يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يقول العلماء: التخلية قبل التحلية؛ بين أن الأوثان عاجزة في ذاتها عن جلب النفع؛ ودفع الضرر؛ وذلك كاف للامتناع عن عبادتها؛ فإنما يعبد العاقل من هو أعلى منه قدرة؛ وفهما؛ وإدراكا؛ وهذه دونه في الخلق والتكوين؛ فمن يعبد؟! أخذ يبين له المعبود؛ فقال - بنداء المتوسل المتحبب -: يا أبت إني قد جاءني من العلم [ ص: 4648 ] لم يرم أباه بالجهل؛ وقد منعه الخلق الودود من ذلك؛ بل قال له: جاءني من العلم والمعرفة ما لم يأتك؛ فتعفف عن أن يرميه بالجهل؛ وتعفف عن ادعاء العلم الكامل؛ حتى لا يكون مستطيلا بفضل علمه على أبيه؛ ومستعليا عليه؛ بل قال: "من العلم "؛ أي: بعض العلم؛ وذلك يجعلني أدعوك إلى الحق؛ وذكره العلم داع لأن يتبعه; لأن الأب الرفيق العاطف يحب لابنه العلم؛ ولو كان أعلى منه؛ وإذا كان له بعض العلم الذي يسره؛ ولا يضره؛ فإنه يتبعه؛ ولذا قال: فاتبعني أهدك صراطا سويا الفاء هنا تفصح عن شرط مقدر؛ تقديره: إذا كنت قد أوتيت هذا العلم فاتبعني أهدك؛ كما يتبع السائر في طريق لا يعلمه الرائد الخريت العارف.
و "الصراط ": الطريق؛ كما ذكرنا؛ و "السوي ": المستوي؛ الذي لا عوج فيه؛ ولا أمت؛ وقد قال في هذا النداء من ذلك الزمخشري ثنى - عليه السلام - بدعوته إلى الحق؛ مترفقا؛ متلطفا؛ فلم يسم أباه بالجهل المفرط؛ ولا نفسه بالعلم الفائق؛ ولكنه قال: إن معي طائفة من العلم؛ وشيئا منه؛ ليس معك؛ وذلك علم الدلالة على الطريق السوي؛ فلا تستنكف؛ وهبني وإياك في سير؛ وعندي معرفة بالهداية دونك؛ فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه. الابن البار بأبيه:
وبعد أن نبه إلى أنه لا يليق أن يعبد ما لا يسمع ولا يبصر؛ وأمره باتباعه; لأنه بين له أن هذه الضلالة - وهي عبادة ما لا ينفع ولا يضر - عبادة للشيطان؛ عدو آدم وذريته؛ فقال: