بعد ذلك بين - سبحانه - من الإفك؛ عائشة فقال - عز من قائل -: براءة الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم ؛ وهذا برهان منطقي؛ مستمد من واقع الحياة؛ وما يختاره الله (تعالى) للناس؛ وهو التجانس بين الأزواج في الأخلاق والأعمال والأقوال.
" الخبيثات " ؛ جمع " خبيثة " ؛ وهل المراد وصف النساء؛ أم وصف الأقوال؟ قال مجاهد؛ وسعيد بن جبير؛ وجمهور مفسري السلف: ويكون المعنى أن خبيث الأقوال؛ إنما ينطبق على خبيث الرجال؛ وقد حصرت فيهم؛ وكذلك الخبيثون انحصروا في خبيث الأقوال؛ لا يعدونها؛ و " الطيبات " ؛ أي: الأقوال الطيبة تنحصر [ ص: 5173 ] في الطيبين من الرجال؛ وهم منحصرون فيها؛ لا يتجاوزونها إلى خبيث الأقوال؛ وقد عد هذا احتمالا في الآية وعطاء؛ والاحتمال الثاني الذي ذكره أن المراد بالخبيثات: النساء؛ وكذلك الطيبات؛ وإلى هذا نميل؛ فليس موضوع الكلام خبائث الأقوال؛ وطيباتها؛ إنما موضوعها البريئات من النساء؛ والبرآء من الرجال؛ الذين يرمون بخبث القول؛ فهي أولى بأن تفسر بموضوعها. الزمخشري؛
و " الخبيث " ؛ هو من قام به الخبث؛ وهو الرجس الحسي؛ وقد شبه الرجس المعنوي؛ وهو فساد النفوس وارتكابها موبق الأفعال؛ من زنا وشرب خمر وسرقة واختلاس واغتصاب؛ بالخبث الحسي؛ كما في قوله (تعالى): إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ؛ وقوله (تعالى): الخبيثات للخبيثين ؛ هو من قبيل القصر; لأن فيه تعريفا للطرفين؛ ومعنى ذلك أن الخبيثات لا يكن إلا للخبيثين من الرجال؛ أي: لا يمكن أن يكن أزواجا إلا للخبيث من الرجال؛ إذ لا يقدم عليهن إلا مثلهن؛ وكذلك كان القصر في الجملة الثانية؛ والخبيثون للخبيثات؛ أي: انحصر زواج الخبيثين في الخبيثات من النساء؛ أي: لا ترضى بواحد منهم زوجا لها؛ تجتاز معه مرحلة الحياة؛ إلا الخبيثات من النساء؛ فلا ترضى شريفة طيبة برجل خبيث النفس والقول والعمل.
وكذلك الطيبات للطيبين؛ هو أيضا فيه قصر بتعريف الطرفين؛ أي أن الطيبات من النساء لا يقبلن إلا زواج الطيبين; لأن الطيبة الكريمة لا ترضى أن تكون فراشا إلا للطيب الكريم؛ ولا يرضى ذووها إلا بكريم طيب ذي خلق ودين؛ والطيبون ذوو الأخلاق الذين لا يختارون إلا كريمة ذات خلق ودين؛ والشطر الأول كقوله (تعالى): الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك
أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم ؛ والإشارة هنا إلى الطيبين والطيبات; لأنهم الأقرب في الذكر؛ ولأنهم الذين يأثم الخبثاء بالقول القاذف فيهم؛ والتبرئة لا تكون إلا لمن يرمى بالقول الخبيث. [ ص: 5174 ] لهم مغفرة ورزق كريم ؛ أما المغفرة فهي أن الله (تعالى) يغفر لهم من اللمم؛ وبعض السيئات بسبب القذف الآثم لهم؛ فإنه ينتقص من سيئات المظلوم بمقدار اعتداء الظالمين؛ والرزق الكريم هو الحسنات في الدنيا؛ وجزاؤها في الآخرة؛ وهذا كقوله (تعالى): وأعتدنا لها رزقا كريما
والآية الكريمة عامة؛ تعم نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ونساء المؤمنين؛ وهي مع عمومها تدل على براءة أم المؤمنين من ناحية التصريح بكل طيبة ترمى؛ فقد صرح - سبحانه - بالبراءة؛ في قوله (تعالى): عائشة أولئك مبرءون مما يقولون ؛ وبرأها - سبحانه - بتضمين القول الدال على انحصار الخبيث من القول في الخبثاء والخبيثات؛ وانحصار الطيب من النساء والرجال في الطيب من الأخلاق؛ والأقوال؛ وإذا كان زوج كل طيب طيبة فزوج أطيب الرجال في الإنسانية أطيب النساء؛ والله واسع عليم.