وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون
(أكثرهم) ، أي: أكثر الناس، وما المراد بالناس هنا؟ أراد بهم العرب قبل ظهور الإسلام أم الناس أجمعين؟ لا مانع من إرادة أحد الفرضين أو إرادتهما معا بمعنى شمول الكلمة لكل ما تدل عليه من ناس عرب وعجم.
على الفرض الأول يكون في هذا النص السامي بيان حقيقة تاريخية تومئ إلى حكمة بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في العرب ابتداء، وعموم دعوته من بين صفوفهم من بعد الله أعلم حيث يجعل رسالته ذلك أن العرب من شعوب الأرض كانوا يعلمون الله، ويؤمنون بأنه الخالق لكل شيء وأنه واحد في ذاته وصفاته، ولكنهم مع ذلك يعبدون الأوثان مع الله سبحانه وتعالى، وكانوا في تلبيتهم في الحج، يجمعون بين الإيمان بالله الواحد الأحد [ ص: 3870 ] وإشراك غيره معه، ففي الصحيحين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان سمعهم قالوا لبيك اللهم لبيك، قال عليه الصلاة والسلام: " قد قد "، مسلم: أي: حسب حسب لا يزيدون على هذا . أن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ، وفي صحيح
وإنهم كانوا في الشدة لا يستغيثون إلا بالله لعلمهم بأنه وحده الخالق المغيث، ولكنهم يشركون به غيره في العبادة، ولقد كانوا بهذا أقرب إلى التوحيد من غيرهم، فليس على الداعي إلى الوحدانية إلا بطلان عبادتهم للأوثان وقولهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فالله قريب من عباده ادعوني أستجب لكم وما لهم عنده من شفعاء.
هذا على منطق أن الناس المراد بهم عرب الجاهلية، وعلى الفرض الثاني والثالث يكون المعنى أن أكثر الناس تعتريهم حال إشراك مهما أخلصوا التوحيد لله تعالى، فالأوهام تسيطر على الناس وقد تأدت بالوثنيين إلى عبادة الأوثان، ولكنها بالنسبة لمن جاء بعدهم تأدت بهم إلى أوهام حول الأشخاص، لم يعبدوهم ولكن اعتقدوا فيهم قوى خفية، وإن آمنوا بأنهم مخلوقات، وأنهم بشر.
وإن أظهر ما يكون ذلك في الرقى، روي رضي الله عنه خبر روته امرأته عبد الله بن مسعود زينب قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح كراهة أن يهجم على أمر يكرهه، وإنه جاء ذات يوم، فتنحنح، وعندي عجوز ترقيني، فأدخلتها تحت السرير، فدخل فجلس إلى جانبي، فرأى في عنقي خيطا، فقال: ما هذا الخيط؟، قلت: خيط رقي لي فيه، فقال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: " " . الرقى والتمائم شرك [ ص: 3871 ] عن
ولقد كانت الخالية من الشرك: رقية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم " أذهب البأس رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما " .
وروي أن رقية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كانت بالمعوذتين: قل أعوذ برب الفلق إلى آخرها وقل أعوذ برب الناس إله الناس إلى آخرها .
وفي الحق أن الأوهام التي تسيطر على الناس من ناحية الغيب دفعت النصارى إلى التثليث، وهو شرك، ودفعت المشركين من العرب إلى عبادة الأوثان.
والآية الكريمة تدعو المؤمنين إلى وأن يبعدوا عن الأوهام المضلة، فلا يعتقدون في مخلوق أن فيه قوة تشفي، أو تنفع، فإن الأوهام أدت إلى الشرك في جاهلية الحرص على التوحيد، وتفويض الأمر إلى الله تعالى، العرب وأدت النصارى إلى التثليث، ولا تزال الأوهام تسيطر عليهم حتى تأدت بهم إلى عبادة الأحجار والصور والتماثيل.
* * *