nindex.php?page=treesubj&link=19775_32774_842_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=238حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ( 238
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=239فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون
* * *
توسطت الآيات التي تبين أحكام الأسرة ، وعلاقات الزوجين عند الافتراق بالطلاق ، أو عند التفريق بينهما بالموت - آيتان كريمتان تدعوان إلى
nindex.php?page=treesubj&link=844الصلاة والمحافظة عليها ، والإتيان بها على وجهها الكامل : من قنوت لله ، وخضوع له ، وخشوع وابتهال وضراعة ; ولذلك التوسط مغزاه ومرماه ; ذلك بأن الله سبحانه وتعالى دعا إلى العفو والتسامح ، وعدم نسيان الفضل عند الافتراق ، ومنع المشاحنة والمنازعة حيث تتوقعان ; ولقد بين سبحانه بعد ذلك ما يربي في النفس نزوع التسامح ، والبعد عن التجافي وهو ذكر الله سبحانه وتعالى ، والإحساس بالخضوع له والانصراف إليه ، ومحبته وطلب رضاه ; فإن من يحب الله ورضوانه يحب الناس ولا ينازعهم ; لأن الله سبحانه رب الناس وخالق الناس ، وهو القاهر فوق عباده والقادر على كل شيء ، والمحبة في الله والبغض في الله ركن الإيمان ، ولا يكون ذلك كله إلا بالقيام بالصلاة وأدائها على وجهها ; ولذا قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=45إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر وإن أداء الصلاة على وجهها والقيام بحقها ليس أمرا صغيرا ، بل إنه أمر كبير خطير ، له
nindex.php?page=treesubj&link=24589نتائجه العليا في الاتجاه بالنفس الإنسانية نحو السمو والتعالي عن متنازع الأهواء في هذه الحياة ; ولذلك قال تعالى في الاستعانة على التغلب على الأهواء في حياتنا الدنيا :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=45واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [ ص: 837 ] وقد يقول قائل : أفما كان الأولى أن تذكر آيات الصلاة بعد بيان أحكام الأسرة كلها ؟ ونقول في الجواب عن ذلك : إن الحق الذي لا ريب فيه هو فيما سلكه كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وإن كتاب الله ليس مؤلفا ينهج مناهج التأليف من حيث التبويب والتقسيم ، بل إن كتاب الله تعالى كتاب عظة واعتبار ، وبيان شرع ، وإرشاد ، ولترتيب منهاجه وحده ، ولا يضارعه كتاب فيه ، فهو يتتبع في ترتيبه تداعي المعاني في النفس ، وتواردها على الفكر ، ويأتي بالحكم حيث تتطلع النفوس إليه ، فيملؤها ببيانه الرائع ، وحكمه الخالد .
ولا شك أن العقل البشري يتطلع ويستفهم كيف يمكن تذكر الفضل في وقت تلك الفرقة التي في أغلب أحوالها تكون نتيجة للبغض الشديد ، وكيف يكون التسامح والعفو في موطن تحكم البغض ؟ فأجاب الله سبحانه داعية العقل ، وتطلع الفكر ، بأن الصلاة على وجهها حيث يخاطب العبد ربه ، وينصرف إليه خاشعا ضارعا محسا بعظمته وتجليه ، ومتجها إليه سبحانه في علو سلطانه ; إن ذلك كله هو الذي يعلو بالنفس عن شهواتها ، ويصعد بها في سموها ; تعالت كلمات الله العلي القدير ، وتسامت حكمة العليم الخبير .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=238حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى الصلوات جمع صلاة ، والصلاة لها معنى إسلامي ، وهي تلك الهيئة المعروفة ، ومعنى آخر وهو الدعاء والتسبيح ; والمراد هنا المعنى الإسلامي ، وهذا أمر صريح بالمحافظة على الصلاة ; وحفظ الصلاة معناه : المداومة عليها ، والاستمرار على أدائها ، وعدم التهاون في ركن من أركانها فالمحافظة على الصلاة تقتضي لا محالة أمرين :
أولهما : أداؤها باستمرار في أوقاتها من غير تخلف ولا تفريط ، وهذا هو الحد الأدنى من المحافظة .
وثانيهما : هو الإتيان بها كاملة الأركان مستوفية للشروط ، تشترك فيها النفس مع حركات الجسم ، ويشترك فيها القلب مع حركات الجوارح وما ينطق به اللسان ; فإن قال في صلاته : ( الله أكبر ) أحس بجلال الألوهية ، وعظم الربوبية ، وأخلص
[ ص: 838 ] قلبه للعبودية ، وإذا قال ( الحمد لله رب العالمين ) استشعر معاني الشكر والثناء على ذات الله العلية بما هو في طاقة العبد الأرضية ; وهكذا في كل ما ينطق به ، وفي كل ما يعمل من ركوع وسجود ، حتى إنه لا ينتهي من صلاته إلا وقد صار كله لله ، وامتلأت نفسه بهيبته ، وقلبه بعظمته ، وعقله بنوره ; وبذلك يتحقق المعنى السامي في الصلاة ، وهو نهيها عن الفحشاء والمنكرات ، والتسامي بصاحبها عن متنازع الأهواء .
وهنا بعض الإشارات اللفظية التي لا بد من التصدي لها بإجمال ; وذلك لأن الله سبحانه وتعالى عبر عن إقامة الصلاة المطلوبة بالمحافظة عليها فلم عدل عن التعبير بإقامة الصلاة إلى التعبير بالمحافظة ؟ ولماذا قال سبحانه وتعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=238حافظوا على الصلوات ولم يقل : احفظوا الصلوات ؟
والجواب عن السؤال الأول : أن المحافظة أو الحفظ تتضمن مع الأداء والإقامة معنى الصيانة والحياطة ، فهي فوق ما تدل عليه من طلب الإقامة على وجهها ، تدل على أن الصلاة في ذاتها شيء نفيس عزيز تجب حياطته وصيانته ، وأن من نال فضل الصلاة فقد نال أمرا عظيما وخطيرا ، وقيما في ذات نفسه .
وأما الجواب عن السؤال الثاني : وهو التعبير بالمحافظة بدل الحفظ - فهو : أن التعبير بالمحافظة يدل على المداومة ، والاستمرار ; ولأن الأصل فيه أنه يكون للأفعال التي تكون من جانبين مشتركين ، لأنه من مادة المفاعلة التي تدل على المشاركة ، وقد تتضمن المنازعة أو المقابلة ; والمداومة على الصلاة فيها هذا المعنى الجليل ، وقد وضحه
الراغب الأصفهاني بقوله في المفردات : ( إنهم يحفظون الصلاة بمراعاتها في أوقاتها ومراعاة أركانها والقيام بها في غاية ما يكون من الطوق ، وإن الصلاة تحفظهم الحفظ الذي نبه الله سبحانه وتعالى عليه في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=45إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فالمشاركة في الحفظ بين الصلاة وبين من يؤديها : يحفظها هو بأدائها على الوجه الأكمل وتحفظه هي نفسه بإبعاده عن السوء ) .
[ ص: 839 ] وقد قيل إن المحافظة بين العبد والرب ; العبد يحفظ الصلاة ويصونها ويؤديها على وجهها ، والرب يحفظه ويصونه عن المعاصي ، وهذا في معنى الأول أو قريب منه .
ويصح أن يكون معنى المحافظة هو المداومة عليها بمغالبة دواعي التفريط مما توسوس به النفس في الطاعات ; فصيغة المحافظة ليست للدلالة على المشاركة في الحفظ ، بل تدل على المغالبة في سبيله ، كالمصابرة ; وذلك لأن من يديم الصلاة مقيما لها على وجهها تقاومه نوازع النفس الأمارة بالسوء ، وإن ذلك يقتضي مغالبة نفسية ، فكان التعبير بالمحافظة دالا على ذلك أو مشيرا إليه .
وإلى هذا المعنى أشار الأستاذ الإمام
الشيخ محمد عبده فيما رواه عنه السيد
رشيد رضا من تفسير .
ولقد قال سبحانه بعد الأمر بالمحافظة على الصلوات عامة : ( والصلاة الوسطى ) فما هي
nindex.php?page=treesubj&link=32774الصلاة الوسطى التي خصها الله سبحانه بالذكر ، أهي واحدة من ذلك المجموع الذي أمر به ، أم هي المجموع موصوفا بهذا الوصف ؟
في التفسير المأثور عن الصحابة والتابعين اتجاهان واضحان :
أحدهما : اتجاه الجمهور وهو أن الصلاة الوسطى واحدة من الخمس الصلوات المفروضة وإن اختلفوا في تعيينها ; وكثرتهم على أنها صلاة العصر ; لوصف النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة العصر بأنها الوسطى ; ولأنها تقع في وسط الصلوات الخمس ; فقبلها اثنتان وبعدها اثنتان ; ولأنها وسط بين صلاتي النهار وصلاتي الليل ، فمعنى التوسط فيها واضح ; وخصت بالمحافظة عليها ، لأنها مظنة التفريط ، إذ تجيء بعد القيلولة ، فيكون كسل ، فخصت بالذكر لهذا المعنى لا لأنها أفضل من غيرها ، فجميعها قربات تزكي النفس وتطهر القلب .
[ ص: 840 ] والاتجاه الثاني : وليس عليه الجمهور من التابعين - أن المراد بالصلاة الوسطى الصلاة كلها ، والوسطى ليس معناها المتوسطة ، بل الوسطى معناها الفضلى ; وذلك لأن الوسطى مؤنث أوسط ، والأوسط في أكثر استعمال القرآن الأمثل والأفضل ; ولذا قال سبحانه :
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=28قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون
والمعنى على ذلك الاتجاه : حافظوا على الصلوات كلها بالمداومة عليها ، وحافظوا على أن يكون أداؤكم لها من النوع الأمثل الفاضل بإقامة الأركان خاشعين متبتلين خاضعين منصرفين في أدائها عن كل شئون الدنيا متجهين إلى رب العالمين دون سواه .
وهنا يرد سؤال : لماذا جمع الصلوات في الأول ، وأفرد الصلاة في الثاني ؟
والجواب عن ذلك أن المراد من الصلوات في الأول الفرائض الخمس بأعيانها ، والمعنى في الصلاة في الثاني هو الفعل ، فكان المؤدى : داوموا على الصلوات وأن تكون صلاتكم كلها من النوع الأمثل الفاضل .
وقد روي هذا الاتجاه عن
nindex.php?page=showalam&ids=12عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل رضي الله عنه ، وقد اختار ذلك الاتجاه
nindex.php?page=showalam&ids=13332الحافظ أبو عمر بن عبد البر إمام
الأندلس في الحفظ والآثار ، وإنا نميل إلى ذلك ، وخصوصا أن الروايات في كونها صلاة معينة من الخمس متضاربة ، فقيل العصر ، وقيل الظهر ، وقيل الصبح ، وقيل الجمعة ، وقيل الظهر والعصر ، وقيل الصبح والعصر ; وإزاء ذلك نميل إلى ما اختاره
nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر ، وهو الثقة الثبت في الحفظ ونقد المتن والرجال .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=238وقوموا لله قانتين القنوت في معناه المداومة على الفعل ، وقد خصه القرآن الكريم بمعنى الدوام على الطاعة والملازمة لها وأدائها على وجهها ; ومن ذلك قوله تعالى في وصف نبيه
إبراهيم عليه السلام :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=120إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا وقال سبحانه مخاطبا نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=31ومن يقنت منكن لله ورسوله وقال في وصف المؤمنين والمؤمنات :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=35والقانتين والقانتات [ ص: 841 ] فالقنوت على هذا المعنى الإسلامي الرائع : ملازمة الطاعة والقيام بالعبادة في خشوع ضارع ، وانصراف كامل ، وشعور بالعبودية الحقة لله رب العالمين ; فمعنى قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=238وقوموا لله قانتين قوموا بعبادتكم على وجهها الكامل ملازمين للخضوع والخشوع ، غير مفرطين ، ولا منصرفين عن رب العالمين ، مستشعرين عظمته ، قد ملأت قلوبكم هيبته .
ونرى من هذا أن قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=238وقوموا لله قانتين يزكي ما اختاره
nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر ويقويه ، وهو أن معنى الصلاة الوسطى ، الصلاة الفضلى والمثلى ، وهي التي تؤدى على الوجه الأكمل .
ولهذا المعنى السامي في الصلاة ، كانت أعظم أركان الإسلام بعد شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن كانت ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) هي الفارق بين الإسلام والكفر ، فالصلاة ثمرتها الأولى ، والدعامة من بعد ذلك لكل الطاعات والفرائض ; بها إن أديت على وجهها تستعصم النفس عند الشهوات ، وبها إن أديت على وجهها يلتزم العبد ما أمر الله ، وينتهي عما نهى الله سبحانه وتعالى عنه ، وبها يكون التعامل الفاضل بين الناس بعضهم مع بعض ; لأنها ذكر دائم لله سبحانه وتعالى ، فتمتلئ النفس البشرية بعظمة الله ، وتستنير البصيرة ، ويتجه المؤمن إلى الخير ; ولقد قال بعض العلماء إن ترك الصلاة كفر وروى
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=657124nindex.php?page=treesubj&link=23391_24589بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " وروى
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد nindex.php?page=hadith&LINKID=687133أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عندما ذكر الصلاة : " من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة ، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف " .
[ ص: 842 ] ولأن الصلاة لها تلك المنزلة لم تسقطها رخصة ، ولا تجب على فريق دون فريق ، فلها عموم الوحدانية ، ولها لزوم الشهادتين ،
nindex.php?page=treesubj&link=844فأكثر العبادات قد تسقط عن فريق دون فريق إلا الصلاة ، فإنه لا رخصة لسقوطها ، ولذا وجبت في حال الأمن والخوف ، وقال تعالى في حال الخوف :
nindex.php?page=treesubj&link=19775_32774_842_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=238حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ( 238
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=239فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ
* * *
تَوَسَّطَتِ الْآيَاتُ الَّتِي تُبَيِّنُ أَحْكَامَ الْأُسْرَةِ ، وَعَلَاقَاتِ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ الِافْتِرَاقِ بِالطَّلَاقِ ، أَوْ عِنْدَ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا بِالْمَوْتِ - آيَتَانِ كَرِيمَتَانِ تَدْعُوَانِ إِلَى
nindex.php?page=treesubj&link=844الصَّلَاةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا ، وَالْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا الْكَامِلِ : مِنْ قُنُوتٍ لِلَّهِ ، وَخُضُوعٍ لَهُ ، وَخُشُوعٍ وَابْتِهَالٍ وَضَرَاعَةٍ ; وَلِذَلِكَ التَّوَسُّطِ مَغْزَاهُ وَمَرْمَاهُ ; ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دَعَا إِلَى الْعَفْوِ وَالتَّسَامُحِ ، وَعَدَمِ نِسْيَانِ الْفَضْلِ عِنْدَ الِافْتِرَاقِ ، وَمَنْعِ الْمُشَاحَنَةِ وَالْمُنَازَعَةِ حَيْثُ تُتَوَقَّعَانِ ; وَلَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يُرَبِّي فِي النَّفْسِ نُزُوعَ التَّسَامُحِ ، وَالْبُعْدَ عَنِ التَّجَافِي وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَالْإِحْسَاسُ بِالْخُضُوعِ لَهُ وَالِانْصِرَافِ إِلَيْهِ ، وَمَحَبَّتُهُ وَطَلَبُ رِضَاهُ ; فَإِنَّ مَنْ يُحِبُّ اللَّهَ وَرِضْوَانَهُ يُحِبُّ النَّاسَ وَلَا يُنَازِعُهُمْ ; لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَبُّ النَّاسِ وَخَالِقُ النَّاسِ ، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَالْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، وَالْمَحَبَّةُ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ رُكْنُ الْإِيمَانِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَّا بِالْقِيَامِ بِالصَّلَاةِ وَأَدَائِهَا عَلَى وَجْهِهَا ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=45إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَإِنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِهَا وَالْقِيَامَ بِحَقِّهَا لَيْسَ أَمْرًا صَغِيرًا ، بَلْ إِنَّهُ أَمْرٌ كَبِيرٌ خَطِيرٌ ، لَهُ
nindex.php?page=treesubj&link=24589نَتَائِجُهُ الْعُلْيَا فِي الِاتِّجَاهِ بِالنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ نَحْوَ السُّمُوِّ وَالتَّعَالِي عَنْ مُتَنَازَعِ الْأَهْوَاءِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي الِاسْتِعَانَةِ عَلَى التَّغَلُّبِ عَلَى الْأَهْوَاءِ فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=45وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ [ ص: 837 ] وَقَدْ يَقُولُ قَائِلٌ : أَفَمَا كَانَ الْأَوْلَى أَنْ تُذْكَرَ آيَاتُ الصَّلَاةِ بَعْدَ بَيَانِ أَحْكَامِ الْأُسْرَةِ كُلِّهَا ؟ وَنَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ : إِنَّ الْحَقَّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ هُوَ فِيمَا سَلَكَهُ كِتَابُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ، وَإِنَّ كِتَابَ اللَّهِ لَيْسَ مُؤَلَّفًا يَنْهَجُ مَنَاهِجَ التَّأْلِيفِ مِنْ حَيْثُ التَّبْوِيبِ وَالتَّقْسِيمِ ، بَلْ إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى كِتَابُ عِظَةٍ وَاعْتِبَارٍ ، وَبَيَانُ شَرْعٍ ، وَإِرْشَادٍ ، وَلِتَرْتِيبِ مِنْهَاجِهِ وَحْدَهُ ، وَلَا يُضَارِعُهُ كِتَابٌ فِيهِ ، فَهُوَ يَتَتَبَّعُ فِي تَرْتِيبِهِ تَدَاعِيَ الْمَعَانِي فِي النَّفْسِ ، وَتَوَارُدَهَا عَلَى الْفِكْرِ ، وَيَأْتِي بِالْحُكْمِ حَيْثُ تَتَطَلَّعُ النُّفُوسُ إِلَيْهِ ، فَيَمْلَؤُهَا بِبَيَانِهِ الرَّائِعِ ، وَحُكْمِهِ الْخَالِدِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ يَتَطَلَّعُ وَيَسْتَفْهِمُ كَيْفَ يُمْكِنُ تَذَكُّرُ الْفَضْلِ فِي وَقْتِ تِلْكَ الْفُرْقَةِ الَّتِي فِي أَغْلَبِ أَحْوَالِهَا تَكُونُ نَتِيجَةً لِلْبُغْضِ الشَّدِيدِ ، وَكَيْفَ يَكُونُ التَّسَامُحُ وَالْعَفْوُ فِي مَوْطِنِ تَحَكُّمِ الْبُغْضِ ؟ فَأَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دَاعِيَةَ الْعَقْلِ ، وَتَطَلُّعَ الْفِكْرِ ، بِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى وَجْهِهَا حَيْثُ يُخَاطِبُ الْعَبْدُ رَبَّهُ ، وَيَنْصَرِفُ إِلَيْهِ خَاشِعًا ضَارِعًا مُحِسًّا بِعَظَمَتِهِ وَتَجَلِّيهِ ، وَمُتَّجِهًا إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فِي عُلُوِّ سُلْطَانِهِ ; إِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ هُوَ الَّذِي يَعْلُو بِالنَّفْسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا ، وَيَصْعَدُ بِهَا فِي سُمُوِّهَا ; تَعَالَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ الْعَلِيِّ الْقَدِيرِ ، وَتَسَامَتْ حِكْمَةُ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=238حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى الصَّلَوَاتُ جَمْعُ صَلَاةٍ ، وَالصَّلَاةُ لَهَا مَعْنَى إِسْلَامِيٌّ ، وَهِيَ تِلْكَ الْهَيْئَةُ الْمَعْرُوفَةُ ، وَمَعْنَى آخَرُ وَهُوَ الدُّعَاءُ وَالتَّسْبِيحُ ; وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَعْنَى الْإِسْلَامِيُّ ، وَهَذَا أَمْرٌ صَرِيحٌ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ ; وَحِفْظُ الصَّلَاةِ مَعْنَاهُ : الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا ، وَالِاسْتِمْرَارُ عَلَى أَدَائِهَا ، وَعَدَمُ التَّهَاوُنِ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَاةِ تَقْتَضِي لَا مَحَالَةَ أَمْرَيْنِ :
أَوَّلُهُمَا : أَدَاؤُهَا بِاسْتِمْرَارٍ فِي أَوْقَاتِهَا مِنْ غَيْرِ تَخَلُّفٍ وَلَا تَفْرِيطٍ ، وَهَذَا هُوَ الْحَدُّ الْأَدْنَى مِنَ الْمُحَافَظَةِ .
وَثَانِيهِمَا : هُوَ الْإِتْيَانُ بِهَا كَامِلَةَ الْأَرْكَانِ مُسْتَوْفِيَةً لِلشُّرُوطِ ، تَشْتَرِكُ فِيهَا النَّفْسُ مَعَ حَرَكَاتِ الْجِسْمِ ، وَيَشْتَرِكُ فِيهَا الْقَلْبُ مَعَ حَرَكَاتِ الْجَوَارِحِ وَمَا يَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ ; فَإِنْ قَالَ فِي صِلَاتِهِ : ( اللَّهُ أَكْبَرُ ) أَحَسَّ بِجَلَالِ الْأُلُوهِيَّةِ ، وَعِظَمِ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَأَخْلَصَ
[ ص: 838 ] قَلْبَهُ لِلْعُبُودِيَّةِ ، وَإِذَا قَالَ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) اسْتَشْعَرَ مَعَانِيَ الشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ عَلَى ذَاتِ اللَّهِ الْعَلِيَّةِ بِمَا هُوَ فِي طَاقَةِ الْعَبْدِ الْأَرْضِيَّةِ ; وَهَكَذَا فِي كُلِّ مَا يَنْطِقُ بِهِ ، وَفِي كُلِّ مَا يَعْمَلُ مِنْ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ ، حَتَّى إِنَّهُ لَا يَنْتَهِي مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا وَقَدْ صَارَ كُلُّهُ لِلَّهِ ، وَامْتَلَأَتْ نَفْسُهُ بِهَيْبَتِهِ ، وَقَلْبُهُ بِعَظَمَتِهِ ، وَعَقْلُهُ بِنُورِهِ ; وَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الْمَعْنَى السَّامِيَ فِي الصَّلَاةِ ، وَهُوَ نَهْيُهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرَاتِ ، وَالتَّسَامِي بِصَاحِبِهَا عَنْ مُتَنَازَعِ الْأَهْوَاءِ .
وَهُنَا بَعْضُ الْإِشَارَاتِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنَ التَّصَدِّي لَهَا بِإِجْمَالٍ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَبَّرَ عَنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ الْمَطْلُوبَةِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فَلِمَ عَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ إِلَى التَّعْبِيرِ بِالْمُحَافَظَةِ ؟ وَلِمَاذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=238حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَلَمْ يَقُلْ : احْفَظُوا الصَّلَوَاتِ ؟
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ : أَنَّ الْمُحَافَظَةَ أَوِ الْحِفْظَ تَتَضَمَّنُ مَعَ الْأَدَاءِ وَالْإِقَامَةِ مَعْنَى الصِّيَانَةِ وَالْحِيَاطَةِ ، فَهِيَ فَوْقَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ الْإِقَامَةِ عَلَى وَجْهِهَا ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي ذَاتِهَا شَيْءٌ نَفِيسٌ عَزِيزٌ تَجِبُ حِيَاطَتُهُ وَصِيَانَتُهُ ، وَأَنَّ مَنْ نَالَ فَضْلَ الصَّلَاةِ فَقَدْ نَالَ أَمْرًا عَظِيمًا وَخَطِيرًا ، وَقَيِّمًا فِي ذَاتِ نَفْسِهِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي : وَهُوَ التَّعْبِيرُ بِالْمُحَافَظَةِ بَدَلَ الْحِفْظِ - فَهُوَ : أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْمُحَافَظَةِ يَدُلُّ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ ، وَالِاسْتِمْرَارِ ; وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ أَنَّهُ يَكُونُ لِلْأَفْعَالِ الَّتِي تَكُونُ مِنْ جَانِبَيْنِ مُشْتَرِكَيْنِ ، لِأَنَّهُ مِنْ مَادَّةِ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْمُشَارَكَةِ ، وَقَدْ تَتَضَمَّنُ الْمُنَازَعَةَ أَوِ الْمُقَابَلَةَ ; وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى الصَّلَاةِ فِيهَا هَذَا الْمَعْنَى الْجَلِيلُ ، وَقَدْ وَضَّحَهُ
الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ بِقَوْلِهِ فِي الْمُفْرَدَاتِ : ( إِنَّهُمْ يَحْفَظُونَ الصَّلَاةَ بِمُرَاعَاتِهَا فِي أَوْقَاتِهَا وَمُرَاعَاةِ أَرْكَانِهَا وَالْقِيَامِ بِهَا فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الطَّوْقِ ، وَإِنَّ الصَّلَاةَ تَحْفَظُهُمُ الْحِفْظَ الَّذِي نَبَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=45إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ فَالْمُشَارَكَةُ فِي الْحِفْظِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَبَيْنَ مَنْ يُؤَدِّيهَا : يَحْفَظُهَا هُوَ بِأَدَائِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ وَتَحْفَظُهُ هِيَ نَفْسَهُ بِإِبْعَادِهِ عَنِ السُّوءِ ) .
[ ص: 839 ] وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْمُحَافَظَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ ; الْعَبْدُ يَحْفَظُ الصَّلَاةَ وَيَصُونُهَا وَيُؤَدِّيهَا عَلَى وَجْهِهَا ، وَالرَّبُّ يَحْفَظُهُ وَيَصُونُهُ عَنِ الْمَعَاصِي ، وَهَذَا فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ .
وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْمُحَافَظَةِ هُوَ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا بِمُغَالَبَةِ دَوَاعِي التَّفْرِيطِ مِمَّا تُوَسْوِسُ بِهِ النَّفْسُ فِي الطَّاعَاتِ ; فَصِيغَةُ الْمُحَافَظَةِ لَيْسَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي الْحِفْظِ ، بَلْ تَدُلُّ عَلَى الْمُغَالَبَةِ فِي سَبِيلِهِ ، كَالْمُصَابَرَةِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يُدِيمُ الصَّلَاةَ مُقِيمًا لَهَا عَلَى وَجْهِهَا تُقَاوِمُهُ نَوَازِعُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي مُغَالَبَةً نَفْسِيَّةً ، فَكَانَ التَّعْبِيرُ بِالْمُحَافَظَةِ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ أَوْ مُشِيرًا إِلَيْهِ .
وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ
الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ عَبْدُهُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ السَّيِّدُ
رَشِيدٌ رِضَا مِنْ تَفْسِيرٍ .
وَلَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ عَامَّةً : ( وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ) فَمَا هِيَ
nindex.php?page=treesubj&link=32774الصَّلَاةُ الْوُسْطَى الَّتِي خَصَّهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالذِّكْرِ ، أَهِيَ وَاحِدَةٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ ، أَمْ هِيَ الْمَجْمُوعُ مَوْصُوفًا بِهَذَا الْوَصْفِ ؟
فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ اتِّجَاهَانِ وَاضِحَانِ :
أَحَدُهُمَا : اتِّجَاهُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى وَاحِدَةٌ مِنَ الْخَمْسِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهَا ; وَكَثْرَتُهُمْ عَلَى أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ ; لِوَصْفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ الْعَصْرَ بِأَنَّهَا الْوُسْطَى ; وَلِأَنَّهَا تَقَعُ فِي وَسَطِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ; فَقَبْلَهَا اثْنَتَانِ وَبَعْدَهَا اثْنَتَانِ ; وَلِأَنَّهَا وَسَطٌ بَيْنَ صَلَاتَيِ النَّهَارِ وَصَلَاتَيِ اللَّيْلِ ، فَمَعْنَى التَّوَسُّطِ فِيهَا وَاضِحٌ ; وَخُصَّتْ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا ، لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ التَّفْرِيطِ ، إِذْ تَجِيءُ بَعْدَ الْقَيْلُولَةِ ، فَيَكُونُ كَسَلٌ ، فَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِهَذَا الْمَعْنَى لَا لِأَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا ، فَجَمِيعُهَا قُرُبَاتٌ تُزَكِّي النَّفْسَ وَتُطَهِّرُ الْقَلْبَ .
[ ص: 840 ] وَالِاتِّجَاهُ الثَّانِي : وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ التَّابِعِينَ - أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ الْوُسْطَى الصَّلَاةُ كُلُّهَا ، وَالْوُسْطَى لَيْسَ مَعْنَاهَا الْمُتَوَسِّطَةَ ، بَلِ الْوُسْطَى مَعْنَاهَا الْفُضْلَى ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوُسْطَى مُؤَنَّثُ أَوْسَطَ ، وَالْأَوْسَطُ فِي أَكْثَرِ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ الْأَمْثَلُ وَالْأَفْضَلُ ; وَلِذَا قَالَ سُبْحَانَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=28قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ
وَالْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ الِاتِّجَاهِ : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا ، وَحَافِظُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَدَاؤُكُمْ لَهَا مِنَ النَّوْعِ الْأَمْثَلِ الْفَاضِلِ بِإِقَامَةِ الْأَرْكَانِ خَاشِعِينَ مُتَبَتِّلِينَ خَاضِعِينَ مُنْصَرِفِينَ فِي أَدَائِهَا عَنْ كُلِّ شُئُونِ الدُّنْيَا مُتَّجِهِينَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ دُونَ سِوَاهُ .
وَهُنَا يَرِدُ سُؤَالٌ : لِمَاذَا جَمَعَ الصَّلَوَاتِ فِي الْأَوَّلِ ، وَأَفْرَدَ الصَّلَاةَ فِي الثَّانِي ؟
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي الْأَوَّلِ الْفَرَائِضُ الْخَمْسُ بِأَعْيَانِهَا ، وَالْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ فِي الثَّانِي هُوَ الْفِعْلُ ، فَكَانَ الْمُؤَدَّى : دَاوِمُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَأَنْ تَكُونَ صَلَاتُكُمْ كُلُّهَا مِنَ النَّوْعِ الْأَمْثَلِ الْفَاضِلِ .
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الِاتِّجَاهُ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=12عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=32مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَدِ اخْتَارَ ذَلِكَ الِاتِّجَاهَ
nindex.php?page=showalam&ids=13332الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِمَامُ
الْأَنْدَلُسِ فِي الْحِفْظِ وَالْآثَارِ ، وَإِنَّا نَمِيلُ إِلَى ذَلِكَ ، وَخُصُوصًا أَنَّ الرِّوَايَاتِ فِي كَوْنِهَا صَلَاةً مُعَيَّنَةً مِنَ الْخَمْسِ مُتَضَارِبَةٌ ، فَقِيلَ الْعَصْرُ ، وَقِيلَ الظُّهْرُ ، وَقِيلَ الصُّبْحُ ، وَقِيلَ الْجُمُعَةُ ، وَقِيلَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ ، وَقِيلَ الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ ; وَإِزَاءَ ذَلِكَ نَمِيلُ إِلَى مَا اخْتَارَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13332ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَهُوَ الثِّقَةُ الثَّبْتُ فِي الْحِفْظِ وَنَقْدِ الْمَتْنِ وَالرِّجَالِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=238وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ الْقُنُوتُ فِي مَعْنَاهُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْفِعْلِ ، وَقَدْ خَصَّهُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بِمَعْنَى الدَّوَامِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمُلَازَمَةِ لَهَا وَأَدَائِهَا عَلَى وَجْهِهَا ; وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ نَبِيِّهِ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=120إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَقَالَ سُبْحَانَهُ مُخَاطِبًا نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=31وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=35وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ [ ص: 841 ] فَالْقُنُوتُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْإِسْلَامِيِّ الرَّائِعِ : مُلَازَمَةُ الطَّاعَةِ وَالْقِيَامُ بِالْعِبَادَةِ فِي خُشُوعٍ ضَارِعٍ ، وَانْصِرَافٍ كَامِلٍ ، وَشُعُورٍ بِالْعُبُودِيَّةِ الْحَقَّةِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ; فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=238وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ قُومُوا بِعِبَادَتِكُمْ عَلَى وَجْهِهَا الْكَامِلِ مُلَازِمِينَ لِلْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ ، غَيْرَ مُفَرِّطِينَ ، وَلَا مُنْصَرِفِينَ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، مُسْتَشْعِرِينَ عَظَمَتَهُ ، قَدْ مَلَأَتْ قُلُوبَكُمْ هَيْبَتُهُ .
وَنَرَى مِنْ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=238وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ يُزَكِّي مَا اخْتَارَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13332ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَيُقَوِّيهِ ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى الصَّلَاةِ الْوُسْطَى ، الصَّلَاةُ الْفُضْلَى وَالْمُثْلَى ، وَهِيَ الَّتِي تُؤَدَّى عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ .
وَلِهَذَا الْمَعْنَى السَّامِي فِي الصَّلَاةِ ، كَانَتْ أَعْظَمَ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَإِنْ كَانَتْ ( لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ) هِيَ الْفَارِقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ ، فَالصَّلَاةُ ثَمَرَتُهَا الْأُولَى ، وَالدِّعَامَةُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لِكُلِّ الطَّاعَاتِ وَالْفَرَائِضِ ; بِهَا إِنْ أُدِّيَتْ عَلَى وَجْهِهَا تَسْتَعْصِمُ النَّفْسُ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ ، وَبِهَا إِنْ أُدِّيَتْ عَلَى وَجْهِهَا يَلْتَزِمُ الْعَبْدُ مَا أَمَرَ اللَّهُ ، وَيَنْتَهِي عَمَّا نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهُ ، وَبِهَا يَكُونُ التَّعَامُلُ الْفَاضِلُ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ ; لِأَنَّهَا ذِكْرٌ دَائِمٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، فَتَمْتَلِئُ النَّفْسُ الْبَشَرِيَّةُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ ، وَتَسْتَنِيرُ الْبَصِيرَةُ ، وَيَتَّجِهُ الْمُؤْمِنُ إِلَى الْخَيْرِ ; وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ كُفْرٌ وَرَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=11998أَبُو دَاوُدَ nindex.php?page=showalam&ids=13948وَالتِّرْمِذِيُّ nindex.php?page=showalam&ids=13478وَابْنُ مَاجَهْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=657124nindex.php?page=treesubj&link=23391_24589بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ " وَرَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامُ أَحْمَدُ nindex.php?page=hadith&LINKID=687133أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عِنْدَمَا ذَكَرَ الصَّلَاةَ : " مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نُورًا وَلَا بُرْهَانًا وَلَا نَجَاةً ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ " .
[ ص: 842 ] وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ لَهَا تِلْكَ الْمَنْزِلَةُ لَمْ تُسْقِطْهَا رُخْصَةٌ ، وَلَا تَجِبُ عَلَى فَرِيقٍ دُونَ فَرِيقٍ ، فَلَهَا عُمُومُ الْوَحْدَانِيَّةِ ، وَلَهَا لُزُومُ الشَّهَادَتَيْنِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=844فَأَكْثَرُ الْعِبَادَاتِ قَدْ تَسْقُطُ عَنْ فَرِيقٍ دُونَ فَرِيقٍ إِلَّا الصَّلَاةَ ، فَإِنَّهُ لَا رُخْصَةَ لِسُقُوطِهَا ، وَلِذَا وَجَبَتْ فِي حَالِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ ، وَقَالَ تَعَالَى فِي حَالِ الْخَوْفِ :