يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين
هذه معركة الإيمان والكفر، وإن شئت فقل: معركة الله ورسوله مع الكافرين; لأن المؤمنين اتخذوا الأسباب؛ لأنهم توكلوا على الله واستغاثوا به، ولأنه لم يكن فيهم ضعفاء الإيمان أو المنافقون، فكانت معركة الله حقا وصدقا، وهو " عزيز حكيم " .
يبين الله تعالى أن أول النصر الثبات، وألا يفر من الميدان; ولذا شدد سبحانه وتعالى في منع الفرار؛ لأن الفرار أول الهزيمة، ولأنه خور في العزيمة، ولأنه والصبر نقيضان لا يجتمعان ولا معذرة في فرار قط، ولأن يقتل الرجل وهو مقبل بصدره خير من أن يقتل وهو مدبر بظهره.
[ ص: 3084 ] وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا النداء للمؤمنين بوصف كونهم مؤمنين، والإيمان صبر وفداء، فالنداء بالذين آمنوا تحريض على الصبر واللقاء والثبات، وذكر لقاء الكافرين - وهم كانوا يتمنون لقاءهم - لينتصروا لله منهم، وليردوا كيدهم، فكان نداء أهل الإيمان بعنوان الإيمان تحريضا على الثبات والمجاهدة، وكان ذكر لقاء الكافرين تحريضا أشد; لأنهم الذين آذوهم وأخرجوهم من ديارهم وظاهروا على إخراجهم; ولذا كان النهي بعد التمهيد، فقال: فلا تولوهم الأدبار و"الفاء" واقعة في جواب الشرط، وعبر سبحانه وتعالى عن النهي عن الفرار بقوله تعالى: فلا تولوهم الأدبار ومعنى تولي الدبر، أي: أن يتركوا ظهورهم للسيوف تضرب في أدبارهم، وذلك منظر هو من أقبح المناظر وأقبح تصوير للفرار من الميدان بضرب السيف في دبره وقفاه، وإن من يقتل في صدره لا يقتل إلا بعد أن يقتل من الأعداء، أما من يقتل في ظهره فإنه يذهب دمه عبيطا ، لا يثأر لنفسه. وقد قال تعالى: