[ ص: 4773 ] موسى وهارون وبنو إسرائيل والسامري
قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي قال فما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا
كان موقف هارون؛ وهم يتدلون من مرتبة التوحيد؛ الذي أخرجهم به موسى من ربق الاستعباد والذل إلى مرتبة الوثنية المصرية لتأثرهم بها مدة إقامتهم الطويلة في مصر؛ ضعفاء مستكينين؛ والضعيف - كما قال ابن خلدون - شغوف دائما بتقليد القوي؛ لحسبانه أن ما فيه من قوة سببه ما عنده من أفكار وآراء؛ ولو كانت باطلة في ذاتها؛ كان هارون الذي خلف موسى في قومه؛ موقف المرشد الهادي؛ لا موقف الساكت الممالئ؛ قال لهم عند تدليهم: يا قوم إنما فتنتم به قال لهم - بمجرد أن رأى منهم قبل أن يحضر عبادة العجل؛ موسى إليهم؛ وقبل أن يعرف لموسى أمر فتنتهم - "إنما فتنتم به "؛ أي: اختبر إيمانكم بهذه الصورة؛ صورة العجل؛ والضمير في "به "؛ يعود إلى العجل؛ الذي هو موضع الحديث؛ سلبا؛ وإيجابا؛ شدا إلى التوحيد؛ وجذبا [ ص: 4774 ] إلى الكفر؛ و "إنما "؛ في قوله (تعالى): "إنما فتنتم به "؛ أي أنه ليس له حقيقة؛ أي حقيقة؛ حتى تجعلوه إلها يعبد؛ ولكنها فتنة نفوسكم التي أثرت فيها إقامتكم في أرض الفراعنة.
قال لهم نبي الله هارون - عليه السلام - ذلك في إبانه؛ فما قصر في إرشاد؛ ولكن لم يؤثر فيهم ذلك القول؛ كما لو كان من موسى - عليه السلام -; لأن موسى الأصيل في الرسالة؛ وهارون ردء له؛ فلم يكن له تأثيره؛ وكأنهم لا يقرون برياسة إلا لموسى؛ ومع أنه قرر حقيقة بدهية؛ وهي أن ربهم الرحمن؛ وطالبهم بأن يتبعوه؛ ولا يخالفوه في أمر؛ مع ذلك أعلنوا ما يفيد أنهم لا يعترفون إلا بموسى رئيسا مطاعا؛ وقبل أن ننقل قولهم الذي أفاد إصرارهم؛ نقول أولا: إن هارون ناداهم بما يقربهم إليه؛ ويؤنسهم به؛ فقال: "يا قوم "؛ فهذا إشعار بالرباط الذي يربطهم به نسبا؛ ويدنيهم إليه؛ ويقول ثانيا: مؤكدا الفتنة التي يجب أن يتركوها؛ والمفتون تزول فتنته عند أول تنبيه إليها؛ ومع ذلك لم يتركوها ويعودوا إلى الصواب الذي يوافق العقول؛ ويذكر ثالثا؛ وينتقل من هذا الإرشاد إلى الأمر الذي يجب أن يأخذوا؛ فيقول: فاتبعوني وأطيعوا أمري وكان يجب أن يطيعوه؛ لأنه رسول مع موسى؛ وردؤه؛ ومخالفته مخالفة لموسى؛ ولكن رجس الوثنية قد ثبت في نفوسهم؛ ولا ينخلع منه؛ والفاء في قوله: "فاتبعوني "؛ هي لترتيب هذا الأمر على أن عبادة هذا الصنم فتنة؛ وأن ربكم الرحمن وحده؛ وعبارة: "وإن ربكم الرحمن "؛ تفيد القصر؛ أي: لا معبود غيره؛ لأنه الرب الخالق المدبر لشؤونكم الحي القيوم.
قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى "العكوف ": الإقامة للعبادة في معبد؛ أو مسجد؛ أو غيره؛ و "لن نبرح "؛ من الأفعال التي تفيد الاستمرار على الحال التي هم عليها؛ ولا بد أن يسبقها حرف النفي؛ مثل أخواتها: "ما انفك "؛ و "ما فتئ "؛ و "ما زال "؛ والنفي بـ "لن "؛ لتأكيد بقائهم على ما هم عليه من ضلال؛ فإذا كان هارون قد بلغ أقصى الغاية في إرشادهم؛ فقد بذلوا أقصى الغاية في المعاندة؛ وقولهم: عليه عاكفين أي: مقيمين على عبادته؛ وتقديم الجار والمجرور لإفادة الاقتصار على [ ص: 4775 ] عبادته وحده؛ فلا يعبدون معه غيره؛ ولو كان الله الرحمن الرحيم؛ متأثرين في ذلك بقول السامري لهم: إن هذا إلهكم وإله موسى.
وقد ذكروا النهاية التي إليها ينتهي ضلالهم: حتى يرجع إلينا موسى هكذا كان هارون موحدا؛ غير ممالئ؛ وما كان لنبي أن يعتنق غير التوحيد؛ ولا أن يمالئ المشركين؛ ولكنها التوراة التي في أيدي اليهود جميعا؛ لعنهم الله؛ تقرر أنه مالأهم؛ وعبده كما عبدوه؛ وتلك فرية على نبي الله؛ تليق بقوم مفترين؛ ولا تليق بكتاب منسوب لله (تعالى)؛ ولكن النصارى واليهود يؤمنون بذلك.
جاء موسى غضبان أسفا؛ ووجه اللوم ابتداء إلى أخيه؛ يحسب أنه قصر في التوجيه والإرشاد؛ وما قصر؛ وكان كما يظهر من قوله أنه كان يرى أن يتبعه إلى المكان الذي ذهب إليه؛ ورأى هارون أن يبقى معهم؛ ويكرر إرشادهم؛ ويرقب حالهم: قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري خاطب موسى ردءه وأخاه هارون بتعاطف؛ فناداه باسمه؛ نداء الأخوة؛ المحبة الأليفة؛ ما منعك إذ رأيتهم ضلوا لهذا الضلال المأفون الأحمق؛ و "إذ "؛ للظرف الماضي؛ أي: ما منعك وقت ضلالهم؟