ولقد كان المشركون بعنادهم المستمر ومقاتلتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بعد فتنتهم يوغلون في الكفر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - تذهب نفسه عليهم حسرات، فهو لا يخاف منهم، ولكن يشفق، ويتمنى أن يجيئوه مؤمنين، بدل أن يأخذهم مقتولين، ولقد نهاه سبحانه عن الحزن عليهم فقال تعالى: ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا والمعنى لا يحزنك ولا تكن في نفسك حسرة على الذين يسارعون في الكفر، أي: يوغلون فيه وينتقلون من درجة إلى درجة فينتقلون من الضلال والجحود إلى التضليل، ومن التضليل إلى الفتنة ثم القتال، ثم التدبير الخبيث والمكر السيئ، ولقد فسر كلمة " يسارعون في الكفر " بمعنى الوقوع فيه سريعا من غير تريث وتدبر وتفكير، والأول عندي أوضح؛ لأن الكلام ليس في الذين وقعوا فيه من جديد، وإنما هو في الذين مردوا عليه وأوغلوا فيه واستمروا عليه، والنهي عن الحزن نهي عن الاسترسال فيه، ونهي عن أسبابه، وهو الظن بغلبة الضلال على اليقين والكفر والإيمان، ولقد طمأن الله- تعالى- نبيه تأكيدا للنهي، ونفيا لمبرراته، فقال سبحانه: الزمخشري
إنهم لن يضروا الله شيئا أي: إنهم مهما يتماد شرهم وطغيانهم وفتنتهم الناس عن دينهم، فلن يضروا الله شيئا من الضرر ولو صغيرا. فلن ينقص كفرهم [ ص: 1516 ] من سلطان الله، ولن يزيد إيمانكم من سلطان الله تعالى، فالله غالب قاهر فوق عباده، فعظمة الله لا ينقصها كفر، وقد زكى سبحانه النهي عن الحزن بأمر آخر وهو بيان أن الله أراد لهؤلاء ما هم عليه، وإن كان باختيارهم، ولذا قال سبحانه: يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة أي أنه لا يصح أن تحزن لمسارعتهم في الكفر وانحدارهم في مهاويه؛ لأن الله- سبحانه- هو الذي لم يجعل لهم حظا في الآخرة، فما عصوا الله- تعالى- غالبين لإرادته، بل عصوا بإرادتهم وإرادته سبحانه، وإن كان لا يرضى لعباده الكفر، وفرق ما بين الرضا والإرادة، فالله سبحانه وتعالى لم يرد أن يجعل لهم حظا في الآخرة، ولكنه لا يحب الكفر ولا يرضاه.
فالمعنى أن في الآخرة ولهم بدل الحظ من الخير عذاب عظيم، ولذلك قال سبحانه: " ولهم عذاب عظيم " ، لتهديدهم بما يستقبلهم فوق الخزي العظيم في الدنيا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار. كفرهم ليس مراغمة لله - سبحانه - حتى تحزن وإنما هو بإرادته؛ لأنه أراد ألا يكون لهم حظ من الخير