* * *
ابتدأ سبحانه وتعالى بأعلى النعم التي أنعم بها عليهم ، وهي نعمة الإنقاذ من شر من في الوجود إبان ذلك ، وهو فرعون الذي اتخذه الفساق الظالمون من الحكام قدوة يقتدون به في مظالمه ، وإن لم يستطيعوا أن يصلوا إلى أن ينتصروا في الحروب مثل انتصاره في عصره .
أنقذهم الله تعالى على يد موسى كليم الله من بطش فرعون ، وقد كان بطشه شديدا بهم ، لأنهم كانوا يعدون أجانب في مصر ، وكانوا أعداء لهم ، فكان فرعون يتخذ السبيل لإفنائهم ، أو إضعافهم ، فكان يقتل شبابهم ذبحا ، ويبقي النساء ، ويقول سبحانه وتعالى : وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب .
قال سبحانه وتعالى : وإذ نجيناكم أي اذكروا الوقت الذي أنجيناكم فيه من آل فرعون ، فإذا تدل على الوقت الماضي ، ومعنى ذكر الوقت ذكر ما كان فيه من أحداث خطيرة وشديدة ، واستحضار الأهوال التي كانوا يعيشون في بأسائها ، [ ص: 225 ] وضرائها ، وإنه تقدر النجاة من الله تعالى بمقدار ما كان هول الأمر الذي نجاهم الله تعالى منه .
ولقد قال تعالى : آل فرعون ولم يقل أنجاكم من فرعون ، وذلك لأن آله شيعته ونصراؤه وأعوانه ، وطغاة الدنيا يكون شرهم من أنفسهم أولا ، ومن حاشيتهم الذين يحطون على أهوائهم ثانيا ، فيزينون لهم ظلمهم ، ويسمونه عدلا ويبينون له وجوه الكيد ، ويمكرون مكرهم ، فلولا بطانة السوء ما كان السوء ، ولولا حاشية فساق الحكام ما استمكنوا ، وما طغوا في البلاد ، وكلمة حق من حاشيتهم تقيم عدلا ، وتدفع ظلما .
لذلك عبر بآل فرعون ، لأنه لم يستمكن وحده من الظلم .
وذكر سبحانه ما كان يفعله فرعون وآله ، فقال سبحانه : يسومونكم سوء العذاب أي يذيقونكم سوء العذاب ويجعلونه ملازما لكم لا تفارقونه ، ولا يفارقكم ، ويقال : سامه خطة خسف ، وأولاه خطة خسف ، أي جعل ولايته خسفا وعسفا ، ولقد قال عمرو بن كلثوم الفارس العربي :
إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا أن نقر الخسف فينا
وسوء العذاب أشد سوءا وأثرا في النفوس ، ويديمونه ; لأن " سام " تدل على الدوام ، ومن ذلك السائمة التي تديم الرعي في الكلأ ، وبين سبحانه وتعالى هذا العذاب الهون فقال مبينا : يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم فهم يعملون على إفناء الذكور ، وإبقاء النساء .
والتعبير بـ يذبحون أبناءكم كناية عن العمل على إفنائهم وتخضيد شوكتهم وإبعادهم عن مواطن السلطان ، وذلك بذبحهم أحيانا ، ووضعهم في مواضع الذل والمهانة ، والغاية ألا يكون لهم وجود قائم بذاته ، فقد حكى عنهم أن فرعون كان [ ص: 226 ] يذبح منهم ، وكان يتخذ منهم عمالا مسخرين في الأبنية التي يشيدها ، وكان يسخرهم لحرث الأرض ، والثمرة لغيرهم ليذلهم ، وكان يتخذ منهم خدما في البيوت وهم الأرذلون .
وذكر الذبح بالذات ، وهو إحدى وسائل فرعون لسوء العذاب الذي كان يذيقه إياهم لأنه أشدها هولا ، ولأن إفناءهم هو الغاية ، وهو أقرب طرقه ، وهو المصدر لما كانوا عليه من الآلام .
وقوله تعالى : ويستحيون نساءكم أي أبقوهن أحياء لم يذبحوهن ، وكانوا راغبين في ذلك ، ولذلك كانت السين والتاء اللتان تدلان على الطلب ، والمعنى طلبوا حياة نسائهم لغايات في نفوسهم وليشبعوا بهن شهواتهم ، وقد بين الله تعالى أن ذلك هول شديد تختبر به نفوسهم ; ولذلك قال تعالى : وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم الإشارة هنا إلى هذا العذاب الشديد السيئ ، والخطاب لهم ، ولأن الإشارة إلى ما نزل بهم جعل الخطاب لهم لا بالكاف المفردة بل بالكاف وعلامة خطاب الجمع ، وبلاء معناه الاختبار الشديد لتتربى نفوسهم على التحمل ، ولبث الرحمة في قلوبهم ، لأنه لا تكون الرحمة إلا بالآلام الشديدة التي يحس بها الشخص فيرحم غيره ، فإنه لا تنبع الرحمة إلا من قلب أحس بالآلام ، وتربى في أحضانها فلا يكون قاسيا على الناس ، ويكون رحيما بهم ، فكان هذا البلاء الفرعوني تربية لنفوسهم لتكون بارة ; ولذلك قال : من ربكم أي من الله الذي خلقكم ، وربكم بعنايته وحماكم بكلاءته ، ووصفه سبحانه وتعالى بأنه عظيم لكبر هوله ، وبعد أثره .
وإن الله تعالى مكن فرعون منهم لكي يعلموا أنهم ليس لهم فضل لذواتهم ، ولكن لما هيأهم الله تعالى لتلقي رسالته ، وتبليغ كلمته ، وهي كلمة التوحيد ، والعمل بالأوامر الإلهية .
ولقد بين الله سبحانه وتعالى كيف نجاهم بقدرته الإلهية القاطعة في الدلالة على إخراجهم من ظلمات القهر والطغيان إلى نور العدالة والإيمان ، فقال تعالى : [ ص: 227 ] وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون والمعنى اذكروا ذلك الوقت الذي فرقنا أي أوجدنا شقا طوليا في البحر من ساحل مصر إلى ساحل سيناء ، وقد كان متصل الأجزاء ، وسطحا لا فرقة فيه ولا انشقاق ، فسرتم فيه ، كأن الماء قد افترق على قدر حاجتكم ، وسرتم فيه آمنين مطمئنين ، وسار وراءكم الذين عذبوكم ، ودبروا السوء لكم ، وذبحوا أبناءكم ، واستحيوا نساءكم لأهوائهم ، وهم آل فرعون الذين ناصروه وأيدوه ، وقد ازدلفوا من ورائكم فأغرقهم ، وأنتم تنظرون إلى تدبير الله تعالى ، وإعجازه ، وأنتم ترونه رأي العين لا بالخبر والسماع .
وقد فصل الله سبحانه وتعالى تلك النجاة وذلك الإغراق وما أحاط بهما بعض التفصيل ، فقال تعالت كلماته في سورة الشعراء : وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل فأتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم .
نجا بنو إسرائيل ، وظهرت آيتان ; إحداهما أن موسى عليه السلام ضرب البحر بعصاه ، فانشق وانفلق ، وكان كل فرق من أقسامه ، كأنه الجبل العظيم من الماء .
والثانية أن هذا كان على قدر مسير بني إسرائيل بقيادة موسى عليه السلام ، وظن فرعون وآله أن الطريق مفتوح لهم ، كما فتح لبني إسرائيل ، فساروا وراءهم فانطبق البحر عليهم ، وكانوا مغرقين .
[ ص: 228 ] كانت هذه النجاة بمعجزة من الله تعالى كافية لإيمان الكافر حتى إن فرعون قال آمنت بالذي آمن به بنو إسرائيل ، وإن كان لم ينفعه إيمانه ، كما قال تعالى : وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون . نزل بنو إسرائيل أرض سيناء التي انبعث فيها نور الرسالة الموسوية . وكان حقا أن يكونوا أول المؤمنين ، ولكن الله أخبر أنه لم يكن أكثرهم مؤمنين مع هذه المعجزات الحسية الباهرة ، وكانوا قد ألفوا عبادة العجل من غير بينة ولا دليل بل قلدوا المصريين تقليدا في عباداتهم ، وتأثروا طريقهم ، وألفوا ما ألفوه هم ، وإن الهوى والوهم هما اللذان سيطرا على نفوسهم ، فضلوا بضلالهم ، ولذلك صنعوا عجلا من الحلي ; وجعلوه في مهب الريح ، فكانت الريح إذا مرت به كان له خوار كخوار العجل الحي ; ولذلك قال تعالى : وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون هذا ما كان منهم كفرا بالنعم التي أنعم الله تعالى بها عليهم ، وفيها الدلالة القاطعة مع النعم الظاهرة ، ومع ذلك قلدوا المصريين في عبادتهم .
واعد الله تعالى نبيه موسى عليه السلام على أن يترك بني إسرائيل لتلقي التوراة ، وفيها الألواح العشرة التي تتضمن التكليفات التي كلف الله تعالى بني إسرائيل .
فتركهم فتحرك فيهم ما ألفوه من عبادة العجل ، كما كان يعبد المصريون العجل وقد جعل لهم السامري ذلك العجل من الذهب ، وكان عجلا جسدا لا حياة فيه ، ولكن كان له خوار أي صوت كصوت البقر ، إذا مرت الريح في التجاويف التي صنعت فيه ، وقد ذكر الله تعالى هذا العجل المصنوع ببعض قليل من البيان في [ ص: 229 ] سور أخرى ، وذكر عنهم الله تعالى في هذه السورة أنهم عبدوه ، وأن هارون أخا موسى وردءه في الرسالة نهاهم عن العبادة ، وقد خلفه موسى فيهم ، فقال تعالى حكاية في ذلك : ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى . وذكر تمام ذلك في سورة طه : وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي قال فما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا .
* * *
وقد نسبت العبادة إلى كلهم ، والذي عبد العجل بعضهم ; لأن الذين لم يعبدوا لم ينهوا غيرهم فكانوا مثلهم كما قال تعالى فيهم : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون .
[ ص: 230 ] ومعنى لنحرقنه أي نحكه ونبرده ثم بعد برده لننسفنه في اليم نسفا ، وذلك كقولهم حرق الأرم أي حكها حكا شديدا .
هذا خبر عبادتهم العجل ، وكيف كانت وذلك لتأثرهم طريق المصريين ، وسلوكهم طريق الأوهام التي سلكوها . وقوله : واعدنا موسى أربعين ليلة فيها قراءتان : إحداهما (وعدنا موسى ) ، والقراءة الأخرى : (واعدنا موسى ) ، وإن المواعدة لا تكون إلا بين طرفين ، وذلك بعيد عن الله تعالى ، ولذا قيل إن معنى واعدنا ليس المفاعلة التي تكون بين طرفين ، بل معناها وعدنا ، وقد تستعمل صيغة فاعل في غير معنى المفاعلة ، كقولهم داويت العليل ، وعالجت المريض ، وعاقبت المجرم .
وعندي أن المواعدة على معناها وهي من الله الوعد ، ومن موسى التلقي والاستجابة وإنجاز ما وعد الله .
توالت نعمة الله تعالى ، ولكنهم فتنوا بما كان عليه المصريون الأقوياء ، وكانوا هم الضعفاء ، والضعيف دائما مأخوذ بتقليد القوي ، فسرى ما عند الأقوياء ، وهم قوم فرعون إلى الضعفاء ، وكانوا يشعرون بالمذلة والاستكانة ، وشعروا من بعد بأنهم ذلوا ، فتابوا وتاب الله تعالى عليهم وعفا عنهم ، وعد الله تعالى ذلك عليهم نعمة ، فقال تعالى : ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون .
أي أن هذه الجريمة الكبرى ، وهي الإشراك بالله تعالى ما كانت لتغفر ، ولكن الله تعالى عفا عنها ، والتعبير هنا بـ (ثم ) الدالة على التراخي والبعد ، لبيان بعد ما كان منهم عن أن ينالوا من بعده عفو الله تعالى ، ولكنه سبحانه وتعالى تواب رحيم وسعت رحمته كل شيء ما دامت التوبة قد حصلت .
[ ص: 231 ] وهنا نجده سبحانه وتعالى عبر بالعفو ، ولم يعبر بالغفران وقبول التوبة ، وذلك لأن العفو يكون عما وقع بجهالة ، وهم كانوا في حال جهالة ، لتأثرهم بما كان عند المصريين من عادات جاهلية ، ولأنهم خرجوا من ذل المعاصي إلى عزة الحق ، فكان العفو أدنى إليهم ، لأنهم كانوا في فتنة .
وقوله من بعد ذلك الكفران ، والفتنة التي أضلتهم ، فالإشارة إلى البعيد ، لبعد ما ارتكبوا عن موجب العفو الذي نالوه ، فهم كفروا كفرانا مبينا ، ولكن التوبة تجب ما قبلها ، ولم يكن الخطاب بالجمع لأن فتنة العجل لم تكن منهم أجمعين ، بخلاف ما كان يسومهم به فرعون وآله من عذاب ، فقد كان يعمهم ، ولا يخص فريقا .
وقوله تعالى : لعلكم تشكرون ، لعل هنا للرجاء ، والرجاء هنا من العبيد لا من الله ، والمعنى : عفونا عنكم لتكون حالكم حال الرجاء لشكر الله تعالى ، فالرجاء لأمر يقع أو لا يقع إنما هو من شأن الناس ، ولا يمكن أن يكون من الله تعالى الذي يعلم ما يقع وما لا يقع ، ولا يغيب عن علمه شيء في الأرض ، ولا في السماء ، والله سميع عليم .
أو يكون الرجاء من الله تعالى ، ويكون بمعنى الأمر ، كما يقول السيد لخادمه فعلت معك كذا وكذا رجاء أن تعترف بالجميل ، وتشكر لي حسن صنيعي ، فهذا يكون حثا على فعل الجميل ، بذكر موجبه ، وعلى هذا المعنى تكون (لعلكم ) في مقام التعليل لوجوب الشكر ، وتكون بمعنى : لكي تشكروا ، إن كنتم لا تكفرون بالنعمة ، ولكن تشكرونها .
وبعد أن بين الله تعالى أنه سبحانه وتعالى عفا عنهم ، مع عظيم ما ارتكبوا ، وأنه سبحانه يدعوهم إلى شكره ، وأن حالهم حال من يوجب على نفسه الشكر ، بعد ذلك ذكر الله تعالى أنهم قد صاروا في منزلة ليست كمنزلة فرعون وقومه ، وآله الذين ناصروه ، ومالئوه في كفره ، ولم يرشدوه أو يوجهوه إلى طريق الهداية ; لأنهم ببعث [ ص: 232 ] موسى عليه السلام إليهم ، قد صاروا أهل كتاب ، ولذا ذكرهم الله تعالى بنعمة النبوة فيهم فقال تعالى : وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان يذكرهم الله تعالى بنعمه عليه بأن آتاه سبحانه وتعالى الكتاب ، وهو التوراة ، وفيها أحكام الله تعالى ، وأنهم بها يخرجون من حكم الطاغوت الظالم الذي يسيطر عليه هوى فرعون وأوهامه والذي كان لا يرعى في عذابكم عهدا ولا ذمة ، ولا خلقا ، ولا مراعاة ، تخرجون من هذا إلى حكم الله تعالى بكتاب تتقيدون بأحكامه حكاما ومحكومين ، فلا يفرط عليكم حالكم ولا يطغى كما كان بشأن في فرعون لعنه الله تعالى .
والفرقان هو الكتاب نفسه ، وهو التوراة ، فهي كتاب مكتوب لا تخالف أحكامه ، ومسجل عليكم ، وهو ميثاق الله تعالى ، وهو مع هذه الحال فارق بين الحق والباطل وحكم الله تعالى ، وحكم فرعون ، فالتعبير بالفرقان إشارة إلى أنه قد نزل عليهم ما هو مفرق بينهم ، وبين ما كانوا فيه ، فإذا كانت المعجزة الباهرة أن الله تعالى فرق لكم البحر فخرجتم ، فقد فرق بينكم وبين طغيان فرعون بحكمه السماوي ، الذي لا يخالطه باطل ولا ظلم .
وإن هذا الكتاب هو سبيل هدايتكم ، ولذا قال سبحانه لعلكم تهتدون ، أي رجاء أن تهتدوا بهداية الله تعالى ، فالرجاء منهم ، أو الرجاء من الله تعالى على معنى أن حالهم فيما أنزل إليهم ، وفيما جاءهم من الآيات حال من يرجون الهداية ، أو أن ذلك أمر لهم بالهداية ، وهم على رجاء منها .
* * *