فضل الله على خلقه
قال الله (تعالى): ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك [ ص: 5020 ] في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون
ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم
الاستفهام هنا للإنكار؛ بمعنى نفي الوقوع؛ وهو داخل على "لم "؛ النافية؛ ونفي النفي إثبات؛ فهو بيان لأن الله سخر ما في الأرض؛ والمعنى: قد سخر الله لكم ما في الأرض؛ وكأن الاستفهام هنا مع النفي تنبيه; لأن الله (تعالى) ذلل ما في الأرض لكم؛ وقدم "لكم "؛ على المفعول؛ وهو "ما في الأرض "؛ لبيان أن التسخير من الله (تعالى) لكم؛ ليذلل كل ما فيها لإرادتكم ورغباتكم؛ ومعاشكم؛ فكل ما فيها - ظاهرا فوق أرضها؛ من زروع وثمار وغابات وجبال ووهاد؛ وما في باطنها؛ من معادن وكنوز؛ وفي بحارها من لآلئ ولحم طري - كل هذا سخره الله (تعالى)؛ وذلله لكم؛ فهي نعم تنادي من أنعم عليه بها بشكرها؛ وذكر أمرا في الأرض؛ وخصه بالذكر؛ لوضوح نعمته (تعالى) فيه؛ والفلك تجري في البحر بأمره فهذه الفلك تجري في البحر بإذن الله؛ وأمره؛ وتسييره لها - سبحانه وتعالى -؛ إنها "بأمره "؛ مع أن كل شيء بأمره؛ وذلك لأنها في مرأى؛ تسير في البحر ماخرات عبابه؛ لا يسيرها شيء إلا الهواء؛ فإن التعبير "بأمره "؛ في هذا مسايرة لمرأى العين؛ ومجرى الريح؛ وهي آية من آيات الله (تعالى)؛ ولذا قال (تعالى): ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام ؛ وهي تجري في البحر ناقلة ما تحمل من خيرات الأرض إلى أقاليم أخرى؛ ولذا قال في آية أخرى: والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ؛ فهي تصل الناس بعضهم ببعض؛ بالمتاجر؛ والرحلات؛ والتعارف؛ والاتصال الدائم بينهم. [ ص: 5021 ] وإن الله رفع السماء عن الأرض بغير عمد ترونها؛ ولكنها مربوطة بقوى الجاذبية والقصور الذاتي؛ وحفظ الله توازن الكون؛ وإنه بهذه النواميس الكونية التي تسري بأمره؛ والتي خلقها - سبحانه - بحفظ الكون؛ ويمسك السماء أن تقع على الأرض; ولذا قال: ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه أي: يمسك السماء من أن تقع على الأرض؛ لأنها بغير عمد ترونها؛ إنما يمسك - سبحانه - بقوى ونواميس خلقها؛ "وأن تقع "؛ مجرورة بـ "من "؛ وقوله (تعالى): إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت
وإن هذا بين السماء والأرض؛ ليعيش الناس في أمن واطمئنان من حوادث الكون؛ ولذا قال (تعالى): التوازن الكوني إن الله بالناس لرءوف رحيم "الرؤوف "؛ من "رؤف "؛ و "الرحيم "؛ صفة مشبهة للرحمة؛ والرأفة أصلها رقة القلب؛ والشفقة بالناس؛ والرحمة من الناس تشمل معنى الإنعام؛ الذي يناسب الناس؛ أما الرأفة بالنسبة لله (تعالى) فهي ما يقتضيه اتصافه بالكمال؛ وتنزيهه - سبحانه - عن المشابهة بالحوادث؛ وهو أنه - سبحانه - يقدم ما يكون إنعاما عليهم في مشاعرهم وأحاسيسهم؛ والرحمة: الإنعام والإحسان في عامة أمورهم.
وقوله (تعالى): إن الله بالناس لرءوف رحيم أي: يعاملهم معاملة من يرأف بهم؛ ويشفق عليهم؛ ومعاملة من ينعم عليهم ويرحمهم في عامة أمورهم؛ وإن هذه الجملة السامية في مقام التعليل لما سبق من تصرفه في الكون؛ وقد أكد - سبحانه - رأفته ورحمته بهم؛ بعدة مؤكدات؛ أولها؛ "إن "؛ وثانيها تقديم "بالناس "؛ وثالثها باللام؛ ورابعها بالتعبير بالصفة المشبهة؛ وذكر - سبحانه - بيان قدرته فيهم؛ فقال - عز من قائل -: