قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل " ؛ ابتدأ الكلام بعتب؛ واتهام بكفر النعمة؛ أو كفره بألوهيته؛ قال فرعون: قال ألم نربك فينا وليدا ؛ الاستفهام إنكاري بمعنى النفي؛ والمعنى: لقد ربيناك فينا؛ أي في وسطنا؛ مكرما فينا عزيزا؛ أي: خلطناك بأنفسنا خلطا؛ وكأنك منا؛ ولبثت فينا من عمرك سنين ؛ أي: أقمت فينا مختلطا بنا سنين؛ الظاهر أنه بقي فيهم حتى بلغ الرشد؛ وصار شابا سويا؛ يدبر أموره؛ ويعرف غاياته؛ ومقام رب العالمين؛ وخصوصا أن جزءا من التربية كان مع أمه؛ كما قال (تعالى): فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ؛ ويقال: إنه مكث في بيت فرعون إلى أن بلغ ثلاثين سنة؛ والراجح عندنا أنه مكث حتى صار رجلا سويا؛ بدليل ما آتاه الله من قوة عندما استغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه.
ثم ذكر بعد المودة المقربة ما فيه لوم له: وفعلت فعلتك ؛ قرئت بفتح الفاء؛ في " فعلتك " ؛ وكسرها؛ وعلى الفتح تكون للمرة؛ وعلى الكسر تكون للهيئة؛ [ ص: 5346 ] والمعنى في كلتا القراءتين: القتلة التي قام بها [ضد] الرجل القبطي؛ إذ استغاثه الذي من شيعته؛ قال فرعون: وأنت من الكافرين ؛ أي: الكافرين بألوهيته؛ وبأنه لم يكن ليذعن له كما يذعن الذين يعدونه إلها؛ ويقول لهم: ليس لكم من إله غيري؛ وقال بعض المفسرين: المراد كفر النعمة؛ ولا نحسب أن فرعون يرى من كفر نعمته قتل واحد من الرعايا؛ ولو كان ذا صلة به؛ كخادم؛ أو نحوه؛ فموسى فيما أحسب كان أقرب إليه من كل الخدم؛ إذ امرأة فرعون قد اتخذته لها وله ولدا.
لم ينكر نبي الله (تعالى) أنه فعلها؛ كما وصف؛ ولكن أنكر أنه ملوم لكفره به؛ فقال: قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ؛ فعلتها إذ ذاك وأنا من الضالين؛ ضلالا بريئا؛ والضلال البريء يكون بالجهل والنسيان والبعد عن التأني والصبر؛ وأخذ الأمور؛ والاكتفاء في الدفاع عن الحق بأقل الأضرار التي ينزلها بالمعتدي؛ فنبي الله النقي يعترف بأنه لم يسلك طريق الجادة المستقيمة؛ وهذه حال موسى - عليه السلام -؛ و " إذا " ؛ معناها " إذ ذاك " ؛ فالتنوين عوض عن المضاف إليه مرتبا الواقعة على مقدماتها؛ من شر في القبطي؛ أو المصري؛ معترفا بأنه ضال ضلالا بريئا؛ كما ذكرنا.
ولما فعلها فر؛ فقال: ففررت منكم لما خفتكم ؛ الفاء عاطفة؛ وقد ذكر - سبحانه وتعالى - أسباب الفرار؛ وكيف كان في سورة " القصص " ؛ فقال - عز من قائل -: وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين
والفاء في قوله (تعالى): فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين ؛ عاطفة؛ والحكم هو الحكمة؛ أي: التجربة؛ وبعد أن كان غفلا في النعمة في قصر فرعون؛ اكتسب حكمة وتجربة؛ وعمل وكسب؛ فإن الشدة تصقل النفس؛ وتربي الحكمة؛ ووزن الأمور والأفعال؛ ويصح أن يكون الحكم بمعنى الرسالة؛ والأول أولى; لأن التأسيس أولى من التأكيد؛ وجعلني رسولا من المرسلين الذين أرسلهم رب العالمين؛ فقد جعله الله (تعالى) من أولي العزم من الرسل. [ ص: 5347 ] ثم بين كليم الله أن النعمة التي يمن بها عليه هي نعمة سببها أشد النقم; لأنها كانت بسبب إيذائك المطلق لبني إسرائيل؛ مما جعل أمه تلقيه في تابوت في اليم؛ فيكون في قصر فرعون؛ فلولا هذه النقمة الفاجرة ما كانت تلك النعمة التي تمن بها؛ وتستطيل علي بذكرها؛ ولذا قال: وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ؛ الإشارة إلى نعمة التربية وليدا؛ وأنه لبث فيهم من عمره سنين؛ تمنها علي ؛ أي: تمن بها علي أنك عبدت بني إسرائيل؛ وفي هذا إشارة إلى سبب النعمة؛ وهو أنه عبد بني إسرائيل؛ وأذلهم؛ وذبح أطفالهم؛ واستحيا نساءهم؛ فاضطرت أمه إلى ما كان مؤديا بإنعام الله إلى قصره؛ وإشارة أيضا إلى أنه يقابل هذه النعمة إذلاله لقومه بني إسرائيل.