تخاذل ضعاف الإيمان والمنافقين
قال تعالى: لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون
مع الدعوة القاطعة إلى النفير العام كان ثمة متخاذلون متخلفون عن الجهاد، وذلك لأنه شاق عليهم، يرونها عيشة راضية، على أي حال كانت هذه الحياة أو في عزة تنال بالجهاد أم في ذلة ترضى بالهون وأدنى معيشة في الحياة.
وقد بين سبحانه أنهم يريدونها رخاء سهلا، فقال سبحانه:
[ ص: 3314 ] لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة
(العرض) هو المتاع، أو ما يعرض من منافع الدنيا، و(القريب) السهل الذي يجيء من غير مشقة وإجهاد، و(السفر القاصد) السهل القريب الذي لا مشقة في السير فيه ولا تعب، و(الشقة) المسيرة الشاقة المجهدة، أو الأمر الشاق في نفسه.
والمعنى "والله" إنك لو دعوتهم في هذا النفير العام الذي يجب ألا يتخلف عنه أحد من أهل الإيمان والإخلاص - إلى عرض من أعراض الدنيا قريب أو مال قريب، أو كان السفر قاصدا سهلا وقريبا - لاتبعوك; لأنهم يريدون الدعة والاستنامة إلى الراحة وأن يرضوا بأدنى الحياة ذليلة أو عزيزة، في كرامة أو مهانة.
في قوله تعالى: لو كان عرضا فاعلها ضمير يعود إلى النفير المفهوم من قوله تعالى: خفافا وثقالا والكلام يفيد أنهم لم يجيبوا دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى النفير العام، وتخلفوا، مع أن النفير العام لا يفرق بين ذي عذر وغيره ما دام قادرا.
ويبين الله سبحانه وتعالى سبب تخلفهم، وهو أن الشقة الشديدة بعدت عليهم، والنفير فيه بعد في الطريق ومشقة شديدة.
وإن الاعتذار هو حجة الضعيف الذليل، ووثقوا الاعتذار بالأيمان الكاذبة، ولذا قال سبحانه وتعالى: وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم
(السين) لتأكيد حلفهم بالله، والحلف في هذه الحال يتضمن الاستعانة بالله تعالى مع كذبهم، وذلك كفر وبهتان على الله، وقوله: (لو استطعنا) مقولة لقول محذوف تقديره قائلين: لو استطعنا لخرجنا معكم وهي مضمون الحلف أو المقسم عليه، وقد أكدوا كذبهم بهذه اليمين الفاجرة، ليخفوا السبب الحقيقي، وهو الجبن وضعف الإيمان، أو النفاق الذي أفسد قلوبهم وأضل عقولهم، وقد بين سبحانه فجورهم في هذه اليمين، فقال تعالى: والله يعلم أن مغبته تخلفهم فقال: يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون أي: يهلكون أنفسهم بهذه اليمين الكاذبة; لأنها تفسد نفوسهم، وأي هلاك أشد من فساد النفس، وضعف إيمانها، [ ص: 3315 ] وإنهم بتخلفهم يكشفون عن ضعف مزر، وإنهم فوق ذلك لفساد تفكيرهم ألقوا بأيديهم إلى الذلة، إذ استبدلوا بعزة الجهاد ذل الاستخذاء.
وقد أكد الله سبحانه وتعالى كذبهم في قوله تعالت كلماته بقوله: والله يعلم إنهم لكاذبون أولا بذكر (يعلم) فما يعلمه الله صادق لا محالة، وثانيا: بالجملة الاسمية، وثالثا: بـ(إن)، ورابعا: باللام في لكاذبون.
قبح الله الجبن، وضعف الإيمان والنفاق؛ فإنها أدواء الأمم، بها تذهب عزتها، وتضرب عليها الذلة.