بعث الرسل بالتوحيد والبعث
قال الله تعالى:
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون
[ ص: 4175 ] بعد أن أشار سبحانه إلى أن على الرسل البلاغ المبين الواضح بأدلته، وآيات الله المقترنة به، بين سبحانه أنه ما ترك أمة من غير نذير، بل بعث في كل أمة رسولها بالحق، فقال عز من قائل:
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا
أكد سبحانه وتعالى بعثه للرسل بأن بعث لكل أمة رسولا، وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بدعا من الرسل، أكد ذلك بـ(اللام) و(قد)، ولقد عين سبحانه رسالة كل رسول من هؤلاء الرسل فقال: أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت
(أن) تفسيرية، فهي مفسرة بمعنى الرسالة، وهي الأمر بعبادة الله وحده واجتناب الطاغوت.
وقوله تعالى: أن اعبدوا الله فيه أمر بالوحدانية، ودعوة إليها، وتحريض عليها؛ لأن عبادة الله تعالى لا تكون إلا إذا كان يعبد وحده لا شريك له.
وقوله تعالى: واجتنبوا الطاغوت أي: أبعدوا عن أنفسكم الطاغوت، أي: جانبوه، والطاغوت: فعلوت من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، ويشمل مجاوزة الحد في العقول فيعبد ما لا ينفع ولا يضر، ويشرك مع الله غيره وتتحكم فيه الأوهام، فيرى الباطل حقا والحق باطلا، ويشمل ظلم العباد، والطغيان عليهم، ويشمل الطغيان في المعاملات والظلم، وغير ذلك.
فالدعوة- أي: الوحدانية واجتناب الطاغوت- جامعة لكل معاني الرسالة من عقيدة، وتعامل الناس بعضها مع بعض، هذه رسالة رسل الله في الأرض؛ اعتقاد سليم، وتعاون وعمل عادل مستقيم.
وقد تلقى الناس رسالة الرسل الهادية المرشدة ما بين مهتد مقتنع مؤمن، وما بين ضال قد حقت عليه الضلالة، ولذلك قال سبحانه: فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ومن هدى الله هو الذي سلك طريق الهداية، وأعد قلبه لقبول الحق والاقتناع به، ولم تكن ثمة غواش من حب المادة أو السلطان أو الجاه، أو التأثر بما كان عليه الآباء، فيتبع من غير تفكير ولا تدبر، بل نقول:
[ ص: 4176 ] بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فمن كانت حاله كذلك، وهو في هذا متساوق مع الفطرة فإن الله يهديه، ويجعله يتم الصراط التي ابتدأ السير فيها.
وأما من حقت عليه الضلالة، أي: ثبتت وتأكدت، فهو الذي لا يتفكر ولا يتدبر لغواش غشيت قلبه من حب الدنيا وجاهها، وسلطانها، وسيطر على عقله التقليد، والعناد والاستكبار، وبذلك تفسد فطرته التي فطر الناس عليها، ولذا حقت عليهم الضلالة.
وإن أولئك أنزل الله تعالى بهم الدمار في الدنيا، وصاروا عبرة للمعتبرين؛ ولذا قال تعالى: فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين
(الفاء) الأولى دالة على الإفصاح عن شرط مقدر، أو كلام مقدر تقديره فنزل بهم الدمار والهلاك فسيروا في الأرض فستجدون الآثار لمن أهلكهم الله، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين أي انظر الحال التي آل إليها أمرهم بسبب تكذيبهم؛ ولذلك أظهر في موضع الإضمار للدلالة على أن ما أصابهم سببه التكذيب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصا على أن يهتدي قومه؛ لرأفته بهم ولرغبته في مصلحتهم، ولأنه يرى إيمانهم من كمال تبليغ رسالته، ويخشى أن يكون قد قصر في التبليغ إن لم يؤمنوا، ولأنه - كصاحب كل دعوة - يريد للناس أن يتبعوها في غير عوجاء ولا اعوجاج، ولكن الهداية ليست بيده، إنما هي بيد الله؛ ولذا قال تعالى: