وقد ذكر الله - سبحانه وتعالى - أنه هو الذي أفهم سليمان هذا الحكم؛ فقال - عز من قائل -: ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين دل هذا القول على أن سليمان كان بإلهام من الله؛ ويومئ إلى أنه كان الحق؛ وإن لم يكن حكم داود كان باطلا؛ فقد بذل فيه سبيل الاجتهاد؛ وكان مقاربا؛ ولم يكن مناقضا للحق؛ والأحكام تبنى في الدنيا على المقاربة؛ ولو كان القاضي نبيا جعله الله (تعالى) خليفة في الأرض؛ ما دام الحكم لا شطط فيه؛ ولذا قال (تعالى): حكم وكلا آتينا حكما وعلما أما العلم فعلم النبوة؛ وأما الحكم فقالوا: إنه الحكمة والقدرة على فهم الأمور ودراستها من كل جوانبها؛ ويصح أن نقول: إن المراد بالحكم أهلية الفصل بين الخصوم؛ وقد ذكر - سبحانه وتعالى - أنه كان شاهدا مقرا لحكمهم.
ويلاحظ هنا أن الحكم الذي أقره الله (تعالى)؛ أو كان عليه شاهدا؛ وهو حكم داود - عليه السلام - وحكم ابنه سليمان؛ هو جزاء مشتق من ذات الاعتداء؛ ولو بالتسبب؛ فإن صاحب الغنم تركها من غير أن يراقبها ويحفظها فنفشت في الحرث؛ فكان الجزاء من ذات موضع الاعتداء؛ فقدره داود بأن تؤخذ الغنم في نظير الزرع؛ لأن قيمتها كانت تساوي الزرع؛ وبذلك كان الجزاء من جنس الاعتداء وهو مقارب؛ وأفهم الله (تعالى) سليمان أن يجعل الاعتداء جزاءه مماثلا؛ ولو في الظاهر؛ لموضع الاعتداء؛ فكان أن يترك صاحب الحرث لصاحب الغنم يحرثها ويزرعها؛ حتى إذا [ ص: 4901 ] علا واستغلظ أو صار كالأول؛ سلمه ورد الغنم إلى صاحبها وكان صاحب الحرث قد أخذ عوض التأخير بدر الغنم ومنافعها.
وفي هذا الجزاء مقاربة للعدالة والمساواة؛ وفيه تعاون؛ وفيها فائدتان؛ الأولى: أن يكون فضل تعاون؛ والثانية: أنه مساواة أو مقاربة من المساواة.
وقد أثبت علماء البحث في العصر الحاضر أن أقرب الجزاء إلى تهذيب النفوس أن يكون العقاب من جنس الاعتداء; لأنه يجعل الجاني؛ أو المهمل يحس بالجزاء؛ وهو يقع في الجريمة؛ أو الخطإ؛ فيكون ذلك أدعى إلى الامتناع أو التوقي.
وإن قصة هذا الحكم إرشاد للحكام إلى أقرب الطرق إلى تحقيق العدالة في هذه الدنيا؛ وقال (تعالى) فيما مكن الله به لداود؛ فقال - عز من قائل -: وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين كرم الله (تعالى) داود بأمرين؛ أولهما أنه سخر له الجبال تتحرك بإرادته؛ وتسكن؛ وتسبح بأمره - عليه السلام -؛ ولسنا نستغرب شيئا من ذلك؛ لأننا نؤمن بالقوة الغيبية؛ يبثها الله؛ ولا يماري فيها إلا الذين لا يؤمنون إلا بالمادة وظواهرها؛ وكذلك سخر الله (تعالى) له الطير؛ وروي أن الجبال كانت تجاوبه في تسبيحه؛ وكذلك الطير؛ ولا غرابة؛ فقد قال الله: يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض ؛ وقال (تعالى): ويسبح الرعد بحمده والملائكة ؛ وقال الله في داود: يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد ؛ أي أن هذه إرادة الله؛ ولا مشاحة له فيما يريد؛ وقال (تعالى):