الاستئذان في داخل البيوت من الأهل
يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن [ ص: 5225 ] الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم
ذكر الله - سبحانه وتعالى - الاستئذان عند الدخول على بيوت غير بيوتنا؛ فقال الله (تعالى): يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ؛ إلى آخر الآيات; ثم ذكر عفة الذين لا يجدون نكاحا؛ ثم ذكر - سبحانه وتعالى - نور الشريعة ونور الحق؛ وعاد بعد ذلك إلى ما ينبغي في أدب البيوت؛ وفي الشؤون الداخلية؛ فإذا كانت الآيات السابقة في بيان استئذان الذين يدخلون غير بيوتهم؛ فهذه الآية في بيان استئذان الذين يعيشون في دار واحدة؛ لبعضهم من بعض؛ فذكر - سبحانه وتعالى - وجوب هذه الأوقات هي أوقات التجرد من الثياب؛ وكون الناس يكونون في حال لا يرغبون أن يراهم فيها أحد؛ فقال (تعالى): الاستئذان في ثلاثة أوقات؛ يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ؛ واضح من هذا أن هذه الآية وآية الاستئناس لم يردا على موضوع واحد؛ بل لكل واحدة موضوع; فالسابقة موضوعها الاستئذان للدخول في بيوت غير بيوت المستأنس؛ أما هذه فهي للأهل الذين يسكنون في دار واحدة؛ وهم مختلطون؛ يدخل [ ص: 5226 ] بعضهم بيوت البيتوتة من غير حرج؛ أو استئذان؛ فالآية تعلم الناس أدب الاختلاط؛ سواء أكانوا ذوي أرحام؛ أم لم يكونوا؛ فذكرت الآية الكريمة الآداب المبينة لما يحسن؛ وما لا يحسن؛ وما يليق؛ وما لا يليق؛ ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ؛ ذكورا كانوا أو إناثا؛ فاللفظ عام؛ والذين لم يبلغوا الحلم منكم ؛ أي: الأطفال المميزون؛ وذكر الذين لم يبلغوا الحلم ينبئ عن أنهم مميزون؛ يستطيعون وصف ما يرون؛ ويشاهدون؛ وإذا كان هذا شأن الذين لم يبلغوا الحلم؛ فبالأولى لا بد من استئذان من بلغوا الحلم؛ وقد صرحت الآية من بعد ذلك؛ فقال (تعالى): وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم ؛ والأوقات التي ذكرتها الآية هي الأوقات التي يظن فيها العري والتجرد من الثياب؛ فقال: من قبل صلاة الفجر ؛ لأنه وقت امتداد الليل؛ وإنهائه؛ والاستعداد للصلاة؛ ومظنة ذلك أن يتجرد الرجل وأهله من ثيابهما؛ وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ؛ أي: حين تخلعون ثيابكم؛ من الظهيرة؛ أي: من الحرارة التي تكون في الظهيرة؛ فهو وقت تجرد وعري؛ ومن بعد صلاة العشاء ؛ فهو وقت التجرد لأجل النوم؛ ثم قال (تعالى): ثلاث عورات لكم ؛ أي: ثلاثة أوقات فيها تبدو عوراتكم؛ وتكون ظاهرة؛ وتحبون أن تستتروا؛ وجعلت الأوقات عورات; لأن فيها تظهر هذه العورات؛ فهي من تسمية الزمان بما فيه؛ فهذه الأوقات التي تكون العورات فيها مكشوفة؛ لا يصح التقحم بالدخول على أصحابها من غير استئذان؛ حتى يستتروا؛ ويستعدوا للقاء هذا الزائر؛ وأحسب أنه لو كف أهل البيت عن الدخول إلا لضرورة ملحة؛ ويكون معها الاستئذان لا محالة؛ فإن ذلك يكون خيرا وهو الأجمل بأهل المروءة؛ وإنه بعد هذه الأوقات التي تكون مظنة كشف العورات؛ ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن ؛ لا جناح عليكم؛ ولا جناح عليهم؛ " الجناح " ؛ هنا: الإثم؛ والميل نحوه؛ أي: لا إثم عليكم في أن تدخلوا؛ ولا إثم عليهم في أن تدخلوا عليهم؛ وفي هذا إشارة إلى أن الإثم يلحق الذين يكشفون عوراتهم؛ ولا يتخذون الأستار؛ وقاية من أن تنالها الأعين؛ ولو كانت بريئة؛ وفي ذلك دعوة إلى ضرورة اتخاذ أسباب [ ص: 5227 ] الستر؛ ولا تكون البيوت كبيوت أهل الخنا؛ وقال (تعالى): " بعدهن " ؛ أي: بعد هذه الأوقات.
وبين - سبحانه - السبب في رفع الحرج في غير هذه الأوقات؛ فهؤلاء الذين ملكت أيمانهم؛ والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم يدخلون من غير استئذان; لأنهم طوافون مترددون في البيت؛ ويكون حرج شديد إذا كان الاستئذان في كل وقت؛ ويكون حرج على الأمهات إذا كان أطفالهن لا يدخلون إلا باستئذان وهم غير مكلفين.
وما ملكت أيمانهم عامة؛ أيراد بها كل من ملكت أيمانهم؛ رجالا ونساء؟ إنه بمقابلة النصوص بعضها ببعض؛ وتخصيص بعضها ببعض يكون المتفق مع روحها؛ وألفاظها؛ أنه لا استئذان على الرجال مما ملكت أيمانهم من الرجال والنساء؛ لا إثم في ذلك؛ ولا مظنة لعري؛ وأما بالنسبة للنساء فإنه لا يدخل الرجال عليهن إلا بإذن؛ والإماء قد رفع عنهن الإثم؛ لأنهن طوافات على النساء؛ " راجع ما قلنا في تفسير آيات غض البصر " ؛ وإنه بمقتضى هذه الآيات يجب أن يكون في غير هذه الأوقات مستورا دائما؛ ولو كان في بيته; لأنه إذا كان الاستئذان لمظنة ظهور العورة في الأوقات الممنوعة إلا باستئذان؛ فمعنى ذلك أنه لا يصح أن يطلع على العورة إذا كشفت؛ حتى الأطفال المميزون؛ ما داموا لم يبلغوا الحلم؛ وعلى ذلك يجب ستر العورة؛ لكي يكون الاستئذان؛ ولا حرج.
وقال (تعالى): طوافون عليكم بعضكم على بعض ؛ " بعضكم " ؛ بدل من " طوافون " ؛ أي: بعضكم يطوف على بعض؛ هذه أوامر هي تعليم من الله؛ وإرشاد؛ وتوجيه إلى ما ينبغي في بيوتهم؛ وكذلك قال (تعالى): كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ؛ أي: كهذا البيان في ذكر ما هو لائق؛ وما تكون عليه الأسرة يبين الله (تعالى) الآيات المتلوة؛ ويوضحها لكم؛ لتقوم الأسر على دعائم من الطهر؛ والمودة والرحمة؛ والله (تعالى) عليم بأحوالكم؛ ظاهرها وباطنها؛ وحكيم فيما شرع ويأمر؛ فهو يبين لكم الأحكام؛ وما يليق بكل حال. [ ص: 5228 ] واللام في قوله (تعالى): ليستأذنكم ؛ هي لام الأمر؛ والأمر للوجوب؛ إلا إذا كان ثمة ما يخرجها عن معنى الوجوب؛ من نص أو قرينة حال.