[ ص: 1608 ] واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما
ابتدئت سورة النساء ببيان العلاقة الإنسانية التي تربط الناس بعضهم ببعض، وتثبت أن الناس جميعا أمة واحدة بحكم الخلق والتكوين، وكان ذلك هو الذي ينبغي، ولكنهم اختلفوا من بعد. وبعد الإشارة إلى هذا المعنى الإنساني الجامع، بين - سبحانه - حق الضعفاء على المجموع، ثم أخذ يبين سبحانه حقهم في الأسرة، ووجوب رعايتهم.
وفي هذه - الآيات التي نتلوها، يتجه النص الكريم إلى إقامة دعائم الأسرة، التي هي خلية التكوين الإنساني، وخلية البناء الاجتماعي، والمهد الذي يتربى فيه. [ ص: 1609 ] النوع تربية يكون بها الإلف والائتلاف مع المجتمع الذي ينشأ فيه. وقد ابتدأ بإبعاد ما من شأنه إفساد بناء الأسرة، وهو الفاحشة، فإن مثل من يبني الأسرة كمثل من يبني قصرا مشيدا، ينقي أولا مواد البناء من العناصر التي لا تجعله قويا متماسكا، أو تكون مواد تنقض بناءه، ولذا قال سبحانه وتعالى:
واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فحش معناها زاد، وأطلق على الزيادة التي لا تسر، وأطلق على القبيح من الأفعال؛ لأنه انحراف عن الفطرة. وقد جاء في مفردات الراغب: " الفحش والفحشاء والفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال " ، وقال تعالى: إن الله لا يأمر بالفحشاء وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي من يأت منكن بفاحشة مبينة إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا إنما حرم ربي الفواحش إلا أن يأتين بفاحشة مبينة كناية عن الزنا، وكذلك قوله تعالى: واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم
فالفاحشة هنا هي الزنا، والله سبحانه وتعالى يعبر عن هذه المعاني التي لا تألفها النفس الكريمة بعبارات تسترها، فتكون الكناية بدل التصريح، وذلك من تأديب الله لنا في التعبير.
وقد ذكر سبحانه وتعالى علاج النساء اللائي وقعن في ذلك الأمر المنكر، وقد سماه بهذا الاسم كما سماه بأنه " إد " ، فكان علاجهن بأمرين أحدهما - يختص بهن، والثاني - يشتركن مع الرجال فيه، فأما الذي يختص بهن فهو إمساكهن في البيوت، وليس الإمساك معناه الحبس والتضييق المجرد، بل الإمساك [ ص: 1610 ] معناه الحفظ والصيانة والرعاية، ويتضمن ذلك معنى الإرشاد والتوجيه والوعظ، ولذا قال الراغب: إمساك الشيء التعلق به وحفظه، قال تعالى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وقال: ويمسك السماء أن تقع على الأرض أي: يحفظها. فمعنى الإمساك في البيوت الحفظ فيها والرعاية والتهذيب بعطف؛ وذلك لأن المرأة تزل إذا فقدت التهذيب، وحرمت من الصيانة فتنطلق غير مقيدة، إذا لم يكن لها هاد مرشد وإذا كان ذلك سبب الزلل، فعلاج الانحراف بالإمساك في البيوت مع الحفظ والرعاية. ويستمر الإمساك حتى الوفاة، أو حتى الزواج، كما قال: فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا أي طريقا واضحا لمنع الزلل والابتعاد عنه، وذلك بتحصين نفسها بالزواج.
وكثيرات من النساء يقعن فريسة لشائعات كاذبة، ولذلك والرمي بالزنا أفحش ما ترمى به المرأة والرجل، فقرر أن يكون بشهادة أربعة من الرجال بحيث لا تقبل في ذلك شهادة النساء، وقرر أن تكون الشهادة بالمعاينة لا بالسماع، ولذا قال: شدد الله تعالى في إثبات الزنا أبلغ ما يكون التشديد، فإن شهدوا أي: إن ذكروا أنهم عاينوا وشهدوا فأمسكوهن في البيوت ولحماية الشارع لعرض المرأة من أن يكون مضغة في الأفواه - فقال تعالى: قرر عقوبة شديدة لمن يرمي النساء والرجال من غير أن يكون أربعة يشهدون، والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون
هذا هو العلاج الوقائي الذي خص القرآن به المرأة، حتى لا تستمر في غيها، وذلك هو طريق الإثبات، أما العلاج الذي يشمل الرجل والمرأة، فهو ما جاء في قوله تعالى: