الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          إذا كان البغي هو متاع الدنيا للباغين، فقد بين سبحانه أن متاع الدنيا ينتهي إلى حطام وأن متاع الآخرة إلى دوام.

                                                          فقال تعالى:

                                                          * * *

                                                          إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنـزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون

                                                          * * *

                                                          شغلتهم الدنيا عن الآخرة وزينت لهم فحسبوا أنها الحياة وحدها وأنه لا آخرة بعدها، فأنكروا البعث والحساب، وكان هذا ذريعة لأن ينكروا كل مغيب فكفروا; ولذلك يبين الله تعالى لهم أن الدنيا متاع قليل بزينتها وزخرفها وأنها تذهب عندما يظنون أنهم قادرون عليها فتزول وإذا هم لا يقدرون على شيء كالقابض بيديه على الهواء، فقال سبحانه:

                                                          إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنـزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام [ ص: 3549 ]

                                                          هذا تشبيه تمثيلي جار مجرى الأمثال، كما قال تعالى: واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنـزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا

                                                          شبه حال الدنيا في سرعة انقضائها وانخداع المغرور بها، كزرع نبت في الأرض من اختلاط ماء السماء بها وسريانه في نباتها حتى إذا أخذت زخرفها ولمعت لمعان الذهب وازينت بالغروس من كل لون، وفرحوا بها وظنوا أنهم تمكنوا فيها - أتاها أمر الله فأزال زرعها بوباء أو بآفة فصارت كأنها قد حصدت بمنجل، وأصبحت قفرا خاليا كأن لم يكن فيها زرع نبت ردحا من الزمان، وهذا مثلهم في الدنيا لا يبقى لهم منها إلا الحسرة والندامة، مثل ما بقي من الزرع الذي فني حيث يرتقبون منه الانتفاع.

                                                          هذه خلاصة التمثيل القرآني وما نحسب أننا وصلنا إلى غاية بيانه فله إشارات بيانية نعيا عن بلوغها، وأطياف نورانية يعيا المصور عن تصويرها.

                                                          إنما مثل الحياة الدنيا أي: حالها في سرعة انقضائها وقت زينتها والاغترار بها.

                                                          إنما دالة على القصر، وخصصت بهذا الحال لبيان حقيقتها، وهي أنها فانية عند ازدهارها، أي: ليست بها صورة بقاء قط إنما حقيقتها الفناء.

                                                          كماء أنـزلناه من السماء قصد بالسماء هنا ما علا الأرض وأحاط بها، والماء هو المطر وقد يكون عينا تنبت الزرع والكلأ وغراس الأرض.

                                                          فاختلط هناك قراءة بالوقف عليها، والمعنى أنه نزل على الأرض ماء اختلط بترابها فأخصبه للزرع والنبات وإثمار الغراس، وقوله تعالى بعد ذلك: مما يأكل الناس والأنعام (من) بيانية، لبيان نتيجة الاختلاط. [ ص: 3550 ]

                                                          والقراءة الأخرى بغير وقف عند " فاختلط " فيكون المعنى هو الاختلاط بنبات الأرض دلالة على أن البذر يلقى في الأرض ويرجى من الله إثمارها، ويكون اسم النبات قد استعمل فيما هو إضافة باعتبار ما يكون، وتلك علاقة من علاقات المجاز المرسل كأن يسمى العنب خمرا باعتبار ما يكون، كقوله تعالى في منام أحد صاحبي يوسف عليه السلام إني أراني أعصر خمرا مما يأكل الناس والأنعام لبيان نعم الله وتوفيره الغذاء للناس والأنعام، وفي جمعهما معا إشارة إلى أن الدنيا لهم وللأنعام وفضلهم عنها بأنهم يعقلون فلا ينبغي الاغترار بالدنيا وأن يعرفوا ما وراء هذه الحياة وأنهم لم يخلقوا عبثا، كما قال تعالى: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون

                                                          وأشار سبحانه إلى أسباب الاغترار بالدنيا وذكر أن ما يسبب الاغترار سريع الزوال، لا يوجد إلا ليزول كالبرق لا يلمع إلا ليختفي.

                                                          حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس

                                                          زخرفها الزخرف كمال الحسن، وقيل: للذهب زخرفا; لأنه بلمعانه وزينته يكون كمال الحسن. وازينت أي: تزينت، وأعلت فقلبت التاء زايا، وكان الإدغام، ثم كانت همزة للتوصل بها إلى النطق بالساكن، وقرئ (تزينت) من غير إعلال والمعنى واحد، أي: إذا كان ذلك وظن أهلها أنهم قادرون عليها أي: متمكنون، وقال العلماء إن الظن هنا بمعنى العلم في زعمهم، ولكن لأنه غرور وضلال عبر عنه بالظن.

                                                          وجملة القول أنهم لما رأوا بريق الزخرف والزينة بالخضرة النضرة وحسن تنسيق الخالق والحياة المملوءة بها السوق والعيدان وجمالها، ثم فوق ذلك الأمل [ ص: 3551 ] المأمول من ترقب الغلات، فوجئوا بأمر الله المكتوب وقدره المحتوم، وأضاف الأمر إليه سبحانه لبيان أنه لا يقبل التخلف قط.

                                                          أتاها أمرنا ليلا أو نهارا أتاها ذلك ليلا وهم نائمون، أو نهارا وهم قائمون، فأصابتها ريح حطمتها أو آفة أكلتها.

                                                          فجعلناها حصيدا الحصيد فعيل بمعنى مفعول، أي: جعلناها كأنها محصودة بآلة الحصاد وصارت الأرض كأن لم يكن فيها زرع ولا حشائش مما جمل الناس والأنعام. كأن لم تغن بالأمس أي: كأن لم يكن فيها شيء في الزمن القريب (الأمس) ولا مانع أن تدل على الأمس القريب. كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون أي: كذلك التمثيل نفصل الآيات فنبينها لقوم يتدبرون.

                                                          هذه دار الفناء وقد قابلها سبحانه بدار البقاء التي أعدها للمتقين.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية