[ ص: 633 ] سورة الفيل
قوله تعالى: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل (1) ألم يجعل كيدهم في تضليل (2) وأرسل عليهم طيرا أبابيل (3) ترميهم بحجارة من سجيل (4 فجعلهم كعصف مأكول
كانت قصة الفيل توطئة لنبوته وتقدمة لظهوره وبعثته - صلى الله عليه وسلم -، وقد قص الله تعالى ذلك في كتابه فقال: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول
فقوله: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل استفهام تقرير لمن سمع هذا الخطاب، وهذا يدل على اشتهار ذلك بينهم ومعرفتهم به، وأنه مما لا يخفى علمه على العرب، خصوصا قريشا وأهل مكة، وهذا أمر اشتهر بينهم وتعارفوه، وقالوا فيه الأشعار السائرة . وقد قالت - رضي الله عنها -: رأيت قائد الفيل وسائسه عائشة بمكة أعميين يستطعمان .
وفي هذه القصة ما يدل على مكة، واحترامها واحترام بيت الله الذي فيها، وولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - عقيب ذلك تدل على نبوته ورسالته، فإنه - صلى الله عليه وسلم - بعث بتعظيم هذا البيت وحجه والصلاة إليه، وكان هذا البلد هو موطنه ومولده . فاضطره قومه عند دعوتهم إلى الله تعالى إلى الخروج منه كرها بما نالوه منه [ ص: 634 ] من الأذى، ثم إن الله تعالى ظفره بهم، وأدخله عليهم قهرا، فملك البلد عنوة، وملك رقاب أهله، ثم من عليهم وأطلقهم وعفا عنهم، فكان في تسليط نبيه - صلى الله عليه وسلم - على هذا البلد وتمليكه إياه ولأمته من بعده ما دل على صحة نبوته، تعظيم
فإن الله حبس عنه من يريده بالأذى وأهلكه، ثم سلط عليه رسوله وأمته كما قال - صلى الله عليه وسلم -: مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين " . فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمته إنما كان قصدهم تعظيم البيت وتكريمه واحترامه . ولهذا أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح على من قال: اليوم تستحل الكعبة، وقال: "إن الله حبس عن "اليوم تعظم الكعبة" . وقد كان أهل الجاهلية غيروا دين إبراهيم وإسماعيل بما ابتدعوه من الشرك وتغيير بعض مناسك الحج، فسلط الله رسوله وأمته على مكة فطهروها من ذلك كله، وردوا الأمر إلى دين إبراهيم الحنيف، وهو الذي دعا لهم مع ابنه إسماعيل عند بناء البيت أن يبعث الله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، فبعث الله فيهم محمدا - صلى الله عليه وسلم - من ولد إسماعيل بهذه الصفة، فطهر البيت وما حوله من الشرك، ورد الأمر إلى دين إبراهيم الحنيف، والتوحيد الذي لأجله بني البيت، كما قال تعالى: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود
وأما تسليط القرامطة على البيت بعد ذلك، فإنما كان عقوبة بسبب ذنوب الناس، ولم يصلوا إلى هدمه ونقضه ومنع الناس من حجه وزيارته، كما كان يفعل أصحاب الفيل لو قدروا على هدمه وصرف الناس عن حجه، [ ص: 635 ] والقرامطة أخذوا الحجر والباب، وقتلوا الحاج وسلبوهم أموالهم، ولم يتمكنوا من منع الناس من حجه بالكلية، ولا قدروا على هدمه بالكلية، كما كان أصحاب الفيل يقصدونه، ثم أذلهم الله بعد ذلك وخذلهم وهتك أستارهم، وكشف أسرارهم . والبيت المعظم باق على حاله من التعظيم، والزيارة، والحج والاعتمار . والصلاة إليه، لم يبطل شيء من ذلك عنه بحمد الله ومنه، وغاية أمرهم أنهم أخافوا حاج العراق حتى انقطعوا بعض السنين، ثم عادوا، ولم يزل الله يمتحن عباده المؤمنين بما يشاء من المحن، ولكن دينه قائم محفوظ لا يزال تقوم به أمة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، كما قال تعالى: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا البيت يحج ويعتمر بعد خروج يأجوج ومأجوج، ولا يزال كذلك حتى تخربه الحبشة، ويلقون حجارته في البحر، وذلك بعد أن يبعث الله ريحا طيبة تقبض أرواح المؤمنين كلهم، فلا يبقى في الأرض مؤمن، ويسرى بالقرآن من الصدور والمصاحف، فلا يبقى في الأرض قرآن، ولا إيمان، ولا شيء من الخير، فبعد ذلك تقوم الساعة، ولا تقوم إلا على شرار الناس .