ومع أن هذه التقية تتحسر على أن مولودها لم يكن ذكرا كما قدرت، ليكون في خدمة بيت الله تعالى كما نوت، فقد رضيت بما وهب الله تعالى، وضرعت إليه أن يهديها ولذا قالت:
وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم فهي قد اختارت الاسم راضية بما أعطيت، قال في الكشاف: " وإن اختيار الاسم فيه تقرب إلى الله تعالى، لأن الزمخشري مريم في لغتهم معناها العابدة والخادم، فأرادت بذلك التقرب إلى الله، والطلب إليه أن يعصمها، حتى يكون فعلها مطابقا لاسمها، وأن يصدق فيها " . ولذا طلبت إلى ربها أن يعيذها وذريتها من الشيطان الرجيم. ومعنى الإعاذة أن تكون في ملجأ من الله تعالى يعصمها من الشيطان؛ وذلك لأن التعوذ الالتجاء. فمعنى أعوذ بالله ألجأ إليه، وأتخذ منه معاذا ، ومعنى أعذته بالله من الشيطان جعلت الله تعالى معاذا له منه، وهذه الإعاذة كانت دعاء من الله تعالى، فكان هذا الدعاء عبادة أخرى. وهكذا اقترنت ولادة مريم وحملها من قبل بعبادات متضافرة متوالية مستمرة، وضراعة تدل على خلاص النفس وإسلام الوجه لله تعالى.
والشيطان: ما يوسوس في النفس، وهو يجري من الإنسان مجرى الدم.
والرجيم أي:المطرود المنبوذ من رحمة الله من وقت قال له رب البرية: [ ص: 1199 ] قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين
وإن الله تعالى عصم بهذا الدعاء مريم وابنها من أن يمسهما الشيطان. وقد ورد في ذلك بعض الآثار.
ولقد قال في ذلك: يروى من الحديث " الزمخشري مريم وابنها " فالله أعلم بصحته، فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها، فإنهما كانا معصومين، وكذلك كل من كان في صفتهما كقوله تعالى: ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين
، واستهلاله صارخا من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه، ويقول: هذا ممن أغويه، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي:
لما تؤذن به الدنيا من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد
تلك ضراعات امرأة عمران عند ولادة مريم البتول،