وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - منهيا عن المجادلة في هذا الأمر؛ لأنه لا مسوغ فيه للجدل، فماذا يكون من أمره إن حاجوه هم؛ فبين سبحانه ما يكون منه إن حاجوه بقوله تعالت كلماته:
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين
المحاجة تبادل الحجة، سواء أكانت الحجة قوية أم كانت حجة داحضة عند ربهم، والفاء هنا فاء الإفصاح؛ إذ إنها تفصح عن شرط مقدر؛ والمعنى إذا كانت هذه حقيقة السيد المسيح عليه السلام، وهذه إرادة الله تعالى في الخلق والتكوين، فكل ما يدعى له من الألوهية باطل، ولا يؤمن به أحد، فمن حاجك.. إلخ: والمعنى: فمن حاجك في شأنه من حيث كونه إلها أو ابن إله أو غير ذلك من الترهات الباطلة، بعد أن علمت من شأنه ما علمت، وذلك بعلم الله الذي أعلمك إياه، ووحيه الذي أوحاه إليك، فلا تبادلهم حجة بحجة؛ لأنهم لا يؤمنون بحقيقة ما يقولون، ولا يذعنون للحق الذي تقول، وإن كانوا يعلمونه، ولكن قل لهم: تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم والمعنى ندع من عندنا من ذرية ونساء، ومن عندكم من ذرية ونساء، ومن عندنا من رجال، ومن عندكم؛ أي يتلاقى جمعنا وجمعكم، ثم نتجه نحو الحقيقة طالبين لها، أو على الأقل يعلن كل واحد منا إيمانه بما عنده، ونبتهل إلى الله ضارعين إليه، متجهين بقلوبنا نحوه أن يجعل لعنته وطرده من رحمته على الكاذبين في دعواهم المنحرفين في اعتقادهم.
وهذا المعنى هو ظاهر الآية؛ إذ فيه الدعوة الاجتماعية من الفريقين ليكون الجمع في مقابل الجمع فيعرف المحق من المبطل. [ ص: 1253 ] وهناك معنى آخر تشير إليه مرويات الصحاح من السنة، وهو أن يدعو النبي خاصته من أهل بيته، وهم نساء قرابته وذريته، ورجال أسرته؛ وقد روى وغيره البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى المباهلة ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي .
والمعنى على الأول يشير إلى أن بين أهل الحق مجتمعين، وأهل الباطل مجتمعين، ثم يتجهون جميعا إلى رب العالمين؛ لأن الأمر يهم الجميع، فإما أن يذعن أحد الفريقين للآخر، وإما أنه يطرد من رحمة الله تعالى. وعلى الثاني يشير إلى أن المباهلة بين النبي وأسرته، وكبراء الفريق الآخر وأسرهم، وإلى أن الذي يؤمن بما يقول لا يمتنع عن تقديم أحب الناس إليه في المباهلة ما دام مؤمنا بأن الحق في جانبه. المباهلة
وإن النبي تقدم إلى هذه المبارزة المعنوية الاعتقادية، ولكنهم أحجموا ولم يتكلموا ورضوا أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
والابتهال قال فيه : الزمخشري ثم نبتهل ثم نتباهل بأن نقول بهلة الله على الكاذب منا ومنكم، والبهلة بالفتح والضم اللعنة، وبهله الله: لعنه وأبعده من رحمته، من قولك أبهله إذا أهمله. وأصل الابتهال هذا، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، وإن لم يكن التعانا.
وفي الآيات الكريمة إشارة إلى عدة معان نفسية واجتماعية:
أولها: أن إنما يحمله على الإذعان التوجيه النفسي، بأن يدرس مقدار اقتناعه هو بما يقول، وفي الابتهال وسط لجاجة أولئك الذين يحرفون الكلم عن مواضعه دعوة لهم إلى أن يفتشوا قلوبهم ويعرفوا مقدار إيمانهم بما يقولون، ومقدار الحق فيما يعدلون؛ ولذلك خروا صاغرين، ولم يستطيعوا جدالا. [ ص: 1254 ] وثانيها: أن المجادل المماري لا تزيده الحجة القوية اقتناعا، ولا تحمله على الإذعان، كما كان يقول الإمام الدعوة بالتي هي أحسن توجب على الداعي ألا يفرط في المجادلة، : بين الحق ولا تجادل فيه، فإن كل مجادلة توجب على الفريق الآخر أن يلتزم موقفه. مالك
ثالثها: أنه يجب أن تعلم الذرية والنساء شئون الدين، ولذلك كانوا مشتركين في تلك المنازلة بين الحق والباطل وهذه المعركة النفسية الفاصلة بين إيمان المؤمنين، وانحراف المنحرفين.
ورابعها: فإن تلك المباهلة كانت بين أهل الإيمان متعاونين على دعوة الحق، وأهل الباطل مدعوين إلى التعاون عليه فيها إن كانوا مؤمنين به، فلم يحيروا جوابا. التعاون الفكري والنفسي بين المؤمنين،