الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل: الخطاب لكل من يقرأ القرآن، والأول أولى لأنه جاء بعد ذلك
nindex.php?page=treesubj&link=30532_30538_30550_32016_34090_34513_28984nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=6ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات والاستعجال منهم لا يكون إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومعنى النص السامي: وإن يكن من شأنك يا
محمد أن تعجب من أمر فالأمر الجدير بالعجب، أو هو أجدر الأمور بالعجب، فهو قولهم
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد أما إن هذا هو وحده الأمر الحقيق بالعجب، ونكر
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5فعجب قولهم لإفادة عظم هذا العجب لشدة الغرابة فيه.
والعجب منصب على قولهم
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد فموضوع العجب هو هذا القول، لأنه غريب في ذاته ينافي كل معقول، وكل محسوس، لأنهم يرون في خلق الله تعالى أن الله سبحانه خلق السماوات والأرض، وخلق كل نوع نباتا، وأشجارا، ويحيي ويميت، ويفلق الحب والنوى، فيجعل منه زرعا
[ ص: 3899 ] متراكبا، ونخيلا وجنات، وفوق ذلك هم يسلمون بأنه الذي ابتدأ خلقهم، والابتداء في حكم العقل والفكر أشد من الإعادة، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=29كما بدأكم تعودون وعجبهم الضال هو في أنهم بعد أن يصيروا ترابا يعودون أحياء.
والاستفهام للإنكار، لإنكار الوقوع مع الغرابة من هذا الوقوع، إن كان، وكرر الاستفهام
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5أإذا كنا ترابا وقولهم:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5أإنا لفي خلق جديد لأن موضع الغرابة هو الخلق الجديد بعد أن يصيروا ترابا، فدخل الاستفهام على الحالين، والتعبير بـ ( خلق جديد ) يدل على موضع استغرابهم، ونسوا أن الذي يخلقهم خلقا جديدا هو الذي أنشأهم ابتداء على غير مثال سبق، ومن أنشأ على غير مثال سبق قادر على الإعادة على المثال الذي بدأه.
والسبب في ذلك أنهم كفروا بربهم; ولذا قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5أولئك الذين كفروا بربهم الإشارة إليهم محملين بهذا العجب من إعادة الخلق جديدا ممن بدأه، وفي هذه الجملة السامية بيان سبب الإنكار وهو أنهم كفروا بربهم، كفروا بقدرته القاهرة، والتعبير بربهم في هذا المقام له سره العميق; لأنهم يكفرون بقدرته وهو الذي أنشأهم، ويربيهم، ويقوم على أمورهم، فكيف يعجز عن حال من أحوالهم.
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5وأولئك الأغلال في أعناقهم الإشارة إليهم على النحو الذي بيناه، والأغلال جمع غل وهو القيد الذي يرفع اليد إلى الأعناق، وذكرت الأعناق في الآية لتأكيد وجود الغل، وفي الكلام ما يفيد أن الأغلال معنوية; ذلك أنهم لسيطرة المادة عليهم كانوا كأنهم في أغلالها لا ينفصلون عن هذه الأغلال، فالكفر بالغيب أداهم إلى هذه الحال المثيرة للعجب من أمرهم، ففي الكلام استعارة، شبهت حالهم في استغراق المادة لنفوسهم بحال من وضع الغل في عنقه، فلا يتحرك إلا تحت سيطرة هذه الأغلال، و:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5أعناقهم ترشيح للاستعارة.
[ ص: 3900 ]
وهناك تخريج آخر، وهو أنهم يكونون في أغلال من حديد يساقون بها إلى جهنم، وقد أكد سبحانه وتعالى بعد ذلك أنهم أصحاب النار هم فيها خالدون.
فقال سبحانه وتعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون الإشارة لما ذكرنا إلى موضع العجب من أمورهم، وقد أكد خلودهم في النار بالتعبير عنهم بأنهم أصحاب النار، أي: الذين يلازمونها بالصحبة الدائمة المستمرة، وب (هم) التي تدل على التوكيد، وتدل أيضا على اختصاصهم بالدخول في النار والخلود فيها،، أنهم يبالغون في
nindex.php?page=treesubj&link=28760إنكار البعث، ولا تجديهم النذر، بل يستهزئون بالإنذار بعد الإنذار.
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=6ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب
السين والتاء للطلب، فهم يطلبون التعجيل بالسيئة قبل الحسنة، أي: أنهم عندما يسمعون البشير والنذير، يستعجلون العقوبات التي تكون في الإنذار بدل أن يعملوا الحسنات ويستعجلونها طالبين لها، وذلك من فساد الفكر وضلال النفي، وسيطرة العادة، والمبالغة في إنكار الحق، فإذا جاء إنذار بعذاب شديد إن استمروا في غيهم، وجنات النعيم والعزة في الدنيا إن استقاموا على الطريقة واهتدوا، لا يفكرون في فعل الخير يستعجلون به بل ينساقون في الإنكار ويستعجلون السيئة متهكمين، مهملين مستهترين، والسيئة هي ما يسوء في ذات نفسه، والحسنة ما يحسن في ذات نفسه، فهم يطلبون السيئ تحديا وتهكما واستهتارا، وكأنهم لا يعبئون.
ويفعلون ذلك، ويقولونه، مع أن العبر بين أيديهم شاهدة بصدق ما يخبرهم به ربهم! ولذا قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=6وقد خلت من قبلهم المثلات و: (خلت) معناها مضت
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=6من قبلهم المثلات والمثلات جمع (مثلة)، ك (سمرة)، أي: خلت العقوبات التي نزلت بالذين من قبلهم كما عتوا وتجبروا، وعاندوا رسلهم، كقوم
نوح، وقوم
هود، وقوم
صالح، وقوم
شعيب، وسميت مثلة; لأنها كانت عقوبة
[ ص: 3901 ] متماثلة لما ارتكبوا، ويصح أن تكون مشتقة من مثال بمعنى قصاص للتماثل بين الجريمة والعقوبة، وذلك أعدل وأردع.
وإنه سبحانه وتعالى مع عدله في أن تكون العقوبة على قدر الجريمة، وملاحظة التماثل بينهما من غير أي بخس لعمل ولا مجاوزة للعقاب يعفو عن كثير، ولذا قال تعالى بعد أن قرر أن المثلات قد مضت، أنه عندما يشتد سيل الشر ويتفاقم أمره ينزل العقاب، دفعا للشر ووقفا له حتى لا يعم الفساد، ويضل العباد، قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=6وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم أي: إن ربك لذو مغفرة، تلازمه المغفرة كما يلازم الصاحب صاحبه حال كونهم ظالمين لأنفسهم بالشر الذي ارتكبوه، ولكنه يقبل التوبة فالتوبة الغفران، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=3غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب فالظلم بمعنى ظلم النفس بارتكاب المعاصي وليست بمعنى الشرك، فإنه ظلم كما قال تعالى عن
لقمان: nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=13إن الشرك لظلم عظيم ولكنه هنا بما دون ذلك، لأن الله تعالى لا يغفر الشرك، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=48إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وكما أن الله سبحانه وتعالى صاحب المغفرة التي هي ستر الذنب، ولا يحاسب عليه إذا كانت دون الشرك، فهو أيضا شديد العقاب على المصرين على المعاصي الذين أحاطت بهم خطيئاتهم واستغرقت نفوسهم، ولذا قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=6وإن ربك لشديد العقاب أي: إن عقابه شديد لمن أصر على المعصية وتدرنت بها نفسه وأظلمت.
وقد أكد سبحانه وتعالى عقابه بالجملة الاسمية، وب (إن) التي للتوكيد، وباللام.
ويلاحظ أنه سبحانه وتعالى عبر بالرب في صحبة المغفرة، وشدة العقاب، وفي ذلك إشارة إلى أنه من مقتضيات الربوبية، فهو يهذب عبيده بالإنذار بشدة العقاب، وفتح باب التوبة من غير أن يقنط العصاة من رحمته، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=53قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا [ ص: 3902 ]
وقد ورد في معنى هذا النص السامي آيات كثيرة منها قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=49نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=50وأن عذابي هو العذاب الأليم ومنها قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=165إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم وقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=147فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين وهكذا النصوص القرآنية الدالة على أنه
nindex.php?page=treesubj&link=29694_29693لا يصح أن يطمع العاصي في عفو مطلق، ولا أن ييأس من رحمة الله تعالى، ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المعنى:
" لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل واحد " والله أعلم.
وإنهم مع قيام الدلائل على الوحدانية، وقيام المعجزة الكبرى، وهي القرآن يطلبون آيات أخرى وينكرون إعجاز القرآن مع قيام التحدي الشامخ وعجزهم عن أن يأتوا بمثله; ولذا قال الله تعالى لهم:
الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=30532_30538_30550_32016_34090_34513_28984nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=6وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَالِاسْتِعْجَالُ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَمَعْنَى النَّصِّ السَّامِي: وَإِنْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِكَ يَا
مُحَمَّدُ أَنَّ تَعْجَبَ مِنْ أَمْرٍ فَالْأَمْرُ الْجَدِيرُ بِالْعَجَبِ، أَوْ هُوَ أَجْدَرُ الْأُمُورِ بِالْعَجَبِ، فَهُوَ قَوْلُهُمْ
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَمَا إِنَّ هَذَا هُوَ وَحْدَهُ الْأَمْرُ الْحَقِيقُ بِالْعَجَبِ، وَنُكِّرَ
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ لِإِفَادَةِ عِظَمِ هَذَا الْعَجَبِ لِشِدَّةِ الْغَرَابَةِ فِيهِ.
وَالْعَجَبُ مُنْصَبٌّ عَلَى قَوْلِهِمْ
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ فَمَوْضُوعُ الْعَجَبِ هُوَ هَذَا الْقَوْلُ، لِأَنَّهُ غَرِيبٌ فِي ذَاتِهِ يُنَافِي كُلَّ مَعْقُولٍ، وَكُلَّ مَحْسُوسٍ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ فِي خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَخَلَقَ كُلَّ نَوْعٍ نَبَاتًا، وَأَشْجَارًا، وَيُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيَفْلِقُ الْحَبَّ وَالنَّوَى، فَيَجْعَلُ مِنْهُ زَرْعًا
[ ص: 3899 ] مُتَرَاكِبًا، وَنَخِيلًا وَجَنَّاتٍ، وَفَوْقَ ذَلِكَ هُمْ يُسَلِّمُونَ بِأَنَّهُ الَّذِي اِبْتَدَأَ خَلْقَهُمْ، وَالِابْتِدَاءُ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ أَشَدُّ مِنَ الْإِعَادَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=29كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ وَعَجَبُهُمُ الضَّالُّ هُوَ فِي أَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ يَصِيرُوا تُرَابًا يَعُودُونَ أَحْيَاءً.
وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، لِإِنْكَارِ الْوُقُوعِ مَعَ الْغَرَابَةِ مِنْ هَذَا الْوُقُوعِ، إِنْ كَانَ، وَكُرِّرَ الِاسْتِفْهَامُ
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَقَوْلُهُمْ:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْغَرَابَةِ هُوَ الْخَلْقُ الْجَدِيدُ بَعْدَ أَنْ يَصِيرُوا تُرَابًا، فَدَخَلَ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى الْحَالَيْنِ، وَالتَّعْبِيرُ بِـ ( خَلْقٍ جَدِيدٍ ) يَدُلُّ عَلَى مَوْضِعِ اِسْتِغْرَابِهِمْ، وَنَسُوا أَنَّ الَّذِي يَخْلُقُهُمْ خَلْقًا جَدِيدًا هُوَ الَّذِي أَنْشَأَهُمُ اِبْتِدَاءً عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، وَمَنْ أَنْشَأَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ عَلَى الْمِثَالِ الَّذِي بَدَأَهُ.
وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمْ مُحَمَّلِينَ بِهَذَا الْعَجَبِ مِنْ إِعَادَةِ الْخَلْقِ جَدِيدًا مِمَّنْ بَدَأَهُ، وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ السَّامِيَةِ بَيَانُ سَبَبِ الْإِنْكَارِ وَهُوَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، كَفَرُوا بِقُدْرَتِهِ الْقَاهِرَةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِرَبِّهِمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَهُ سِرُّهُ الْعَمِيقُ; لِأَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِقُدْرَتِهِ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَهُمْ، وَيُرَبِّيهِمْ، وَيَقُومُ عَلَى أُمُورِهِمْ، فَكَيْفَ يَعْجِزُ عَنْ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ.
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمْ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَاهُ، وَالْأَغْلَالُ جَمْعُ غُلٍّ وَهُوَ الْقَيْدُ الَّذِي يَرْفَعُ الْيَدَ إِلَى الْأَعْنَاقِ، وَذُكِرَتِ الْأَعْنَاقُ فِي الْآيَةِ لِتَأْكِيدِ وُجُودِ الْغُلِّ، وَفِي الْكَلَامِ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْأَغْلَالَ مَعْنَوِيَّةٌ; ذَلِكَ أَنَّهُمْ لِسَيْطَرَةِ الْمَادَّةِ عَلَيْهِمْ كَانُوا كَأَنَّهُمْ فِي أَغْلَالِهَا لَا يَنْفَصِلُونَ عَنْ هَذِهِ الْأَغْلَالِ، فَالْكُفْرُ بِالْغَيْبِ أَدَّاهُمْ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ الْمُثِيرَةِ لِلْعَجَبِ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَفِي الْكَلَامِ اِسْتِعَارَةٌ، شُبِّهَتْ حَالُهُمْ فِي اِسْتِغْرَاقِ الْمَادَّةِ لِنُفُوسِهِمْ بِحَالِ مَنْ وُضِعَ الْغُلُّ فِي عُنُقِهِ، فَلَا يَتَحَرَّكُ إِلَّا تَحْتَ سَيْطَرَةِ هَذِهِ الْأَغْلَالِ، وَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5أَعْنَاقِهِمْ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ.
[ ص: 3900 ]
وَهُنَاكَ تَخْرِيجٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي أَغْلَالٍ مِنْ حَدِيدٍ يُسَاقُونَ بِهَا إِلَى جَهَنَّمَ، وَقَدْ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ الْإِشَارَةُ لِمَا ذَكَرْنَا إِلَى مَوْضِعِ الْعَجَبِ مِنْ أُمُورِهِمْ، وَقَدْ أُكِّدَ خُلُودُهُمْ فِي النَّارِ بِالتَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، أَيِ: الَّذِينَ يُلَازِمُونَهَا بِالصُّحْبَةِ الدَّائِمَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ، وَبِ (هُمْ) الَّتِي تَدُلُّ عَلَى التَّوْكِيدِ، وَتَدُلُّ أَيْضًا عَلَى اِخْتِصَاصِهِمْ بِالدُّخُولِ فِي النَّارِ وَالْخُلُودِ فِيهَا،، أَنَّهُمْ يُبَالِغُونَ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28760إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَلَا تُجْدِيهِمُ النُّذُرُ، بَلْ يَسْتَهْزِئُونَ بِالْإِنْذَارِ بَعْدَ الْإِنْذَارِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=6وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ
السِّينُ وَالتَّاءُ لِلطَّلَبِ، فَهُمْ يَطْلُبُونَ التَّعْجِيلَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ، أَيْ: أَنَّهُمْ عِنْدَمَا يَسْمَعُونَ الْبَشِيرَ وَالنَّذِيرَ، يَسْتَعْجِلُونَ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْإِنْذَارِ بَدَلَ أَنْ يَعْمَلُوا الْحَسَنَاتِ وَيَسْتَعْجِلُونَهَا طَالِبِينَ لَهَا، وَذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الْفِكْرِ وَضَلَالِ النَّفْيِ، وَسَيْطَرَةِ الْعَادَةِ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي إِنْكَارِ الْحَقِّ، فَإِذَا جَاءَ إِنْذَارٌ بِعَذَابٍ شَدِيدٍ إِنِ اِسْتَمَرُّوا فِي غَيِّهِمْ، وَجَنَّاتُ النَّعِيمِ وَالْعِزَّةِ فِي الدُّنْيَا إِنِ اِسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ وَاهْتَدَوْا، لَا يُفَكِّرُونَ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ بَلْ يَنْسَاقُونَ فِي الْإِنْكَارِ وَيَسْتَعْجِلُونَ السَّيِّئَةَ مُتَهَكِّمِينَ، مُهْمِلِينَ مُسْتَهْتِرِينَ، وَالسَّيِّئَةُ هِيَ مَا يَسُوءُ فِي ذَاتِ نَفْسِهِ، وَالْحَسَنَةُ مَا يَحْسُنُ فِي ذَاتِ نَفْسِهِ، فَهُمْ يَطْلُبُونَ السَّيِّئَ تَحَدِّيًا وَتَهَكُّمًا وَاسْتِهْتَارًا، وَكَأَنَّهُمْ لَا يَعْبَئُونَ.
وَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَيَقُولُونَهُ، مَعَ أَنَّ الْعِبَرَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَاهِدَةٌ بِصِدْقِ مَا يُخْبِرُهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ! وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=6وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَ: (خَلَتْ) مَعْنَاهَا مَضَتْ
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=6مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَالْمَثُلَاتُ جَمْعُ (مَثُلَةٍ)، كَ (سَمُرَةٍ)، أَيْ: خَلَتِ الْعُقُوبَاتُ الَّتِي نَزَلَتْ بِاَلَّذِينِ مِنْ قَبْلِهِمْ كَمَا عَتَوْا وَتَجَبَّرُوا، وَعَانَدُوا رُسُلَهُمْ، كَقَوْمِ
نُوحٍ، وَقَوْمِ
هُودٍ، وَقَوْمِ
صَالِحٍ، وَقَوْمِ
شُعَيْبٍ، وَسُمِّيَتْ مَثُلَةً; لِأَنَّهَا كَانَتْ عُقُوبَةً
[ ص: 3901 ] مُتَمَاثِلَةً لِمَا اِرْتَكَبُوا، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ مِثَالٍ بِمَعْنَى قِصَاصٍ لِلتَّمَاثُلِ بَيْنَ الْجَرِيمَةِ وَالْعُقُوبَةِ، وَذَلِكَ أَعْدَلُ وَأَرْدَعُ.
وَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ عَدْلِهِ فِي أَنْ تَكُونَ الْعُقُوبَةُ عَلَى قَدْرِ الْجَرِيمَةِ، وَمُلَاحَظَةُ التَّمَاثُلِ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ أَيِّ بَخْسٍ لِعَمَلٍ وَلَا مُجَاوَزَةٍ لِلْعِقَابِ يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ أَنَّ الْمَثُلَاتِ قَدْ مَضَتْ، أَنَّهُ عِنْدَمَا يَشْتَدُّ سَيْلُ الشَّرِّ وَيَتَفَاقَمُ أَمْرُهُ يَنْزِلُ الْعِقَابُ، دَفْعًا لِلشَّرِّ وَوَقْفًا لَهُ حَتَّى لَا يَعُمُّ الْفَسَادُ، وَيَضِلُّ الْعِبَادُ، قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=6وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ أَيْ: إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ، تُلَازِمُهُ الْمَغْفِرَةُ كَمَا يُلَازِمُ الصَّاحِبُ صَاحِبَهُ حَالَ كَوْنِهِمْ ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالشَّرِّ الَّذِي اِرْتَكَبُوهُ، وَلَكِنَّهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ فَالتَّوْبَةُ الْغُفْرَانُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=3غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ فَالظُّلْمُ بِمَعْنَى ظُلْمِ النَّفْسِ بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَلَيْسَتْ بِمَعْنَى الشِّرْكِ، فَإِنَّهُ ظُلْمٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ
لُقْمَانَ: nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=13إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَلَكِنَّهُ هُنَا بِمَا دُونَ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=48إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صَاحِبُ الْمَغْفِرَةِ الَّتِي هِيَ سَتْرُ الذَّنْبِ، وَلَا يُحَاسِبُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَتْ دُونَ الشِّرْكِ، فَهُوَ أَيْضًا شَدِيدُ الْعِقَابِ عَلَى الْمُصِرِّينَ عَلَى الْمَعَاصِي الَّذِينَ أَحَاطَتْ بِهِمْ خَطِيئَاتُهُمْ وَاسْتَغْرَقَتْ نُفُوسَهُمْ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=6وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ أَيْ: إِنَّ عِقَابَهُ شَدِيدٌ لِمَنْ أَصَرَّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَتَدَرَّنَتْ بِهَا نَفْسُهُ وَأَظْلَمَتْ.
وَقَدْ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِقَابَهُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَبِ (إِنَّ) الَّتِي لِلتَّوْكِيدِ، وَبِاللَّامِ.
وَيُلَاحَظُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَبَّرَ بِالرَّبِّ فِي صُحْبَةِ الْمَغْفِرَةِ، وَشِدَّةِ الْعِقَابِ، وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَهُوَ يُهَذِّبُ عَبِيدَهُ بِالْإِنْذَارِ بِشِدَّةِ الْعِقَابِ، وَفَتْحِ بَابِ التَّوْبَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْنَطَ الْعُصَاةُ مِنْ رَحِمْتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=53قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [ ص: 3902 ]
وَقَدْ وَرَدَ فِي مَعْنَى هَذَا النَّصِّ السَّامِي آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=49نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=50وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=165إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=147فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ وَهَكَذَا النُّصُوصُ الْقُرْآنِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=29694_29693لَا يَصِحُّ أَنْ يَطْمَعَ الْعَاصِي فِي عَفْوٍ مُطْلَقٍ، وَلَا أَنْ يَيْأَسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْمَعْنَى:
" لَوْلَا عَفْوُ اللَّهِ وَتَجَاوُزُهُ مَا هَنَأَ أَحَدًا الْعَيْشُ، وَلَوْلَا وَعِيدُهُ وَعِقَابُهُ لَاتَّكَلَ كُلُّ وَاحِدٍ " وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنَّهُمْ مَعَ قِيَامِ الدَّلَائِلِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، وَقِيَامِ الْمُعْجِزَةِ الْكُبْرَى، وَهِيَ الْقُرْآنُ يَطْلُبُونَ آيَاتٍ أُخْرَى وَيُنْكِرُونَ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ مَعَ قِيَامِ التَّحَدِّي الشَّامِخِ وَعَجْزِهِمْ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ; وَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ: