ولقد قرر عيسى - عليه السلام- أن هذه المعجزات الباهرة لا تخرجه عن أنه عبد لله تعالى مخلوق له سبحانه؛ ولذا حكى الله تعالى عنه قوله:
إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم
أي: أن الله تعالى خلقني وهو الذي يربيني ويكلؤني ويحييني، وهو أيضا الذي خلقكم وينميكم ويكلؤكم ويحييكم، وإذا كان كذلك فحق علينا أن نعبده وحده ولا نشرك به أحدا سواه، فإن العبادة تكون شكرا لهذه النعمة، وقياما بحقها، وصلاحا لأمر الناس في هذه الدنيا. وعبادة الله وحده والاعتراف بربوبيته وألوهيته وحده هي الصراط أي:الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، اللهم اهدنا إلى سواء السبيل.
فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ربنا آمنا بما أنـزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين 54
[ ص: 1235 ] هذا القصص الحكيم مستمر في قصة عيسى، وقد انتقل في الآيات السابقة من بشارة مريم بأن تكون المختارة لتكون منها الآية الكبرى وهو أن يولد منها ولد هو إنسان حي يأكل ويشرب وينمو من غير أب ينجبه، إلى ملاقاة قومه له وتكذيبه؛ ولم يكن ذلك الانتقال مفاجئا من غير تمهيد بل مهد له، فأشار في البشارة إلى مقامه ورسالته وآيته الباهرة القاهرة؛ وبهذا علم القارئ الذي يتلو كتاب الله من السياق رسالته والمعجزات التي تحدى بها قومه أن يأتوا بمثلها؛ وعلى ذلك لم يبين في هذا الموضع ولادة عيسى عليه السلام، وحال مريم عند ولادته، وتعلمه في المهد صبيا، وبين ذلك في سورة مريم في قوله تعالى: فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا
ففي سورة مريم فصل خبر ولادته، وفي هذه السورة فصل الآيات التي أثبت بها نبوته، وكان هذا مناسبا لما يجيء بعد ذلك من ملاقاة قومه لدعوته إلى الله، وإقامته الآيات التي تدل على رسالته، فقال: