* * * [ ص: 930 ] اقتتل الذين جاءوا بعد النبيين كما بينت الآية السابقة ، واختلفوا في تلك الحقيقة المقررة الثابتة التي دعا إليها النبيون منذ أول مبعوث رحمة للعالمين ; ولقد ناسب أن يبين سبحانه بعد ذكر الخلاف ثم القتال ما جعله المشركون موضع خلاف ، وهو في حقيقة الأمر فوق كل خلاف إن استقامت العقول ، وسلمت الفطرة ، ولم يدس النفس في الشر نازغ الشيطان ، ويضل ابن آدم حتى يطمس في قلبه نور البرهان .
ولذلك قال سبحانه : الله لا إله إلا هو الحي القيوم وهذه الآية الكريمة تذكر صفات الله تعالى وسلطانه وكمال وجوده ، وفيضه بنعمة الوجود على كل شيء في الوجود . ولقد ذكر العلماء أنها تشتمل على حقيقتين مقررتين تؤكدان معنى الوحدانية ، وتربيان المهابة الإلهية في قلب كل مؤمن صافي السريرة قد خلا قلبه من كل رين الشرك ; ومن مظاهر العبودية لغير الله سبحانه وتعالى :
الحقيقة الأولى : أنها تشتمل على عشر جمل ، كل جملة منها تشتمل على وصف أو وصفين فيه بيان كمال الله العلي الأعلى ، وسلطانه الشامل الكامل ، وألوهيته الحق المستقرة في ثنايا كل نفس إلا من ختم الله على قلبه .
الحقيقة الثانية : أنها أكثر آي الكتاب الكريم ذكرا لله رب العالمين . ولقد ذكر بعض العلماء أن الله العلي العليم ذكر فيها بالاسم الظاهر أو الضمير أكثر من سبع عشرة مرة ، وقد أحصاها عدا .
ولاشتمال تلك الآية الكريمة على ذكر الاسم المقدس ، وتنزيهه سبحانه وكمال سلطانه ، وامتيازها بتكرار ذكر الله - ذكر كثير من العلماء أنها ، واستندوا في ذلك إلى أخبار صحاح وردت في صحاح السنة ، من أقوال النبي الأمين . والقرآن كله فوق قدرة العقل البشري ، وهو في ذاته أعظم كتاب نزل من [ ص: 931 ] رب العالمين ، لأنه كتاب الحقيقة من بدء الخليقة ، ولا نرى ما يمنع أن تتفاوت آياته في العظم ، وإن كان أصل العظم التسامي عن قدرة البشر محققا مؤكدا فيه كله ، وفي كل آية بخصوصها . أعظم آية في كتاب الله
الله لا إله إلا هو تلك هي الجملة السامية الأولى من الجمل العشر التي اشتملت عليها الآية الكريمة ، ولفظ الجلالة " الله " قال العلماء : إن أصله : إله ، دخلت عليه أداة التعريف " أل " وحذفت الهمزة فصارت : الله . وهي بهذا المعنى تفيد التعريف بأنه وحده هو الإله ، فهي تتضمن معنى الألوهية المنفردة ، دلت على ذلك " أل " التي تفيد التعريف ، فمعنى كلمة الله : الإله المنفرد بالألوهية التي لا يشاركه فيها سواه ، وعلى ذلك تكون كلمة الله تفيد معنى استحقاق العبادة ، ومعنى الوحدانية ، ومعنى الكمال كله ، لأنه المنفرد بذلك كله ، فإذا أطلق اللفظ انصرف إليه ، ولم يفهم منه سواه ، تعالى سبحانه عن الشبيه والمثيل ، والمقارب والنظير .
وإن ذلك المعنى المفهوم من لفظ الجلالة وأصل اشتقاقه قد صرح به في هذه الآية الكريمة ، فقد قال سبحانه : لا إله إلا هو فهو تصريح بما فهم ضمنا مما قبله ، فاجتمعت في الدلالة على الوحدانية الدلالتان : الدلالة التضمنية ، والدلالة اللفظية ، أو الدلالة بالإشارة ، والدلالة بالعبارة ، فكان في ذلك تأكيد فضل تأكيد لمعنى الوحدانية في الألوهية . ومعنى قوله تعالى : لا إله إلا هو لا معبود بحق إلا هو ، وهذا هو المعنى الذي اختاره جمهور المفسرين ، وهو واضح ، وفيه إشارة إلى وقائع الأمور ، ذلك لأن بعض الناس عبدوا غير الله تعالى ، فعبد بعضهم الشمس والكواكب ، وعبد بعضهم النار ، وعبد بعضهم الأوثان ، واعتبروا كل هذه آلهة ، فكانت عبادتهم باطلة وبغير حق إنما المعبود حقا ، والمستحق للعبادة صدقا هو الله سبحانه وتعالى ، وهو العليم الحكيم ، العلي القدير .
ولقد سلك بعض العلماء مسلكا آخر في تفسير قوله تعالى : لا إله إلا هو فذكر أن معنى الألوهية هو تسخير الكون كله لقوة القادر الغالب على كل شيء ، وتعلق الخلق كله بخالقه ، واتصاله به اتصال إنشاء وتكوين ، ثم اتصال تدبير [ ص: 932 ] وتنظيم ، ثم اتصال خضوع وسيطرة كاملة ، وتعلق به سبحانه وعلى هذا يكون المعنى : لا منشئ ولا خالق ولا مسخر ولا مسيطر على الوجود إلا رب الوجود وهو الله سبحانه وتعالى ، ولا خضوع إلا لقدرته ، ولا تتعلق الأشياء إلا بذاته سبحانه وتعالى ; وإذا كان كذلك فإنه لا مستحق للعبادة سواه ، وبذلك يجيء المعنى الأول نتيجة لهذا المعنى وثمرة له ، وهما بهذا متلاقيان .
وفي الحق أن أصل اشتقاق كلمة " إله " يتضمن معاني الخلق ، والعبادة ، والمحبة ، والضراعة إليه سبحانه . ولننقل عبارة الأصفهاني في أصل اشتقاقها ، فإنها في هذا شاملة كاشفة ، فقد قال :
" وإله جعلوه اسما لكل معبود لهم ، وسموا الشمس إلها ، لاتخاذهم إياها معبودا ، وأله فلان يأله عبد ، وقيل تأله ، فالإله على هذا المعنى هو المعبود ، وقيل هو من أله أي تحير . . وذلك أن العبد إذا تفكر في صفاته تحير فيها ، ولذا قيل : تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله . وقيل أصل إله ولاه ، فأبدل من الواو همزة ، وتسميته بذلك لكون كل مخلوق والها نحوه ، إما بالتسخير فقط كالجمادات والحيوانات ، وإما بالتسخير والإرادة معا كبعض الناس . ومن هذا الوجه قال بعض الحكماء : الله محبوب الأشياء كلها . ودل عليه قوله تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم
الحي القيوم هذا خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو الحي القيوم . والحي هو ذو الحياة الكاملة ، له جلت قدرته ، مظهرها العلم والإرادة والقدرة ، والخلق والتكوين ! فإنه وإن اشترط لفظ الحياة بين الباقي والفاني ، فمعناه في الفاني لا يليق بذاته ، ومعناه في الباقي سبحانه وتعالى يليق بذاته العلية والحياة الكاملة مظهرها الشعور والإدراك والعلم ، وهي كمال الوجود في المحسوسات والمخلوقات ، ولكنها بالنسبة لله سبحانه وتعالى صفة كمال ليس كمثله شيء
والحياة على هذا صفة كمال قد وصف الله سبحانه وتعالى بها ذاته الكريمة ، والعقل يوجب اتصافه سبحانه بها ، لأنها من كمال الوجود ، والله سبحانه وتعالى [ ص: 933 ] هو وحده كامل الوجود ، وفوق كل موجود . وقد ذكر الأستاذ الشيخ محمد عبده بيان وجه الكمال في صفة الحياة له سبحانه ، فقال في رسالة التوحيد :
" إذ وجب أن يكون له سبحانه صفة الحياة ، وهي صفة تستتبع العلم والإرادة ; وذلك أن الحياة مما يعتبر كمالا ، للوجود بداهة ; فإن الحياة مع ما يتبعها مصدر النظام وناموس الحكمة ، وهي في أي مراتبها مبدأ الظهور والاستقرار ، فهي كمال وجودي ، ويمكن أن يتصف بها الواجب ، وكل كمال وجودي يمكن أن يتصف به وجب أن يثبت له ، فواجب الوجود حي ، وإن باينت حياته حياة الممكنات ، فإن ما هو كمال للوجود إنما هو مبدأ العلم والإرادة ، ولو لم تثبت له هذه الصفة لكان في الممكنات ما هو أكمل منه وجودا . . والواجب هو واهب الوجود وما يتبعه فكيف يكون فاقدا للحياة ويعطيها ؟ " .
وإذا كان الله سبحانه وتعالى حيا ذا إرادة كاملة ، وعلم شامل ، وقدرة قاهرة ، فإن الكون نشأ بإرادته ، وقام بسلطانه ، وهو فوقه والمسيطر عليه ، ولم ينشأ عنه سبحانه كما ينشأ المعلول عن علته ، كما قال بعض الفلاسفة قديما ، وكما يزعم بعض الماديين حديثا ، ممن ينكرون القوة الغيبية المسيطرة القادرة المريدة .
و القيوم معناه القائم بنفسه الذي لا يقوم بغيره ، فلا يحل في شخص ولا في شيء ; والقائم على كل شيء بالتدبير والحياطة والكلاءة من يكلؤكم بالليل والنهار والقائم على كل نفس يحصي عليها ما كسبت وما اكتسبت ، والقائم الدائم الذي لا يفنى ولا يزول .
ويظهر أن كلمة قيوم بهذا المعنى كانت معروفة عند العرب وصفا لله سبحانه وتعالى ; فقد قال أمية بن أبي الصلت :
لم تخلق السماء والنجوم والشمس معها قمر يقوم قدره مهيمن قيوم
والحشر والجنة والنعيم إلا لأمر شأنه عظيم
[ ص: 934 ] وأصل اشتقاق قيوم من قام يقوم قياما ، ووزن قيوم فيعول ، أصلها قيووم ، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء .
لا تأخذه سنة ولا نوم هذا وصف سلبي يؤكد الوصف الإيجابي السابق ; فإن قيامه سبحانه وتعالى على الكون وكلاءته له يقتضي ألا تأخذه سنة ولا نوم ، لأن الحركة المستمرة للعالم ، والبنيان الذي ارتبطت به أجزاؤه يقتضيان ألا تعرض غفلة للقائم عليه : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ولأن السنة والنوم من أعراض الجسم الحيواني ، سواء أكان ناطقا أم كان غير ناطق ، والله سبحانه وتعالى منزه عن مشابهة الحوادث ، وليس سبحانه وتعالى جسما ، وليست له أعراض أي جسم . والسنة هي النعاس ، وهو ما يسبق النوم من فتور ، وقيل إن السنة أسبق من النعاس ، وذلك أنه تحدث ثلاث مراتب عند وجود أسباب النوم : أن يحس الشخص بفتور ويبتدئ يفقد سيطرته على أعضائه ، ثم يجيء النعاس ، فتتراخى العين ، وتبتدئ الأعضاء كلها في التراخي ، ثم يحصل النوم ، وبه يفقد الشخص وعيه ، ولذا قال المفضل : " السنة ، من الرأس ، والنعاس في العين ، والنوم في القلب " والسنة أصلها وسنة ، حذفت الواو ثم كسرت السين ليمكن الابتداء بها ، ففعلها وسن . وقد قال عدي بن الرقاع :
وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بنائم
ولقد كان مقتضى النسق أن ينفي عنه سبحانه النوم ، ثم ينفي السنة ، لأن نفي النوم لا يقتضي نفي السنة ، وعلى العكس نفي السنة يقتضي نفي النوم .
ولكن عدل عن ذلك ، بنفي السنة ثم نفى النوم لمعنى بلاغي ، ذلك أن الترتيب الطبيعي لهذه الحقائق في الوجود أن السنة تسبق النوم ، وإن ذلك الترتيب الطبيعي يعطي للقارئ صورة حية للتالي لكتاب الله تعالى ، إذ يتصور الذين يعرض لهم النوم كيف يبتدئ بالسنة ثم النعاس ثم النوم ، وإذا تصور ذلك المنظر الطبيعي تصور معه الضعف الإنساني أمام سلطان النوم بمقدماته ، وإذا تصور ذلك تبينت له استحالة [ ص: 935 ] ذلك على الله سبحانه وتعالى القوي القادر القاهر لكل شيء ، فكان ذلك الترتيب الطبيعي فيه إشارة إلى دليل مانع من أن يوصف المولى العلي القدير بهما .
وفي التعبير بقوله سبحانه : لا تأخذه سنة ولا نوم إشارة أخرى إلى استحالة قيامهما بالذات العلية فقوله : لا تأخذه فيها دلالة على القوة القاهرة للنوم ، وأنها تأخذ الحي أخذا ، وتقهره قهرا ، وذلك مستحيل أن يكون للقاهر فوق عباده .
والنوم معروف ، وهو حقيقة ترى ، كما يرى الضوء ، وكما تحس الحرارة ، ولكن ما سببه ; وقد اتفق المتقدمون والمتأخرون على أن سببه التعب الجسمي ، وإن كانت عباراتهم مختلفة في تأثير التعب على الجسم حتى يكون منه النوم ، فيقول البيضاوي في تفسيره : " النوم حال يعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة ، بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا " .
وقال علماء العصر : ( إن النوم وقوف سلطان المخ على الأعضاء بسبب ما تولده الحركة من السموم الغازية المؤثرة في العصب ) . وقيل بسبب ما تفرزه الحويصلات العصبية من الماء الكثير وقت العمل ، فكثرة هذا الماء تضعف قوة تأثير المخ في العضلات ، فيحدث الفتور ، فيكون النوم ، ويستمر ذلك إلى أن يتبخر ذلك الماء ، وعند ذلك تتنبه الأعصاب ويرجع إليها تأثرها وإدراكها " .
له ما في السماوات وما في الأرض في هذه الجملة السامية إثبات كمال سلطانه سبحانه ، وتمام سيطرته على الكون ; لأنه ملكه ، ولا مالك فيه غيره . وذكر السماوات بالجمع ، للإشارة إلى ملكية كل دقائقها ، وكل نواميسها وسننها ، فهو الذي يغير فيها ويبدل ، وهو الذي أوجدها على ذلك النسق البديع المحكم الذي ربط أجزاءها بأواصر قوية . وكان إفراد الأرض مع جمع السماوات للإشارة إلى وحدتها في الجملة بالنسبة لعالم السماوات ، وإن كانت الأرض طبقات ; وللإشارة إلى أن ما في الأرض ليس إلا مظهرا من حركات السماء ، وأن الأرض شيء صغير بجوار السماوات وما فيها .
[ ص: 936 ] والجملة السامية تفيد الملكية المطلقة لرب العالمين ، فيملك ما فيها من حي وجماد ، ومن ناطقين وغير ناطقين ، والجميع في قبضة العليم الخبير .
وتقديم الجار والمجرور وهو " له " لإفادة القصر ، أي ملك السماوات والأرض له سبحانه ، فليس لأحد سواه ، فهو المنفرد بالسلطان فيها ، والملكية لها ; فهذا القصر يدل على الوحدانية في الخلق والتكوين ، كما يدل قوله تعالى : لا إله إلا هو على الوحدانية في العبادة .
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه الاستفهام في هذه الآية إنكاري : لمعنى النفي ، أي لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه ، وسيق النفي بطريق الاستفهام للإشارة إلى استحالة ذلك كأنه قد سئل وبحث عن نظير تكون له قدرة الخالق الباري حتى يكون شفيعا عنده قريبا منه يؤثر في إرادته ، فلم يوجد ، لأن ذلك مستحيل استحالة مطلقة .
والشفيع يكون : لمعنى النصير للمشفوع لأجله ، المعاضد له ، ويكون في مرتبة المشفوع عنده أو قريبا منه ; لأنه يؤثر في إرادته ، ويحوله من نظر إلى نظر ، وله معه أو عنده سلطان أو شركة في أمره ; وإن ذلك مستحيل على الله سبحانه وتعالى ، فلا نظير له سبحانه ; إنه القادر فعال لما يريد ، فلا إرادة لأحد بجوار إرادته سبحانه ، إنما الإرادة له وحده ; ولذلك كان أكثر العلماء على أن هذه الجملة السامية سيقت لبيان عموم سلطانه ، وأنه قد انفرد بالتدبير ، فلا إرادة لأحد في سلطانه غير إرادته .
ولقد قال البيضاوي ، وهو من أئمة أهل السنة ، في تفسير قوله تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " بيان لكبرياء شأنه ، وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه ، يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة واستكانة ، فضلا عن أن يعاوقه عنادا أو مناصبة أي مخاصمة " .
وإنه من كمال سلطانه وشمول إرادته أنه لا إرادة لأحد إلا مشتقة من إرادته ; ولذا كان الاستثناء في قوله تعالى : إلا بإذنه أي أنه لا يكون لأحد إرادة إلا إذا كانت مستمدة من إذنه ; فهو المسيطر على كل شيء ، يعطي من يشاء ويمنع من [ ص: 937 ] يشاء ، ويأذن لمن يشاء ، ويعطي لمن يشاء إرادة في سلطان إرادته ، هو المنفرد بالأمر والتدبير .
وأصل كلمة الشفاعة من الشفع بمعنى الضم ، ولقد وضحها الأصفهاني في غريب القرآن ، فقال :
" الشفع ضم الشيء إلى مثله . . والشفاعة الانضمام إلى آخر مناصرا له وسائلا عنه ; وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو أدنى ، ومنه ; قال تعالى : الشفاعة في القيامة لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا وقال تعالى : لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن " .
وترى أن هذه الآية الكريمة على تخريج كثير من المفسرين لا صلة لها بالشفاعة يوم القيامة ، التي هي موضع خلاف فينفيها المعتزلة ، ويؤولون الآية الواردة بها بأنها معلقة على الإذن ، ولم يثبت تحقق ذلك الإذن بدليل قطعي ، وما ورد من الأحاديث المثبتة للشفاعة المفصلة لما يجري فيها يوم القيامة من شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إنما هي أحاديث آحاد ، وأحاديث الآحاد لا تثبت بها العقائد ، والإيمان بالشفاعة يوم القيامة لا يسوغ أن يثبت إلا بدليل قطعي لا شبهة فيه .
والجمهور على إثبات ، تكريما له عليه الصلاة والسلام ، ورحمة بالناس ، وعفوا من الله العلي القدير ، والأحاديث الواردة في هذا الباب صحيحة كثيرة ، قد أثبتت في الصحاح من كتب السنة ، فلا يصح أن ينكرها أحد ، وإن لم تبلغ في قوة الاستدلال بها مبلغ الدليل القطعي الذي لا شبهة فيه ، ولا يدخله الاحتمال قط . شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - بإذن ربه
ولقد قرر وهو من الزمخشري المعتزلة أن هذه الجملة السامية لا تثبتها ، وقال في ذلك : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه بيان لملكوته وكبريائه ، وأن أحدا لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام ، كقوله تعالى : لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن
[ ص: 938 ] يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم هذه الجملة تأكيد لنفي الشفاعة وتأكيد لكمال سلطان الله سبحانه وتعالى في هذا الوجود . والضمير في أيديهم وخلفهم يعود إلى ما في السماوات وما في الأرض ; وعبر بضمير الذكور العقلاء تغليبا لجانب العقلاء في السماوات والأرض من ملائكة أطهار وأناسي سواء أكانوا أشرارا أم كانوا أبرارا ; وما بين أيديهم هو ما يعلمونه من شئون سابقة أو حاضرة ، وما وقع منهم مما يوجب الحساب والجزاء من ثواب أو عقاب . وعبر عن هذا بما بين أيديهم ; لأنه حاضر يستطيعون أن يعرفوه ; ولا عجب في أن يعرف الإنسان ما وقع في الماضي ; فهو من حيث التمكن من معرفته كالشيء الذي يكون بين يدي الإنسان من حيث إنه يكون محضرا مهيئا ، وكذلك يكون مما بين يدي الإنسان المحسوسات والمعلومات التجريبية التي يمكن الإنسان بعقله أن يدركها . وأما ما خلفهم فهو ما يكون علمه مغيبا عنهم ، إما لأنه في ذاته خفي لا يدرك كنهه ، ولا تعلم حقيقته ; وليس في طاقة العقل البشري - من غير استعانة بالنقل - معرفته ; وإما لأنه أمور ستقع في المستقبل قد غيب عن البشر العلم بها ، ومنه ما يكون يوم القيامة ، أو اختص بها عالم الغيب في السماوات وفي الأرض ، وعبر عن ذلك النوع من العلم بأنه خلفهم لأنه يخلفهم في زمانه ، ولأنه مستقبل وليس من مستدبر الماضي .
وإن العلم بالماضي والحاضر والمستقبل - وما وقع وما لا يقع ينفي الشفاعة بمعنى أن يستنزل الشفيع المشفوع عنده عما اعتزم وأراد ; لأن ذلك يقتضي ألا يكون عالما بما مضى أو بما يكون ، إذ الشفيع ينبه المشفوع عنده بما غاب عنه من أمر ، وذلك لا يليق في حق العليم الخبير ، وهو ينافي علمه بالماضي والقابل وما يقع في الحس ، وما يكون في الغيب ; ولذلك أجمع علماء المسلمين على نفي الشفاعة بهذا المعنى ، إذ أهل السنة هي الشفاعة لمن ارتضى ، والتي قدر الله سبحانه وتعالى إجابتها تكريما للشافع ، ورحمة بالمشفوع لأجله . الشفاعة التي قررها جمهور
ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء هذه الجملة السامية بيان لنقصان علم المخلوق بجوار علم الخالق ، والعلم المراد به المعلوم ، أي لا يحيطون بشيء من [ ص: 939 ] المعلومات التي يعلمها الله سبحانه وتعالى . والإحاطة معناها هي العلم الكامل بالأمر فيدركه العقل إدراكا ويستولي عليه استيلاء ، كما تحيط الدائرة بكل أقطارها وما في داخلها . وهذه الجملة السامية تدل على نقص العلم البشري من ناحيتين : أولاهما : ، كما قال تعالى : أن أحدا من البشر لا يستطيع أن يعلم كل شيء ، بل إن ما يجهل أضعاف كثيرة مما يعلم وما أوتيتم من العلم إلا قليلا
الثانية : أن ، وهذا ما قرره سبحانه في قوله تعالى : الجزء الذي يعلمه البشر من الأشياء علمه فيه ناقص كل النقص ولا يحيطون بشيء من علمه أي أنهم لا يعلمون شيئا واحدا علم إحاطة واستغراق لكل ما يشتمل عليه ، وعلم الإحاطة هو العلم الكامل . ولقد فسره الأصفهاني بقوله " الإحاطة بالشيء علما هي أن تعلم وجوده ، وجنسه ، وكيفيته ، وغرضه المقصود به وبإيجاده وما يكون به ومنه ، وذلك ليس إلا لله تعالى " .
وعلم الإنسان لا يكون إلا بالقدر الذي يشاؤه الله سبحانه وتعالى ، ولذلك كان الاستثناء في قوله سبحانه : إلا بما شاء إذ إنه إذا كان علم الإحاطة الكامل لشيء لا يمكن أن يكون إلا لله العليم الخبير ، فالله سبحانه يعطي البشر من العلم ببعض الأشياء بالقدر الذي يريده سبحانه ويقدره ، وقد خلق البشر على استعداد له .
وسع كرسيه السماوات والأرض الكرسي في تعارف الناس ما يقعد عليه ، وهو منسوب إلى الكرس بمعنى المجتمع ، ومنه الكراسة للمتجمع من الأوراق ويقال كرس الرجل كثر علمه .
والعلماء في هنا على وجهين : تفسير معنى الكرسي
أحدهما : أن لله سبحانه وتعالى كرسيا وعلينا أن نؤمن بوجوده وإن كنا لا ندرك كنهه ولا نعرف حقيقته ، إذ ليس ذلك في مقدور العقل البشري ، ومن هؤلاء العلماء من قال : إن الكرسي هو العرش ، وقد قبله احتمالا للآية ; [ ص: 940 ] وروى في ذلك قول الزمخشري : " الكرسي هو العرش " وقد اختار ذلك الوجه جمهور المفسرين . الحسن البصري
الوجه الثاني : أن الكرسي في الآية كناية عن عظم السلطان ونفوذ القدرة وشمول الإرادة ، فهو كقول بعض الناس : شمل كرسي الملك الفلاني ربع أقطار الأرض والمراد نفوذ سلطانه ، وعظم دولته .
أو يكون الكرسي كناية عن عظم العلم وشموله واتساعه . وتفسيره بعظم السلطان يتناسب مع قوله تعالى بعد ذلك : ولا يئوده حفظهما وتفسيره بمعنى شمول العلم يتناسب مع قوله سبحانه قبل ذلك : ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ولذلك يصح أن نقول إن قوله تعالى : وسع كرسيه السماوات والأرض كناية عن عظيم قدرته ونفوذ إرادته ، وواسع علمه ، وكمال إحاطته .
وإن ذلك الوجه قد ورد عن السلف ، كما ورد الوجه الأول عن السلف ; فقد روي عن - رضي الله عنهما - أنه قال : " كرسيه علمه " وروي مثل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه ، وقد اختار ذلك المفسر السلفي ابن مسعود . ابن جرير الطبري
وقد لخص الآراء ووجهها توجيها جيدا في تفسيره ، فقال : " وفي قوله وسع كرسيه أربعة أوجه : الزمخشري
أحدها : أن كرسيه لم يضق عن السماوات والأرض لبسطته وسعته ، وما هو إلا تصوير لعظمته ، ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد كقوله تعالى : وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه من غير تصور قبضة وطي ويمين ، وإنما هو تصوير لعظمة شأنه وتمثيل حسي .
والثاني : وسع علمه ، وسمي العلم كرسيا تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم .
والثالث : وسع ملكه ، تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك .
[ ص: 941 ] والرابع : أنه خلق كرسيا هو بين يدي العرش ، دونه السماوات والأرض ، وهو إلى العرش كأصغر شيء . وعن الحسن ( الكرسي هو العرش ) .
وعندي أن أجود هذه الوجوه هو أن يكون كناية عن سعة الملك وسعة العلم ، وهو المناسب لنسق الآية الكريمة ، وهو تفسير ترجمان القرآن . عبد الله بن عباس
ولا يئوده حفظهما هذا وصف يدل على ، ومعنى كمال قدرته ، وعظيم حياطة خلقه ولا يئوده حفظهما لا يثقله ولا يتعبه حفظ السماوات والأرض وكلاءتهما ، لأن ذاته العلية منزهة عن التعب ، إذ هو من صفات الأجسام الحيوانية ، . والله سبحانه وتعالى منزه عن مشابهة الحوادث
وأصل آد من الأود بمعنى العوج ، فآده يؤوده بمعنى عوجه بثقله وعبئه . وإن ذلك النص الكريم يدل على أن كل شيء في الكون في حفظ الله وحياطته ; فالسماء بأفلاكها وطبقاتها وكواكبها ، وكل ما فيها يسير على نظام محكم محفوظ بعناية بديع السماوات والأرض ، والأرض وما عليها ومن عليها ، وما فيها ظاهرا وباطنا ، كل ذلك في حفظ الله خاضع لقوانينه التي سنها في خلقه ، ولا شيء يكون فيها أو منها إلا بإرادته سبحانه وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال
وهو العلي العظيم هذان هما الوصفان الشاملان لكل الأوصاف السابقة ; فالله سبحانه هو العلي : علا بصفاته وذاته عن مشابهة المخلوقات ، وعلا أيضا على خلقه بمعنى سيطر عليهم ، وسيرهم ، فالعلو يشمل معنيين :
أولهما : علو المنزلة والقدر ، وذلك متحقق بتنزهه سبحانه عن مشابهة المخلوقين وأنه فوق كل موجود .
وثانيهما : علو السلطان ; والقدرة - والقهر - ومن هذا الباب لغة ( لا معنى لأنه يناسب المقام هنا ) قوله تعالى : إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا والله سبحانه غالب على كل شيء ، قاهر كل شيء ، وهو فوق عباده . هذا هو الوصف الأول . أما الوصف الثاني فهو عظم الذات العلية وصفاتها ، [ ص: 942 ] فذاته العلية جلت عن المشابهة ، وهو الخالق القاهر القادر ، وهو وحده الإله المعبود بحق ، وهو الذي يسبح كل شيء في الوجود بحمده ، فهو العظيم وحده ، والمعبود حقا وحده ، المعظم وحده . وإذا كانت غواشي الحياة قد أضلت الأكثرين فلم يدروا عظمته في الفانية ، فستتجلى لهم عظمة ذي الجلال في الباقية ، وهم من خشيته مشفقون يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما
أما بعد ، فهذه ، كما ورد في بعض الآثار المثبتة في الصحاح ; وإنها لتدل على وحدانية الله تعالى بكل شعبها ; ذلك بأن الوحدانية لها شعب ثلاث : وحدانية الألوهية ، وقد دلت عليها بقوله تعالى : آية الكرسي ، أعظم آية في كتاب الله الله لا إله إلا هو ووحدانية الخلق والتكوين فلا خالق مع الله تعالى ، ولا إرادة تمنع إرادته ، وقد دل على ذلك بأكثر ما في الآية الكريمة كقوله سبحانه : الحي القيوم وقوله تعالى : له ما في السماوات وما في الأرض والشعبة الثالثة وحدانية الذات والصفات ، بمعنى أنه لا يشبهه شيء أو أحد من خلقه : ليس كمثله شيء وقد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله تعالى : لا تأخذه سنة ولا نوم وبقوله تعالى : وهو العلي العظيم تعالى الله رب العالمين علوا كبيرا ; تولانا سبحانه بعنايته وتوفيقه وهدايته .
* * *