[ ص: 1374 ] وقد أكد سبحانه وتعالى الحكم العادل بعدة تأكيدات منها:التعبير بالإشارة المتضمن السلب من كل قوة كانوا يعتزون بها، ومنها: ذكر مصاحبتهم للنار، ومنها: بيان قصرهم على النار لا يتجاوزونها، ومنها: ذكر الضمير " هم " فهو لتأكيد الحكم. وقد يقول قائل: لماذا لا ينفعهم في الآخرة ما كانوا ينفقون من مالهم في الدنيا، وقد كان منهم جود وسخاء؛ بين الله سبحانه مغبة ذلك الإنفاق وعاقبته، فقال تعالت كلماته:
nindex.php?page=treesubj&link=25987_28902_30364_30515_30551_28974nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=117مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر وفي هذا التشبيه بين سبحانه أن هذا الإنفاق ليس خالصا من الضرر في ذاته، فهو يحمل في ذاته ما يفسده ويجعله ضارا لا نفع فيه، وشرا لا يمازجه خير، فقد شبه سبحانه إنفاقهم في هذه الحياة من حيث اشتماله على الضار، وعدم إثماره وإنتاجه، بالريح التي لا ترسل لواقح، ولا تكون نسيما عليلا تلقي في النفوس بالبشر والحبور، ولا تكون ريحا يحمل للزرع عوامل النماء إذ يكون فيها غذاء، بل يكون فيها ما يميت الزرع والضرع، وهي الريح التي يكون فيها صر، والصر معناه:البرد الشديد المميت للنبات، ومعنى اشتمالها على الصر وصفها به أي أنها ريح صر فهي ريح قارة باردة مهلكة مفنية وليست منمية مبقية، وهنا يرد سؤال: لماذا ذكر الصر على أنه في الريح وأنها مشتملة عليه، وهي له ظرف وهو مظروف؟ وقد أجاب
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري عن ذلك بأنه ضرب من ضروب المبالغة، وبأن " صر " مصدر في أصله فجيء به على أصله، كما تقول: ثوب فيه جمال، والكلام بمعنى " جميل " ، وقد خرج تخريجات أخرى ليست واضحة.
ونحن نرى أن التعبير بقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=117فيها صر يشير إلى أن الرياح فيها بطبيعتها رجاء، ولكنها اشتملت على ما يذهب بخيرها، وفي ذلك وصف من أوصاف من المشبه؛ وذلك لأن الإنفاق في ذاته قد يرجى منه النفع، ويظن فيه، ولكنه اشتمل في ذاته ما يذهب بخيره، ولا ينبت إلا باطلا، وذلك أنه بمقاصده
[ ص: 1375 ] التي لا يقصد بها وجه الله ولا نفع الناس، ولكن يقصد التفاخر والتباهي والتنافر، والاستطالة على الناس بفضول القول، يذهب كل خيره، فالتعبير بقوله سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=117فيها صر فيه إيماء إلى أن الأذى والضرر الذي لابس المشبه وهو الإنفاق لم يكن من ذاته، ولكن من قلب المنفق ونيته، وغايته من الإنفاق، وإن هذا الإنفاق - كما قلنا وكما أشار النص القرآني الكريم - يحمل في ذاته موجب رده، وقد بين سبحانه أنه ضار مؤذ في الشطر الثاني من التشبيه، إذ قال سبحانه في وصف الريح:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=117أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته الحرث هو الزرع، وأصل كلمة " حرث " فلح الأرض وإلقاء البذر فيها، ثم أطلقت في مجاز مشهور على ما هو نتيجة ذلك وهو الزرع، وقد أطلق على كل موضع يكون فيه إنتاج ولو لم يكن أرضا وزرعا، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=223نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم
ومعنى التشبيه في جملته - كما دل على ذلك هذا النص الكريم والنص الذي سبقه - أن حال هذا الإنفاق الذي لم يقصد به وجه الله تعالى بل قصد به التفاخر وكسب الثناء وتحدث الناس بالعطاء، كمثل الريح التي تكون باردة بردا شديدا يتوقع منها الناس الخير لزرعهم، فتهلكه وتبيد خضراءه وتجعله حطاما، والجامع في هذا التشبيه بين المشبه والمشبه به هو أن كليهما كان يرجى خيره، ولكن بما لابسه من ضر وأذى صار مؤذيا.
وفى هذا التشبيه بيان أن الضرر لاحق بهم من هذا الإنفاق، ولاحق بالناس، لأنهم كانوا يعينون به على الشر، إذ كانوا ينفقونه في محاربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإيذاء المؤمنين؛ وهو سبب في استعلائهم واستكبارهم، ولو حرموا المال والإنفاق لكان خيرا لهم.
في النص القرآني إشارة إلى أن
nindex.php?page=treesubj&link=30539_30551الله سبحانه وتعالى يعاقب بالريح من يظلمون أنفسهم بارتكاب المعاصي، فقال سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=117أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته فإن هذا النص السامي يومئ إلى أن الله تعالى يرسل في الدنيا عقابا
[ ص: 1376 ] على أموال الظالمين فيهلكها، ولو اتخذو الأسباب وما يجب اتخاذه من احتياط لحفظ الأموال، وإن ذلك التخريج لا يوجد ما يمنع من قبوله، بل الإذعان له لأن تدبير العبد واحتياطه، لا يمنع تقدير الرب وقضاءه، وإن الريح كانت سببا في نصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الأحزاب، فإن الله تعالى أرسل على المشركين ريحا ألقت الرعب في قلوبهم مع كمال العدة والعدد، وقال تعالى في ذلك:
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=25ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا ولقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "
nindex.php?page=hadith&LINKID=650977نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " .
وإذا كان ذلك ثابتا، فلماذا نستبعد أن يعاقب بعض الظالمين في الدنيا بإصابة حرثهم بريح، لفساد نياتهم، ولاستخدامهم المال في غير مواضعه، وإن الذين يستبعدون ذلك هم الذين يفرطون في الإيمان بالأسباب العملية، ولا يذعنون للأحكام القدرية، وإن الزرع بالذات ليس لأحد أن يدعي أنه يستطيع حمايته من الرياح والآفات، مهما يتخذ من الاحتياط، فإن للأجواء أثرها، وللآفات الوبائية حكمها، ولا سبيل إلى التوقي الكامل منها.
وإذا كان الزرع وغيره مهما يتخذ من احتياط لحفظه لا يتقي الريح والآفات، فإنه لا يصح أن يكون ذلك نتيجة للمصادفة، فإن المصادفة بالنسبة لمداركنا، أما بالنسبة لأعمال الله تعالى فإن كل شيء عنده بمقادير، ومقصود بإرادته السرمدية، وهو يكون ثوابا أو عقابا أو إملاء يملي الله به للظالمين حتى حين، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=183وأملي لهم إن كيدي متين وقد قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=12هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=13ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال [ ص: 1377 ] إذن فالأمر في الريح يصيب الله بها بعض الظالمين لظلمهم حق لا ريب فيه، ولقد أخبر الله تعالى أن
nindex.php?page=treesubj&link=25987الظالم يسيء إلى نفسه دائما، فقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=117وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون والضمير هنا يعود إلى الذين أصيب حرثهم بسبب ظلمهم، أي أن الله تعالى ما ظلمهم بالريح تصيبهم، إنما هم الذين ظلموا أنفسهم بفساد قلوبهم ونيتهم، واعتقادهم أنهم يستطيعون التحكم في القدر، وفي هذا إشارة إلى أولئك
nindex.php?page=treesubj&link=27212الذين أنفقوا في الإفساد للافتخار والخيلاء والاستكبار، في أن الله ما ظلمهم بإبطال إنفاقهم، إنما هم الذين ظلموا أنفسهم بأن تجنبوا إنفاق المال في الحلال بنية الحلال، بل أنفقوه في الحرام، وما أنفقوه في حلال إلا بنية الحرام.
وجوز
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري أن يعود الضمير إلى الذين ينفقون في هذه الحياة، وهو ظاهر كل الظهور. ونضرع إلى الله أن يلهمنا الإنصاف في أقوالنا وأفعالنا، وأن يرزقنا صدق القول، والإخلاص في أعمالنا له، إنه سميع الدعاء.
[ ص: 1374 ] وَقَدْ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحُكْمَ الْعَادِلَ بِعِدَّةِ تَأْكِيدَاتِ مِنْهَا:التَّعْبِيرُ بِالْإِشَارَةِ الْمُتَضَمِّنُ السَّلْبَ مِنْ كُلِّ قُوَّةٍ كَانُوا يَعْتَزُّونَ بِهَا، وَمِنْهَا: ذِكْرُ مُصَاحَبَتِهِمْ لِلنَّارِ، وَمِنْهَا: بَيَانُ قَصْرِهِمْ عَلَى النَّارِ لَا يَتَجَاوَزُونَهَا، وَمِنْهَا: ذِكْرُ الضَّمِيرِ " هُمْ " فَهُوَ لِتَأْكِيدِ الْحُكْمِ. وَقَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: لِمَاذَا لَا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا كَانُوا يُنْفِقُونَ مِنْ مَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ جُودٌ وَسَخَاءٌ؛ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَغَبَّةَ ذَلِكَ الْإِنْفَاقِ وَعَاقِبَتِهِ، فَقَالَ تَعَالَتْ كَلِمَاتُهُ:
nindex.php?page=treesubj&link=25987_28902_30364_30515_30551_28974nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=117مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ وَفِي هَذَا التَّشْبِيهِ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا الْإِنْفَاقَ لَيْسَ خَالِصًا مِنَ الضَّرَرِ فِي ذَاتِهِ، فَهُوَ يَحْمِلُ فِي ذَاتِهِ مَا يُفْسِدُهُ وَيَجْعَلُهُ ضَارًّا لَا نَفْعَ فِيهِ، وَشَرًّا لَا يُمَازِجُهُ خَيْرٌ، فَقَدْ شَبَّهَ سُبْحَانَهُ إِنْفَاقَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ مِنْ حَيْثُ اشْتِمَالُهُ عَلَى الضَّارِّ، وَعَدَمُ إِثْمَارِهِ وَإِنْتَاجِهِ، بِالرِّيحِ الَّتِي لَا تُرْسِلُ لِوَاقِحَ، وَلَا تَكُونُ نَسِيمًا عَلِيلًا تُلْقِي فِي النُّفُوسِ بِالْبِشْرِ وَالْحُبُورِ، وَلَا تَكُونُ رِيحًا يَحْمِلُ لِلزَّرْعِ عَوَامِلَ النَّمَاءِ إِذْ يَكُونُ فِيهَا غِذَاءٌ، بَلْ يَكُونُ فِيهَا مَا يُمِيتُ الزَّرْعَ وَالضَّرْعَ، وَهِيَ الرِّيحُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا صِرٌّ، وَالصِّرُّ مَعْنَاهُ:الْبَرْدُ الشَّدِيدُ الْمُمِيتُ لِلنَّبَاتِ، وَمَعْنَى اشْتِمَالِهَا عَلَى الصِّرِّ وَصْفُهَا بِهِ أَيْ أَنَّهَا رِيحٌ صِرٌّ فَهِيَ رِيحٌ قَارَّةٌ بَارِدَةٌ مُهْلِكَةٌ مُفْنِيَةٌ وَلَيْسَتْ مُنَمِّيَةً مُبْقِيَةً، وَهُنَا يَرِدُ سُؤَالٌ: لِمَاذَا ذُكِرَ الصِّرُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الرِّيحِ وَأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهِ، وَهِيَ لَهُ ظَرْفٌ وَهُوَ مَظْرُوفٌ؟ وَقَدْ أَجَابَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْمُبَالَغَةِ، وَبِأَنَّ " صَرَّ " مَصْدَرٌ فِي أَصْلِهِ فَجِيءَ بِهِ عَلَى أَصْلِهِ، كَمَا تَقُولُ: ثَوْبٌ فِيهِ جَمَالٌ، وَالْكَلَامُ بِمَعْنَى " جَمِيلٍ " ، وَقَدْ خَرَّجَ تَخْرِيجَاتٍ أُخْرَى لَيْسَتْ وَاضِحَةً.
وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ التَّعْبِيرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=117فِيهَا صِرٌّ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الرِّيَاحَ فِيهَا بِطَبِيعَتِهَا رَجَاءٌ، وَلَكِنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مَا يَذْهَبُ بِخَيْرِهَا، وَفِي ذَلِكَ وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافٍ مِنَ الْمُشَبَّهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ فِي ذَاتِهِ قَدْ يُرْجَى مِنْهُ النَّفْعُ، وَيُظَنُّ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ اشْتَمَلَ فِي ذَاتِهِ مَا يَذْهَبُ بِخَيْرِهِ، وَلَا يَنْبُتُ إِلَّا بَاطِلًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ بِمَقَاصِدِهِ
[ ص: 1375 ] الَّتِي لَا يَقْصِدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ وَلَا نَفْعَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْصِدُ التَّفَاخُرَ وَالتَّبَاهِيَ وَالتَّنَافُرَ، وَالِاسْتِطَالَةَ عَلَى النَّاسِ بِفُضُولِ الْقَوْلِ، يَذْهَبُ كُلُّ خَيْرِهِ، فَالتَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=117فِيهَا صِرٌّ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْأَذَى وَالضَّرَرَ الَّذِي لَابِسَ الْمُشَبَّهَ وَهُوَ الْإِنْفَاقُ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَاتِهِ، وَلَكِنْ مِنْ قَلْبِ الْمُنْفِقِ وَنِيَّتِهِ، وَغَايَتِهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ، وَإِنَّ هَذَا الْإِنْفَاقَ - كَمَا قُلْنَا وَكَمَا أَشَارَ النَّصُّ الْقُرْآنِيُّ الْكَرِيمُ - يَحْمِلُ فِي ذَاتِهِ مُوجَبَ رَدِّهِ، وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ ضَارٌّ مُؤْذٍ فِي الشَّطْرِ الثَّانِي مِنَ التَّشْبِيهِ، إِذْ قَالَ سُبْحَانَهُ فِي وَصْفِ الرِّيحِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=117أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ الْحَرْثُ هُوَ الزَّرْعُ، وَأَصْلُ كَلِمَةِ " حَرْثٍ " فَلْحُ الْأَرْضِ وَإِلْقَاءُ الْبَذْرِ فِيهَا، ثُمَّ أُطْلِقَتْ فِي مَجَازٍ مَشْهُورٍ عَلَى مَا هُوَ نَتِيجَةُ ذَلِكَ وَهُوَ الزَّرْعُ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ مَوْضِعٍ يَكُونُ فِيهِ إِنْتَاجٌ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَرْضًا وَزَرْعًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=223نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ
وَمَعْنَى التَّشْبِيهِ فِي جُمْلَتِهِ - كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ هَذَا النَّصُّ الْكَرِيمُ وَالنَّصُّ الَّذِي سَبَقَهُ - أَنَّ حَالَ هَذَا الْإِنْفَاقِ الَّذِي لَمَّ يُقْصَدْ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ قُصِدَ بِهِ التَّفَاخُرُ وَكَسْبُ الثَّنَاءِ وَتَحَدُّثُ النَّاسِ بِالْعَطَاءِ، كَمَثَلِ الرِّيحِ الَّتِي تَكُونُ بَارِدَةً بَرْدًا شَدِيدًا يَتَوَقَّعُ مِنْهَا النَّاسُ الْخَيْرَ لِزَرْعِهِمْ، فَتُهْلِكُهُ وَتُبِيدُ خَضْرَاءَهُ وَتَجْعَلُهُ حُطَامًا، وَالْجَامِعُ فِي هَذَا التَّشْبِيهِ بَيْنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ هُوَ أَنَّ كِلَيْهِمَا كَانَ يُرْجَى خَيْرُهُ، وَلَكِنْ بِمَا لَابَسَهُ مِنْ ضُرٍّ وَأَذًى صَارَ مُؤْذِيًا.
وَفَى هَذَا التَّشْبِيهِ بَيَانُ أَنَّ الضَّرَرَ لَاحِقٌ بِهِمْ مِنْ هَذَا الْإِنْفَاقِ، وَلَاحِقٌ بِالنَّاسِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعِينُونَ بِهِ عَلَى الشَّرِّ، إِذْ كَانُوا يُنْفِقُونَهُ فِي مُحَارَبَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِيذَاءِ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَهُوَ سَبَبٌ فِي اسْتِعْلَائِهِمْ وَاسْتِكْبَارِهِمْ، وَلَوْ حُرِمُوا الْمَالَ وَالْإِنْفَاقِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ.
فِي النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30539_30551اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُعَاقِبُ بِالرِّيحِ مَنْ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، فَقَالَ سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=117أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ فَإِنَّ هَذَا النَّصَّ السَّامِيَ يُومِئُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرْسِلُ فِي الدُّنْيَا عِقَابًا
[ ص: 1376 ] عَلَى أَمْوَالِ الظَّالِمِينَ فَيُهْلِكُهَا، وَلَوِ اتَّخَذُو الْأَسْبَابَ وَمَا يَجِبُ اتِّخَاذُهُ مِنَ احْتِيَاطٍ لِحِفْظِ الْأَمْوَالِ، وَإِنَّ ذَلِكَ التَّخْرِيجَ لَا يُوجَدُ مَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِهِ، بَلِ الْإِذْعَانُ لَهُ لِأَنَّ تَدْبِيرَ الْعَبْدِ وَاحْتِيَاطَهُ، لَا يَمْنَعُ تَقْدِيرَ الرَّبِّ وَقَضَاءَهُ، وَإِنَّ الرِّيحَ كَانَتْ سَبَبًا فِي نُصْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ رِيحًا أَلْقَتِ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ مَعَ كَمَالِ الْعُدَّةِ وَالْعَدَدِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=25وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا وَلَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: "
nindex.php?page=hadith&LINKID=650977نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ " .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا، فَلِمَاذَا نَسْتَبْعِدُ أَنْ يُعَاقَبَ بَعْضُ الظَّالِمِينَ فِي الدُّنْيَا بِإِصَابَةِ حَرْثِهِمْ بِرِيحٍ، لِفَسَادِ نِيَّاتِهِمْ، وَلِاسْتِخْدَامِهِمُ الْمَالَ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهِ، وَإِنَّ الَّذِينَ يَسْتَبْعِدُونَ ذَلِكَ هُمُ الَّذِينَ يُفْرِطُونَ فِي الْإِيمَانِ بِالْأَسْبَابِ الْعَمَلِيَّةِ، وَلَا يُذْعِنُونَ لِلْأَحْكَامِ الْقَدَرِيَّةِ، وَإِنَّ الزَّرْعَ بِالذَّاتِ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ حِمَايَتَهُ مِنَ الرِّيَاحِ وَالْآفَاتِ، مَهْمَا يَتَّخِذْ مِنَ الِاحْتِيَاطِ، فَإِنَّ لِلْأَجْوَاءِ أَثَرَهَا، وَلِلْآفَاتِ الْوَبَائِيَّةِ حُكْمُهَا، وَلَا سَبِيلَ إِلَى التَّوَقِّي الْكَامِلِ مِنْهَا.
وَإِذَا كَانَ الزَّرْعُ وَغَيْرُهُ مَهْمَا يُتَّخَذْ مِنَ احْتِيَاطٍ لِحِفْظِهِ لَا يَتَّقِي الرِّيحَ وَالْآفَاتِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَتِيجَةً لِلْمُصَادَفَةِ، فَإِنَّ الْمُصَادَفَةَ بِالنِّسْبَةِ لِمَدَارِكِنَا، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِأَعْمَالِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمَقَادِيرَ، وَمَقْصُودٌ بِإِرَادَتِهِ السَّرْمَدِيَّةِ، وَهُوَ يَكُونُ ثَوَابًا أَوْ عِقَابًا أَوْ إِمْلَاءً يُمْلِي اللَّهُ بِهِ لِلظَّالِمِينَ حَتَّى حِينٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=183وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=12هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=13وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [ ص: 1377 ] إِذَنْ فَالْأَمْرُ فِي الرِّيحِ يُصِيبُ اللَّهُ بِهَا بَعْضَ الظَّالِمِينَ لِظُلْمِهِمْ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَلَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=25987الظَّالِمَ يُسِيءُ إِلَى نَفْسِهِ دَائِمًا، فَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=117وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَالضَّمِيرُ هُنَا يَعُودُ إِلَى الَّذِينَ أُصِيبَ حَرْثُهُمْ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا ظَلَمَهُمْ بِالرِّيحِ تُصِيبُهُمْ، إِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِفَسَادِ قُلُوبِهِمْ وَنِيَّتِهِمْ، وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ التَّحَكُّمَ فِي الْقَدَرِ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أُولَئِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=27212الَّذِينَ أَنْفَقُوا فِي الْإِفْسَادِ لِلِافْتِخَارِ وَالْخُيَلَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ، فِي أَنَّ اللَّهَ مَا ظَلَمَهُمْ بِإِبْطَالِ إِنْفَاقِهِمْ، إِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنْ تَجَنَّبُوا إِنْفَاقَ الْمَالِ فِي الْحَلَالِ بِنِيَّةِ الْحَلَالِ، بَلْ أَنْفَقُوهُ فِي الْحَرَامِ، وَمَا أَنْفَقُوهُ فِي حَلَالٍ إِلَّا بِنْيَةِ الْحَرَامِ.
وَجَوَّزَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ كُلَّ الظُّهُورِ. وَنَضْرَعُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُلْهِمَنَا الْإِنْصَافَ فِي أَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا صِدْقَ الْقَوْلِ، وَالْإِخْلَاصَ فِي أَعْمَالِنَا لَهُ، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاءِ.