكير بنعمة الله عليهم في أنهم لم يحتاجوا في أخذ ذلك إلى كثير عمل ولا مشقة، وقال في قوله: مجاهد فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب قال: يذكرهم ربهم أنه نصرهم بغير كراع ولا عدة في بني قريظة وخيبر . خرجه عن آدم بن أبي إياس عن ورقاء أبي نجيح عنه، ومعلوم أن خيبر وقع فيها قتال لكن يسير فتكون الآية كقوله: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة وحينئذ فإما أن تكون الأرض تستثنى من عموم قوله: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه الآية، فيكون ذلك تخصيصا من العام، وإما أن يكون هذا ناسخا لحكم الأرض من آية الغنيمة فإن قصة بني النضير بعد قصة بدر بالاتفاق والأشبه التخصيص إلا أن يقال: إن قصة بدر لم يدخل فيها إلا المنقولات إذ لم يكن في غنيمة بدر أرض، وهذا على قول من يرى التخصيص بالسبب ظاهر، ومما يدل على تخصيص آية الغنيمة بالمنقولات، أن الله تعالى خص هذه الأمة بإباحة الغنيمة كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرة . والذي خصت بإباحته هو المنقولات دون الأرض، فإن الله تعالى أورث بني إسرائيل أرض الكفار وديارهم ولم يكن ذلك ممتنعا عليها، لأن الأرض ليست بداخلة في مطلق الغنيمة وإنما كان ممتنعا عليهم المنقولات، ولهذا كانوا يحرقونها بالنار وإنما خص الغانمون من هذه الأمة بالمنقولات دون الأرض . لأن قتالهم وجهادهم لله عز وجل لا للغنيمة، وإنما الغنيمة رخصة من الله تعالى ورحمة بهم فخصوا بما ليس له أصل يبقى، وأما ما له أصل يبقى فإنه [ ص: 392 ] يكون مشتركا بين المسلمين كلهم، من وجد منهم ومن لم يوجد بعد ذلك . ويبين هذا أن الله تعالى نسب الغنيمة للغانمين، فقال: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأما الأرض فأضافها إلى الرسول لقوله: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى إشارة إلى أن كل قرية يفيئها الله على أمته إلى يوم القيامة، فهي مضافة إلى الرسول غير مختصة بالغانمين، والإمام يقوم مقام الرسول في قسمتها بالاجتهاد . وقوله: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى من الأرض خاصة وقد صح عن عطاء بن السائب وغيرهما من السلف أنهم قالوا: الأرض فيء وإن أخذت بقتال وتقدم ذكر ذلك عن جماعة من العلماء يدل على ذلك أنه جعلها لثلاثة أصناف المهاجرين والأنصار ومن جاء بعدهم من المسلمين، وهذا لا يمكن في المنقولات قطعا، لأن المنقولات تستهلك ويختص به من يأخذه فلا يمكن اشتراك جميع المسلمين فيه، وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في والحسن البصري قرى عرينة التي فتحت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو فيها وفي قرى بني قريظة والنضير وحنين، وقيل: بل الآية تعم كل ما فتح إلى آخر الدهر، وهو أصح، وإن كان سبب نزولها في قرى عرينة، فإن سبب النزول لا يختص الحكم العام . قال : بلغنا أن هذه الآية نزلت في الجزيرة والخراج، وخراج القرى . يعني القرى تؤدي الخراج ذكره معمر ، وكذا قال ابن أبي حاتم : أن الحسن بن صالح وكذا فسر الفيء ما أخذ من الكفار بصلح من جزية أو خراج، الفيء بأنه ما صولح عليه من الأرضين وجزية الرؤوس وخراج الأرض . وقال: فيه حق لجميع المسلمين، ولم يذكر في هذه الآية بغير إيجاف، كما ذكره في [ ص: 393 ] الآية الأولى، وقد تقدم عن أحمد أنه حمل الآية الأولى على خيبر وقريظة مع ما فيها من نفي الإيجاف، فما لم يذكر فيه نفي الإيجاف أولى أن يحمل على حالة القتال، فمن هنا قالت طائفة من السلف: المراد به ما أخذه المسلمون بقتال من الأرض . مجاهد
ذكر عن أبيه عن إسماعيل بن إسحاق ، قال المغيرة بن عبد الرحمن : وحدثني ابن إسحاق عبد الله بن أبي بكر دخل حديث أحدهما في الآخر . قال: أنزل الله تعالى في بني النضير سورة الحشر، فكانت أموال بني النضير مما لم يوجف المسلمون عليه خيلا ولا ركابا، فجعل الله أموالهم لنبيه - صلى الله عليه وسلم - يضعها حيث شاء، ثم قال: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ما أوجف المسلمون عليه بالخيل والركاب، وفتح بالحرب فلله وللرسول ولذي القربى، فهذا قسم آخر بين المسلمين على ما وضعه الله عز وجل فقسم الفيء لمن سمى من المهاجرين والأنصار، لمن جاء بعدهم . خرجه القاضي إسماعيل .
ونحو هذا قال قتادة ويزيد بن رومان: وأن هذه القرى مما أخذ بالقتال لكنهم قالوا: نسخ ذلك بآية الأنفال، فإن أرادوا النسخ الاصطلاحي، وهو رفع الحكم، فلا يصح; لأن آية الأنفال نزلت عقب بدر قبل بني النضير . وإن أرادوا أنها بينت أمرها وأن المراد بآية الحشر خمس الغنيمة خاصة، وهذا قول ذكره عطاء الخراساني في "تفسيره " عن آدم بن أبي إياس أبي شيبة عنه على تقدير أن يكون المراد الخمس خاصة بآية الحشر أنها بينت أن خمس الغنيمة لا يختص بالأصناف الخمس، بل يشترك فيها جميع المسلمين كان متوجها، ويستدل بذلك على أن مصرف الخمس كله مصرف الفيء، وهو [ ص: 394 ] أقوى الأقوال، وهو قول وقرره مالك في رسالته في الفيء تقريرا بليغا شافيا - رضي الله عنه - . فهذه ثلاثة أقوال في الآية إذا قلنا: إن الفيء هنا ما أخذ بقتال، هل هي منسوخة أو أن المراد بها خمس الغنيمة أو أن المراد بها الأرض خاصة، وهذا الثالث أصح ويقرر هذا أن الفيء يستعمل كثيرا فيما أخذ بقتال . عمر بن عبد العزيز
وروى عن إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير - رضي الله عنه - قال: جابر وذكر الحديث . وروى "أفاء الله على رسوله خيبر فأقرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما كانوا"، عن يحيى بن سعيد بشير بن يسار وذكر الحديث . خرجه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أفاء الله عليه خيبر قسمها ستة وثلاثين سهما، . أبو داود
وإذا تقرر هذا فمن رأى دخول الأرض في آية الغنيمة خاصة أوجب قسمتها بين الغانمين، ومن رأى دخولها في آية الفيء خاصة فمنهم من أوجب إرصادها للمسلمين عموما، كقول وأصحابه، ومنهم من خير بين ذلك وبين قسمتها، وهو قول الأكثرين، ثم إن مالك أبا عبيد زعم أن الصحابة - رضي الله عنهم - رأوا دخولها في كلتا الآيتين، فلذلك منهم من أشار بقسمتها ومنهم من أشار بحبسها، ورد ذلك أصحاب ، وقالوا: لو دخلت في آية الغنيمة لكانت حقا للغانمين كالمنقولات، فكيف يخير الإمام بين إعطائها لأهلها المستحقين لها وبين منعهم حقهم . وقد يقال: إن من رأى قسمتها مالك كالزبير - رضي الله عنهما -، وهو أول اختياري وبلال - رضي الله عنه - لم يكن مأخذه في ذلك دخولها في آية الغنيمة، وإنما يكون [ ص: 395 ] مأخذهم في ذلك أنها لما كانت فيئا لجميع المسلمين، وحقا مشتركا بينهم جاز تخصيص الغانمين بها لأنهم من جملة المسلمين، ولهم خصوصية على غيرهم بحصول هذه الأرض بقتالهم عليها، فإذا كانت المصلحة في تخصيصهم بها جاز، وهذا كما أقطع عمر - رضي الله عنه - جماعة من الصحابة بعض أرض السواد إقطاع تمليك، ونظيره وقف الإمام بعض أراضي بيت المال على بعض المسلمين، وقد أفتى بجواز ذلك عثمان ابن عقيل من أصحابنا وطوائف من أصحاب الشافعي ، ومن الشافعية من منع ذلك . وأبي حنيفة