[ ص: 1723 ] nindex.php?page=treesubj&link=19827_28723_28861_32455_33536_34447_34449_28975nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=59يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا
* * *
ضاع اليهود بأمرين: أولهما أنهم كانوا لا يؤدون الأمانات، كما قال تعالى في أكثرهم:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=75ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل [آل عمران ].
الأمر الثاني الذي أضاع بني إسرائيل في الماضي، أنهم لا يقيمون العدل إذا حكموا كما قال سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=53أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا [النساء]، فبالظلم ذهب ملكهم في الماضي، وسيذهب في الحاضر إن شاء الله تعالى. وإذا كانت الخيانة قد أفسدت أمرهم، والظلم قد أذهب سلطانهم، فعلى المؤمنين أن يقيموا علاقاتهم على دعائم الأمانة والعدالة; ولذا قال سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها هذا أمر عام للمؤمنين جميعا، لا يختص به راع دون الرعية، ولا قوي دون ضعيف، ولا غني دون فقير.
وقد أسند الأمر إلى الله تعالى بقوله تعالت كلماته مؤكدا أمره
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58إن الله يأمركم وذلك لتأكيد الأداء فضل تأكيد بهذا التصريح، وذلك أن الأمر من قبل الله سبحانه مضافا إليه أمر مؤكد، كما يقال لتأكيد الأمر للعبد بالطاعة: سيدك
[ ص: 1724 ] يأمرك بكذا، ولله المثل الأعلى في أوامره ونواهيه، وذلك فوق التأكيد بـ(إن) في صدر النص الكريم.
والأمانة مصدر بمعنى المفعول، فالمراد بالأمانة ما يؤتمن الإنسان عليه، وقد جمعها سبحانه بقوله تعالى: (الأمانات) لتشمل كل ما يؤتمن الإنسان عليه من علم، ومال، وودائع، وأسرار، وغير ذلك مما يقع في دائرة الائتمان وتنبغي المحافظة عليه. ومعنى أدائها إلى أهلها توصيلها إلى ذويها كما هي، من غير بخس ولا تطفيف. فالعالم يؤدي أمانة العلم من غير تزيد عليها، ولا تحريف لها; لأن التزيد طمس لمعالم العلم، والتحريف تبديل للحق. فمن أوتي علما بالقرآن لا يؤوله لهوى في نفسه، بل يقدمه للناس من غير تحريف للكلم عن مواضعه.
والحكم أمانة في أعناق الحكام، عليهم أن يؤدوا الأمانة فيه بإقامة العدل، وتوخي المصلحة، وتجنب الفساد، سواء أكان فسادا معنويا، أم كان فسادا ماديا، والأول أعلى أنواع الفساد، والثاني أدناها. ومن أمانة الحكم ألا يشقوا على الرعية، وألا يفسدوا ضمائرهم، ولا يزعجوهم بالتظنن والتتبع ما داموا مؤمنين مذعنين، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=12يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا [الحجرات]. وإذا كانت رعاية الأمانات وأداؤها واجبا مفروضا على الأمة كلها، حاكمها ومحكومها، وأنها متفاوتة المراتب، فإن الحاكم قد اختص بواجب آخر هو العدل، وهو من نوع الأمانة التي اختص بها، ولذا قال سبحانه بعد الأمر بأداء الأمانات:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل قال بعض العلماء: إن الخطاب في هذا النص موجه إلى الذين يحكمون، وهم الحكام من ولاة وقضاة وغيرهم ممن يلون الحاكم ، ولا مانع عندنا من أن يكون الخطاب موجها للأمة كلها; لأن الأمة العزيزة غير الذليلة التي تتولى أمور نفسها من غير تحكم من ملك أو طاغ قاهر، هي محكومة ومحكمة، فهي التي تختار حاكمها، وهي في هذا محكمة،
[ ص: 1725 ] مطلوب منها العدل، فلا تختار لهوى، أو لعطاء ، أو لمصلحة شخصية أيا كان نوعها. وهي محكمة في حاكمها فلا تقول فيه إلا حقا، ولا تطالبه إلا بما هو حق لا جور فيه، ولا تشتط في نقده، ولا تسكت عن نصيحته. فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول:
nindex.php?page=hadith&LINKID=657090 "الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".
والعدل معناه في أصل اللغة المثيل، وأطلق في مقام الحكم بمعنى أن يكون الحكم مساويا لما يستوجبه، فإذا ارتكب شخص جرما كان الحكم النازل مساويا للجرم المرتكب، وإذا كان الحكم بدين وجب أن يكون مساويا لما أخذ من غير زيادة، وهكذا. وإن العدل أنواع مختلفة، وله وسائل متباينة، وإذا كان مطلوبا في ذاته فوسائله يجب أن تتحقق فيها العدالة أيضا،
nindex.php?page=treesubj&link=7643_19836_15082وأخص أنواع العدالة عدالة القاضي في حكمه، وهي تتطلب أمورا أربعة: أولها: معرفة حكم الشرع والقانون فيما يقضى فيه. ثانيها; معرفة موضوع القضية معرفة متقص لأطرافها مستوعب لكل أجزائها. وثالثها: أن يبعد الهوى من نفسه، وأن ينظر دائما نظرا غير متحيز.
ورابعها: أن يسوي بين الخصمين في كل شيء، وقد جاء في تفسير
فخر الدين الرازي عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ما يأتي: "قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي -رضي الله عنه-:
nindex.php?page=treesubj&link=20268_19836ينبغي للقاضي أن يسوي بين الخصمين في خمسة أشياء: في الدخول عليه، والجلوس بين يديه، والإقبال عليهما، والاستماع منهما، والحكم عليهما. . ولا ينبغي أن يلقن واحدا منهما حجته، ولا شاهدا شهادته; لأن ذلك يضر بأحد الخصمين. ولا يلقن المدعي الدعوى والاستخلاف، ولا يلقن المدعى عليه الإنكار والإقرار، ولا يلقن الشهود أن يشهدوا أو لا يشهدوا.
nindex.php?page=treesubj&link=7686وعدالة الحاكم الأكبر تقتضي الرفق بالرعية، وألا يعمل إلا ما فيه مصلحة، وأن يمنع الرشوة، وألا يولي أحدا ممن دونه لهوى أو غرض! فلا يوسد الحكم لمن
[ ص: 1726 ] دونه إلا لمن هو أهل له، ولقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظروا الساعة".
nindex.php?page=treesubj&link=19840_32455والأمانة واجبة سواء أكان من ائتمنك عادلا أم كان جائرا، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول:
nindex.php?page=hadith&LINKID=910066 "أد الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك". ومن المقررات في الفقه الإسلامي أن الظالم لا يظلم.
nindex.php?page=treesubj&link=19829والعدل مطلوب في ذاته، يستوي في ذلك المسلم وغير المسلم، فقد قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=8ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى [المائدة].
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا الوعظ معناه التذكير بالخير والتحذير من الشر، بما يرق له القلب، ويخضع له الوجدان. و(ما) هنا إما نكرة بمعنى شيء، أو موصول، والمعنى واحد، وإن اختلف التخريج النحوي. ومؤدى النص أن الله جلت حكمته وهو العليم بكل شيء يأمركم بالأمانة والعدالة ولنعم هما شيئا خطيرا جليلا ذا أثر عظيم في حياتكم العامة والخاصة، يذكركم به ويدعوكم إليه، فأداء الأمانات وإقامة العدالة، بهما تقوم الأمم، وعليهما تبنى دعائم العزة والكرامة الإنسانية، فهما ممدوحان دائما، ولا ينتج عنهما إلا خير، ولا ينتج عن تركهما إلا شر.
[ ص: 1727 ] وإن الله تعالى إذ يأمركم بذلك الخير العميم نفعه يراقبكم في تنفيذه، وإنه لن يترككم ولن يخليكم من العقاب إن لم تقوموا به، ولذلك ذيل الآية الكريمة بقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58إن الله كان سميعا بصيرا أي إن الله تعالى يعلم أحوالكم علم من يسمع، فهو يسمع خطرات نفوسكم وحركات قلوبكم، وعلم من يبصر، فهو يرى أعمالكم. هو إذن يسمع كلمة الحق نطق بها القاضي، وكلمة الرعية يختارون بها راعيهم، بالأمانة والصدق والإخلاص، ويرى عمل الوالي إذا عدل، فيجزيه بالحسنى، وعمله إذا ظلم أو شق على رعيته أو أرهقها من أمرها عسرا، فيأخذه سبحانه بظلمه إن ظلم. ويرى سبحانه الأمة وهي تقصر في حقوقها، ولا ترعى واجب الأمانة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع الظالم من ظلمه، فيفسد أمرها، ويتحقق فيها قول النبي الأمين: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن قلوب بعضكم ببعض ثم تدعون فلا يستجاب لكم"!.
وإذ كان العدل، وجبت الطاعة لولي الأمر مقرونة بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله; لأنها مشتقة من طاعتهما، ولذا قال تعالى:
* * *
[ ص: 1723 ] nindex.php?page=treesubj&link=19827_28723_28861_32455_33536_34447_34449_28975nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=59يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا
* * *
ضَاعَ الْيَهُودُ بِأَمْرَيْنِ: أَوَّلُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أَكْثَرِهِمْ:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=75وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آلِ عِمْرَانَ ].
الْأَمْرُ الثَّانِي الَّذِي أَضَاعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْمَاضِي، أَنَّهُمْ لَا يُقِيمُونَ الْعَدْلَ إِذَا حَكَمُوا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=53أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا [النِّسَاءِ]، فَبِالظُّلْمِ ذَهَبَ مُلْكُهُمْ فِي الْمَاضِي، وَسَيَذْهَبُ فِي الْحَاضِرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا كَانَتِ الْخِيَانَةُ قَدْ أَفْسَدَتْ أَمْرَهُمْ، وَالظُّلْمُ قَدْ أَذْهَبَ سُلْطَانَهُمْ، فَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقِيمُوا عَلَاقَاتِهِمْ عَلَى دَعَائِمِ الْأَمَانَةِ وَالْعَدَالَةِ; وَلِذَا قَالَ سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا هَذَا أَمْرٌ عَامٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا، لَا يَخْتَصُّ بِهِ رَاعٍ دُونَ الرَّعِيَّةِ، وَلَا قَوِيٌّ دُونَ ضَعِيفٍ، وَلَا غَنِيٌّ دُونَ فَقِيرٍ.
وَقَدْ أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَتْ كَلِمَاتُهُ مُؤَكِّدًا أَمْرَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ وَذَلِكَ لِتَأْكِيدِ الْأَدَاءِ فُضِّلَ تَأْكِيدٌ بِهَذَا التَّصْرِيحِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مُضَافًا إِلَيْهِ أَمْرٌ مُؤَكَّدٌ، كَمَا يُقَالُ لِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ لِلْعَبْدِ بِالطَّاعَةِ: سَيَدُكُّ
[ ص: 1724 ] يَأْمُرُكَ بِكَذَا، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَذَلِكَ فَوْقَ التَّأْكِيدِ بـِ(إِنَّ) فِي صَدْرِ النَّصِّ الْكَرِيمِ.
وَالْأَمَانَةُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، فَالْمُرَادُ بِالْأَمَانَةِ مَا يُؤْتَمَنُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ، وَقَدْ جَمَعَهَا سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (الْأَمَانَاتِ) لِتَشْمَلَ كُلَّ مَا يُؤْتَمَنُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ مِنْ عِلْمٍ، وَمَالٍ، وَوَدَائِعَ، وَأَسْرَارٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ فِي دَائِرَةِ الِائْتِمَانِ وَتَنْبَغِي الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى أَدَائِهَا إِلَى أَهْلِهَا تَوْصِيلُهَا إِلَى ذَوِيِهَا كَمَا هِيَ، مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ وَلَا تَطْفِيفٍ. فَالْعَالِمُ يُؤَدِّي أَمَانَةَ الْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ تَزَيُّدٍ عَلَيْهَا، وَلَا تَحْرِيفٍ لَهَا; لِأَنَّ التَّزَيُّدَ طَمْسٌ لِمَعَالِمِ الْعِلْمِ، وَالتَّحْرِيفَ تَبْدِيلٌ لِلْحَقِّ. فَمَنْ أُوتِيَ عِلْمًا بِالْقُرْآنِ لَا يُؤَوِّلْهُ لِهَوًى فِي نَفْسِهِ، بَلْ يُقَدِّمُهُ لِلنَّاسِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ.
وَالْحُكْمُ أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِ الْحُكَّامِ، عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَةَ فِيهِ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ، وَتَوَخِّي الْمَصْلَحَةِ، وَتَجَنُّبِ الْفَسَادِ، سَوَاءً أَكَانَ فَسَادًا مَعْنَوِيًّا، أَمْ كَانَ فَسَادًا مَادِّيًّا، وَالْأَوَّلُ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْفَسَادِ، وَالثَّانِي أَدْنَاهَا. وَمِنْ أَمَانَةِ الْحُكْمِ أَلَّا يَشُقُّوا عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَأَلَّا يُفْسِدُوا ضَمَائِرَهُمْ، وَلَا يُزْعِجُوهُمْ بِالتَّظَنُّنِ وَالتَّتَبُّعِ مَا دَامُوا مُؤْمِنِينَ مُذْعِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=12يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الْحُجُرَاتِ]. وَإِذَا كَانَتْ رِعَايَةُ الْأَمَانَاتِ وَأَدَاؤُهَا وَاجِبًا مَفْرُوضًا عَلَى الْأُمَّةِ كُلِّهَا، حَاكِمِهَا وَمَحْكُومِهَا، وَأَنَّهَا مُتَفَاوِتَةُ الْمَرَاتِبِ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ قَدِ اخْتَصَّ بِوَاجِبٍ آخَرَ هُوَ الْعَدْلُ، وَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْأَمَانَةِ الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا، وَلِذَا قَالَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْخِطَابَ فِي هَذَا النَّصِّ مُوَجَّهٌ إِلَى الَّذِينَ يَحْكُمُونَ، وَهُمُ الْحُكَّامُ مِنْ وُلَاةٍ وَقُضَاةٍ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَلُونَ الْحَاكِمَ ، وَلَا مَانِعَ عِنْدَنَا مِنْ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مُوَجَّهًا لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا; لِأَنَّ الْأُمَّةَ الْعَزِيزَةَ غَيْرَ الذَّلِيلَةِ الَّتِي تَتَوَلَّى أُمُورَ نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ تَحَكُّمٍ مِنْ مَلِكٍ أَوْ طَاغٍ قَاهِرٍ، هِيَ مَحْكُومَةٌ وَمُحَكَّمَةٌ، فَهِيَ الَّتِي تَخْتَارُ حَاكِمَهَا، وَهِيَ فِي هَذَا مُحَكَّمَةٌ،
[ ص: 1725 ] مَطْلُوبٌ مِنْهَا الْعَدْلُ، فَلَا تَخْتَارُ لِهَوًى، أَوْ لِعَطَاءٍ ، أَوْ لِمَصْلَحَةٍ شَخْصِيَّةٍ أَيًّا كَانَ نَوْعُهَا. وَهِيَ مُحَكَّمَةٌ فِي حَاكِمِهَا فَلَا تَقُولُ فِيهِ إِلَّا حَقًّا، وَلَا تُطَالِبُهُ إِلَّا بِمَا هُوَ حَقٌّ لَا جَوْرَ فِيهِ، وَلَا تَشْتَطُّ فِي نَقْدِهِ، وَلَا تَسْكُتُ عَنْ نَصِيحَتِهِ. فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=657090 "الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ".
وَالْعَدْلُ مَعْنَاهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْمَثِيلُ، وَأُطْلِقَ فِي مَقَامِ الْحُكْمِ بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُسَاوِيًا لِمَا يَسْتَوْجِبُهُ، فَإِذَا ارْتَكَبَ شَخْصٌ جُرْمًا كَانَ الْحُكْمُ النَّازِلُ مُسَاوِيًا لِلْجُرْمِ الْمُرْتَكَبِ، وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ بِدَيْنٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِمَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَهَكَذَا. وَإِنَّ الْعَدْلَ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَلَهُ وَسَائِلُ مُتَبَايِنَةٌ، وَإِذَا كَانَ مَطْلُوبًا فِي ذَاتِهِ فَوَسَائِلُهُ يَجِبُ أَنْ تَتَحَقَّقَ فِيهَا الْعَدَالَةُ أَيْضًا،
nindex.php?page=treesubj&link=7643_19836_15082وَأَخَصُّ أَنْوَاعِ الْعَدَالَةِ عَدَالَةُ الْقَاضِي فِي حُكْمِهِ، وَهِيَ تَتَطَلَّبُ أُمُورًا أَرْبَعَةً: أَوَّلُهَا: مَعْرِفَةُ حُكْمِ الشَّرْعِ وَالْقَانُونِ فِيمَا يُقْضَى فِيهِ. ثَانِيهَا; مَعْرِفَةُ مَوْضُوعِ الْقَضِيَّةِ مَعْرِفَةَ مُتَقَصٍّ لِأَطْرَافِهَا مُسْتَوْعِبٍ لِكُلِّ أَجْزَائِهَا. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُبْعِدَ الْهَوَى مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يَنْظُرَ دَائِمًا نَظَرًا غَيْرَ مُتَحَيِّزٍ.
وَرَابِعُهَا: أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيرٍ
فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِّيِ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ مَا يَأْتِي: "قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-:
nindex.php?page=treesubj&link=20268_19836يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَالْجُلُوسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِمَاعِ مِنْهُمَا، وَالْحُكْمِ عَلَيْهِمَا. . وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُلَقِّنَ وَاحِدًا مِنْهُمَا حُجَّتَهُ، وَلَا شَاهِدًا شَهَادَتَهُ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ. وَلَا يُلَقِّنُ الْمُدَّعِي الدَّعْوَى وَالِاسْتِخْلَافَ، وَلَا يُلَقِّنُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْإِنْكَارَ وَالْإِقْرَارَ، وَلَا يُلَقِّنُ الشُّهُودَ أَنْ يَشْهَدُوا أَوْ لَا يَشْهَدُوا.
nindex.php?page=treesubj&link=7686وَعَدَالَةُ الْحَاكِمِ الْأَكْبَرِ تَقْتَضِي الرِّفْقَ بِالرَّعِيَّةِ، وَأَلَّا يَعْمَلَ إِلَّا مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَأَنْ يَمْنَعَ الرِّشْوَةَ، وَأَلَّا يُوَلِّيَ أَحَدًا مِمَّنْ دُونَهُ لِهَوًى أَوْ غَرَضٍ! فَلَا يُوَسِّدِ الْحُكْمَ لِمَنْ
[ ص: 1726 ] دُونَهُ إِلَّا لِمَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ، وَلَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظَرُوا السَّاعَةَ".
nindex.php?page=treesubj&link=19840_32455وَالْأَمَانَةُ وَاجِبَةٌ سَوَاءً أَكَانَ مَنِ ائْتَمَنَكَ عَادِلًا أَمْ كَانَ جَائِرًا، فَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=910066 "أَدِّ الْأَمَانَةَ لِمَنِ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ". وَمِنَ الْمُقَرَّرَاتِ فِي الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ أَنَّ الظَّالِمَ لَا يُظْلَمُ.
nindex.php?page=treesubj&link=19829وَالْعَدْلٌ مَطْلُوبٌ فِي ذَاتِهِ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُسْلِمُ وَغَيْرُ الْمُسْلِمِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=8وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [الْمَائِدَةِ].
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا الْوَعْظُ مَعْنَاهُ التَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الشَّرِّ، بِمَا يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ، وَيَخْضَعُ لَهُ الْوِجْدَانُ. وَ(مَا) هُنَا إِمَّا نَكِرَةٌ بِمَعْنَى شَيْءٍ، أَوْ مَوْصُولٌ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَ التَّخْرِيجُ النَّحْوِيُّ. وَمُؤَدَّى النَّصِّ أَنَّ اللَّهَ جَلَّتْ حِكْمَتُهُ وَهُوَ الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ يَأْمُرُكُمْ بِالْأَمَانَةِ وَالْعَدَالَةِ وَلَنِعْمَ هُمَا شَيْئًا خَطِيرًا جَلِيلًا ذَا أَثَرٍ عَظِيمٍ فِي حَيَاتِكُمُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، يُذَكِّرُكُمْ بِهِ وَيَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، فَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ وَإِقَامَةُ الْعَدَالَةِ، بِهِمَا تَقُومُ الْأُمَمُ، وَعَلَيْهِمَا تُبْنَى دَعَائِمُ الْعِزَّةِ وَالْكَرَامَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَهُمَا مَمْدُوحَانِ دَائِمًا، وَلَا يَنْتِجُ عَنْهُمَا إِلَّا خَيْرٌ، وَلَا يَنْتِجُ عَنْ تَرْكِهِمَا إِلَّا شَرٌّ.
[ ص: 1727 ] وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذْ يَأْمُرُكُمْ بِذَلِكَ الْخَيْرِ الْعَمِيمِ نَفْعُهُ يُرَاقِبُكُمْ فِي تَنْفِيذِهِ، وَإِنَّهُ لَنْ يَتْرُكَكُمْ وَلَنْ يُخَلِّيَكُمْ مِنَ الْعِقَابِ إِنْ لَمْ تَقُومُوا بِهِ، وَلِذَلِكَ ذَيَّلَ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا أَيْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَحْوَالَكُمْ عِلْمَ مَنْ يَسْمَعُ، فَهُوَ يَسْمَعُ خَطِرَاتِ نُفُوسِكُمْ وَحَرَكَاتِ قُلُوبِكُمْ، وَعِلْمَ مَنْ يُبْصِرُ، فَهُوَ يَرَى أَعْمَالَكُمْ. هُوَ إِذَنْ يَسْمَعُ كَلِمَةَ الْحَقِّ نَطَقَ بِهَا الْقَاضِي، وَكَلِمَةَ الرَّعِيَّةِ يَخْتَارُونَ بِهَا رَاعِيَهُمْ، بِالْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ، وَيَرَى عَمَلَ الْوَالِي إِذَا عَدَلَ، فَيَجْزِيهِ بِالْحُسْنَى، وَعَمَلَهُ إِذَا ظَلَمَ أَوْ شَقَّ عَلَى رَعِيَّتِهِ أَوْ أَرْهَقَهَا مِنْ أَمْرِهَا عُسْرًا، فَيَأْخُذُهُ سُبْحَانَهُ بِظُلْمِهِ إِنْ ظَلَمَ. وَيَرَى سُبْحَانَهُ الْأُمَّةَ وَهِيَ تُقَصِّرُ فِي حُقُوقِهَا، وَلَا تَرْعَى وَاجِبَ الْأَمَانَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَنْعِ الظَّالِمِ مِنْ ظُلْمِهِ، فَيَفْسَدُ أَمْرُهَا، وَيَتَحَقَّقُ فِيهَا قَوْلُ النَّبِيِّ الْأَمِينِ: "لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا أَوْ لَيَضْرِبَنَّ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ"!.
وَإِذْ كَانَ الْعَدْلُ، وَجَبَتِ الطَّاعَةُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ مَقْرُونَةً بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَةِ رَسُولِهِ; لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ طَاعَتِهِمَا، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:
* * *