سمع سليمان الملك العظيم الذي آتاه الله (تعالى) علم منطق الطير والنمل؛ وسائر الأحياء؛ كما يبدو من عظم حكمه؛ وتكميل الله (تعالى) لسلطانه؛ فلم يحكم بمجرد السماع؛ بل قال - كما حكى الله (تعالى) عنه -: قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون ؛ كان سليمان ملكا حكيما؛ لا يجعل علمه قيما يقضي فيه من سمعه فقط؛ فإن ذلك أضل الملوك؛ وهو الذي يوصف بأنه أذن؛ فتكون الحاشية وليه الذي يسيطر عليه؛ ولذا قال للهدهد: سننظر ؛ أي أننا نؤكد أننا سننظر في حقيقة ما جئت به إلينا؛ أصدقت أم كنت من الكاذبين؛ الاستفهام فيه إيماء إلى تغليب [ ص: 5450 ] الكذب; لأنه في معادلة الكذب تكلم بما يوهم أنه ربما يكون كاذبا؛ فقال: أم كنت من الكاذبين ؛ فقد ذكر احتمال الكذب بما يفيد قربه؛ فأكده بالوصف بالكذب؛ وبـ " كان " ؛ الدالة على الدوام؛ وبكونه أن يكون من صفوف الكاذبين.
وانتقل نبي الله الملك؛ إلى مقام التيقن؛ فقال له: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون ؛ كما كان الهدهد هو المخبر بحالهم جعله حاملا رسالته إليهم؛ قال له: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ؛ والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقدير القول فيه: " فألقه موصلا له إليهم " .
ولم يتعرض القرآن لبيان طريق توصيل كتاب سليمان إليهم؛ وقد قيل: إنه أوصله من الكوة التي تشرق عليها الشمس منها لتعبدها فيها؛ وقيل: إنه جاء إلى جمعهم؛ وألقى الكتاب المختوم بخاتم الملك لسليمان؛ فألقاه عليهم وهم يجتمعون؛ والله (تعالى) وحده العليم كيف أوصل إليهم الكتاب؛ ولا نتعرض لبيانه؛ لأنه لو لم يعلمنا به الله حق علينا التوقف؛ كما قال (تعالى): ولا تقف ما ليس لك به علم ؛ ثم قال (تعالى): ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون ؛ العطف بـ " ثم " ؛ في موضعه؛ أي: ألقه متأكدا وصوله إليهم؛ وبعد تأكد ذلك تول عنهم وانصرف غير بعيد؛ لتكون مترقبا ماذا يرجعون؛ أي: ماذا يرجعون أو يردون ذلك الخطاب؛ والواقع أنهم لا يرجعون الكتاب؛ إنما يرجعون ما تضمنه الكتاب من دعوة لعبادة الله وحده؛ والاستسلام لسليمان؛ والخضوع لحكمه؛ كما يبين مضمون هذا الكتاب عند استفتاء قومها.