ثم يتطاول؛ فينكر البعث؛ ويفتات في تقديره؛ فيقول: وما أظن الساعة قائمة ينفي إيمانه بالساعة؛ ويقول - مستهينا؛ غير عابئ؛ كأن الأمر لا يوجب اهتمامه -: "وما أظن الساعة قائمة "؛ و "الساعة "؛ هي ساعة الحساب؛ وهي التي تكون يوم القيامة؛ وإذا أطلقت "الساعة "؛ في القرآن؛ لا يراد بها إلا ساعة الحساب والجزاء؛ وكأنه ليس بجدير بأن يسمى "ساعة "؛ غيرها.
ويفرض أنه إذا صحت الساعة؛ فإنه سينال ما ينال في الدنيا؛ وأكثر منها؛ فيقول - مغترا -: ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا مرجعا أنقلب إليه؛ بدلا مما كنت فيه؛ وهو في هذا يقسم مطمئنا؛ فاللام الأولى الممهدة للقسم؛ أو المومئة إليه؛ واللام الثانية جواب القسم؛ وقد أكد القول كما رأيت بالقسم؛ وبنون التوكيد في جوابه؛ وهو بهذا يقيس الحال المقبلة على الحال الحاضرة؛ وكأن جنات الدنيا ممتدة إلى الآخرة؛ بل تزيد عليها؛ وإن هذا أقصى درجات الغرور؛ فهو يفتات على ربه؛ أو يقسم عليه؛ وليس من المقربين إليه؛ الذين إذا دلفوا بأعمالهم إليه؛ وأحبوا عباده؛ وعادوا بما آتاهم من خير على المحتاجين؛ من اليتامى والمساكين وأبناء السبيل.
وإنه يلاحظ مما قصه القرآن الكريم؛ من حال الرجل الذي أوتي الجنتين؛ وكيف هذا الإيتاء أدى به إلى الكفر والطغيان؛ أن النفس غير المؤمنة؛ ما تعطاه تحسبه حقا لها؛ ويدفعها غرورها إلى اعتقاد أنها نالته بكفايتها؛ أو لمزية اختصت بها؛ فلا تحسبه عطاء من الله؛ وكان يمكن أن يكون لغيره بأوفر منه؛ ولا أن الأسباب لا تؤدي إلى نتائجها؛ إلا بإذن الله؛ ثم يندفع بها الغرور فتحسبه من فضلها على غيرها؛ وحرمان غيرها من نقصانها الذي لم تبلغ مواهبها ما عندها هي؛ ثم تسترسل في غلوائها؛ فتحسب أن ذلك من دواعي تفاخرها؛ وتطاولها على غيرها؛ وتسترسل في غرورها أكثر؛ فتحسب أن ذلك دائم لا يبيد؛ وأنها تنتقل من ظفر بالخير؛ إلى مثله؛ غير عابئة بشيء؛ ولا مقدرة لمستقبل؛ ثم تدفعها غلواؤها في [ ص: 4531 ] التقدير؛ فتنكر البعث؛ أو لا تهتم به؛ وتظن ظنا من الإثم والبهتان على الله أنه إن كان بعث فستنال من الله خيرا من هذا.
وإن هذا الغرور النفسي؛ والطغيان على الناس؛ هو الذي أدى إلى الكفر؛ والإيغال فيه من غير حساب؛ هذه هي النفس الطاغية التي تسير في طريق الكفر.
أما النفس المؤمنة؛ وهي التي تتمثل في الرجل الآخر؛ الذي هو أحد الرجلين اللذين ضرب بهما المثل؛ فإنه يتمثل فيها الرجل المؤمن؛ فهي تحس: أولا: بأن الله هو الخالق؛ وأنه خلق الإنسان من تراب؛ وأنه الواحد الأحد؛ ثانيا: أنه هو المعطي؛ والمعطي يستحق الشكر؛ ثالثا: التفويض إلى الله؛ والإحساس بأن كل شيء عطاء منه؛ بعد اتخاذ الأسباب؛ رابعا: بأنه موضع الرجاء؛ على أن يفوض الأمر إليه؛ وأن من أعطى يمنع؛ إذا اغتر من أعطاه؛ ورغب عن طاعته؛ وأن عليه أن يتذكر المنع عند العطاء؛ وأن يتذكر حاله إذا فقد النصير؛ وهذا جوابه لما حاوره صاحبه مفاخرا: