حد القذف
وإن الشريعة؛ كما تطهر الأسرة من الزناة؛ تحميها من الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؛ فيعاقب الذين يرمون الطاهرات العفيفات بالزنا؛ ووضعت لهم عقابا رادعا؛ ثمانين جلدة؛ فقال - تعالت كلماته -: والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم
هذه جريمة القذف؛ وهو في الشريعة رمي المحصن بالزنا؛ والمذكور في الآية رمي المحصنات؛ وقد ثبت بقانون المساواة أن هذا حكم رامي الرجال; ذلك لأن قانون المساواة الشرعية يجعل حكم الرجل كحكم المرأة؛ فإننا نرى التكليف كان في أكثر الأحوال يجيء بمخاطبة الرجال؛ ثم يدخل النساء بحكم قانون المساواة في التكليف. [ ص: 5145 ] وذكر النساء وحدهن؛ وإن دخل الرجال بحكم قانون المساواة; لأن المحصنات يصيبهن ضرر الرمي بالزنا أكثر من الرجل؛ بحكم العرف في الدنيا; ولأنها موضع الأمانة الربانية؛ فصيانتها أوجب؛ ورميها يكون أشد؛ ولأن أول رمي كان لأطهر نساء قريش - بعد - زوج فاطمة محمد؛ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان ذكر النساء أولا. وبنت أبي بكر الصديق؛
وقال (تعالى): والذين يرمون المحصنات ؛ لم يقل: بالزنا؛ بل لم يذكر المرمي به؛ تحصنا؛ وإبعادا لألفاظ الشين عن المحصنات الطاهرات العفيفات؛ وقوله (تعالى): فاجلدوهم ثمانين جلدة ؛ الفاء هنا كفاء الشرط؛ لتضمن الموصول معنى الشرط؛ وفيه - مع ذلك - إشارة واضحة إلى أن رمي المحصنات هو سبب هذا الحكم القاسي؛ أولها: الإسلام؛ فلا إحصان لغير مسلم ولا مسلمة؛ وثانيها: الحرية؛ فلا إحصان لعبد؛ ولا لأمة؛ وثالثها: ألا يقع في زنا من قبل؛ أو يكون قد دخل في عقد فاسد بشبهة تسقط الحد؛ ولا تمنع بقاء وصف الزنا؛ كالعقد على المحارم؛ ونحوه مما هو مفصل في كتاب الزواج؛ فليرجع إليه. والإحصان يتضمن معاني ثلاثة:
والعقوبات ثلاث؛ كما أشرنا؛ الأولى: الجلد ثمانين جلدة؛ ووضحنا المعنى في التعبير بقوله: فاجلدوهم ؛ من حيث إن المراد ضرب يؤلم الجلد؛ فلا يكون ثمة حاجز يمنع إيلام الجلد؛ كحشية؛ أو نحو ذلك؛ وهذه عقوبة بدنية تصيب البدن؛ وتؤلمه؛ وإذا كانت هذه عقوبة - ومن قبل عقوبة الزانية - فيها قسوة؛ فإنها رحمة بالجماعة المؤمنة؛ من أن يفشو فيها الزنا؛ ويشيع؛ وفي ذلك فتنة وخراب وفساد كبير؛ وضياع للأمم؛ وللنسل؛ وخيانة للأمانة التي أودعها الله أصلاب الرجال؛ وأرحام النساء.
الثانية: إهدار أقوال القاذفين؛ بألا تقبل لهم شهادة في قضاء؛ وهذا قوله (تعالى): ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ؛ والأبدية توجب ألا تقبل لهم مطلقا؛ تابوا أو لم يتوبوا؛ وهذا ما قرره الحنفية وأكثر الفقهاء؛ وقرر الشافعية أن التوبة [ ص: 5146 ] النصوح تنهي هذه العقوبة; لأن التوبة المقبولة تجب ما قبلها من المعاصي; ولأن استثناء التوبة في الآية: شهادة إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ؛ جاء بعد " لا تقبلوا " ؛ والحكم بالفسق؛ فيشمل الاستثناء منهما؛ لا من أحدهما؛ ونحن نميل إلى ما فهمه الحنفية؛ أولا: لأن النص على الأبدية يمنع الاستثناء; ولأن وأولئك هم الفاسقون ؛ جملة مستقلة؛ والجملة: ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ؛ قد انتهت؛ فلا يتعلق الاستثناء بها؛ ولأن هذا هو الذي يلائم أنها عقوبة؛ ولأن إشاعة الفاحشة أعظم جرائم اللسان؛ فيجب أن تتعلق العقوبة به.
العقوبة الثالثة: الوصف بالفسق في قوله (تعالى): وأولئك هم الفاسقون ؛ وهذه هي التي دخلها الاستثناء; لأنها في جملته؛ والحكم بالفسق اقترن به الاستثناء؛ فخرج المستثنى من حكم المستثنى منه.
ألا يأتي من يرمي بالزنا بأربعة شهود؛ هو منهم؛ وبعبارة أدق: بثلاثة معه يقرون قوله؛ ولذا قال (تعالى): وشرط تحقق حد القذف والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ؛ وكان التعبير في العطف بـ " ثم " ؛ الدالة على التراخي؛ فيه إشارة إلى بعد الحصول على ثلاثة يشهدون معه؛ فإن إثبات الزنا بأربعة عسير؛ إلا أن يكون فعلا علنيا؛ ولا يحدث ذلك إلا في أفحش الأمم فجورا؛ كأهل أوروبا وأمريكا.
والرمي - لكي يقام حد القذف - يجب أن يكون رميا صريحا بالزنا؛ حتى يقول الفقهاء: إنه رآه يضع إحليله في فرجها؛ كما تضع الميل في المكحلة؛ أو نحو هذا التعبير.
ولو عرض؛ لا يكون رميا بالزنا؛ ولو كان التعريض كالتصريح وضوحا؛ وقد رمى الذي صار نصيرا المغيرة بن شعبة فشهد ثلاثة من الأربعة بالرمي الصريح؛ وعرض لمعاوية؛ زياد ابن أبيه؛ الذي ألحقه بنسبه؛ لم يصرح؛ فعدهم معاوية الذي كان يقضي في الأمر بنفسه؛ قاذفين؛ وعاقبهم عقوبة الجلد. [ ص: 5147 ] وما كان ذلك إلا ليحمل الناس الذين يرون تلك الجريمة البشعة ألا ينطقوا بها؛ حتى لا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؛ ويشيع الترامي بالزنا؛ فيستهين الناس به. عمر بن الخطاب