يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون .
[ ص: 3105 ] أمر الله تعالى المؤمنين بأن يذكروا في الرخاء الشدة، وفي الكثر يذكرون القل، وفي العز يذكرون الذل، وفي حال الاعتزاز يذكرون الاستضعاف؛ ليعرفوا النعمة وحقها، وقد ذكر بعد ذلك ما يصون رفعة الأمم والآحاد، فذكر أنه الأمانة; ولذا حث عليها بالنهي عن الخيانة.
والتفسير اللغوي لكلمة "خان" هو أن معناها نقض; ولذا يقال لنقيضها: "وفى" فيقال: خان الأمانة بمعنى نقضها، ويقال: وفاها أي أداها على وجهها، والنهي عن خيانة الله وخيانة رسوله فهي واحدة؛ لأن ما يطلبه الله يطلبه رسوله، ولكن ألحق جلاله مع النبي أو النبي مع الله; لتأكيد المعنى في أن من أطاع الرسول فقد أطاع الله، ولبيان أن الرسول لا يطلب إلا ما يطلبه الله تعالى; ولأن يبين أن نصرة الرسول نصرة لله، ومحبة الرسول محبة لله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم وأن خيانة الرسول خيانة لله تعالى.
وخيانة الله ورسوله تشمل عدم إطاعة الشرع، ومخالفة نواهيه، وترك الجهاد، وإفشاء أسرار المؤمنين، وإعلان ما أمر الله بكتمانه، والغلول في الغنيمة قبل قسمتها، والكيد لجماعات المسلمين، واتخاذ بطانة من غيرهم، وموالاة أعداء الحق، وفي الجملة: مناوأة أهل الحق سرا وباطنا، فهذه كلها خيانة لله ورسوله، وعدم رعاية الأمانات، ومناصرة الظالم، ومعاونته على الظلم وعدم مراعاة الأمانات، وفي الجملة تشمل خيانة الله ورسوله كل خيانة للشريعة، سواء أكانت تتعلق بالآحاد والجماعات.
وقوله: وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون عطف على خيانة الله ورسوله، والمراد أماناتكم : الأمانات التي عهد إليكم بالقيام عليها، وأدائها في وقتها، ويكون النهي عن خيانتها وارد من ناحيتين:
الناحية الأولى: من جهة أن خيانتها خيانة لله ولرسوله; لأن الله تعالى أمر بأداء الأمانات إلى أهلها، فقال تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها [ ص: 3106 ] وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ومن أن شريعة الله التي بلغها محمد - صلى الله عليه وسلم - تأمر بأداء أمانات العباد إلى أصحابها.
والناحية الثانية من أمانات العباد: حق العباد، وديوان ظلم العباد لا يغفر إلا برد مظلمة ظلم الطاغين، وقد أكد الله تعالى النهي وغلظه بقوله تعالى: وأنتم تعلمون أي تجحدون الأمانة وأنتم تعلمون وجوبها، أو تنكرونها وأنتم تعلمون أمرها، وأن أداءها واجب عليكم.
ونرى من هذا أن منهي عنها، وأن عمومها لا يمنع أنها قد تكون اقترنت في نزولها بحوادث وقعت من بعض الصحابة. خيانة الله ورسوله والناس أجمعين
فقد روي أن أبا لبابة كان بينه وبين بني قريظة صلات، فلما حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم أشار إليهم سعد بن معاذ أبو لبابة بألا يحكموه، وأشار إليهم بأن حكمه الذبح، فأحس بأنه خان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فربط نفسه في سارية المسجد، ونذر ألا يأكل حتى يحله رسول الله، فمكث تسعة أيام خر على أثرها مغشيا عليه فتاب الله تعالى عليه، وحل وثاقه، فقال: إنه نذر أن ينخلع من كل ماله إن تاب الله عليه، فاكتفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلث ماله .
وروي أنها نزلت عندما أرسل إلى المشركين يخبرهم بسير النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكتمان، فخان المسلمين بهذا الإخبار . حاطب بن أبي بلتعة
وفي الحق إن الآية عامة لهذه الأحوال وغيرها.